التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تركة الرجل العربي المريض

من سوتشي إلى أستانة إلى وارسو أو جنيف، تسافر حقائب القضايا العربية العالقة، تتنازعها أهواء القوى السياسية والأدوار الأجنبية الملتبسة، ويخبو فيها النفس العربي الذي يفترض أن يكون حامي العروبة وحارس إنسانها المستضعف.
الخميس 2019/02/28
كانت المنطقة العربية في لحظة تأسيسية سابقة، جزءاً من الجغرافيا العثمانية المستعدة للتفتيت، حين وهنت السلطة في قلب النظام الحاكم في تركيا، وأحاطت بها القوى المتنفذة على حدودها المتسعة أكثر من طاقتها على التماسك.
وأخذت القوى الطامعة تشحذ قواتها وتحشد طاقاتها لاقتسام ما سمي وقتئذ بتركة “الرجل المريض”، فجأة استيقظت القومية التركية من قمقمها، ونهض مصطفى كمال أتاتورك من تحت رماد الخلافة الذابلة للحفاظ على بيضة أمته الطورانية.
لكن الحصة العربية من هذه التركة الجاهزة للتقاسم، تُركت أو نبذت لتواجه مصيرها وحيدة، وقد بلغ بها استبداد السلطة العثمانية حداً لا يطاق، استنزفت قدراتها ونكّل بنخبتها ونزفت حتى الموت على مقصلة الأممية الزائفة.
ولحظة حان التقاسم المرير، بقيت عزلاء من أي عون أو مؤونة للمقاومة وانتزاع حق تقرير المصير، إلا من ثورة عربية ربطت مصيرها ومسارها بالقوى الكبرى، التي سرعان ما أنكرت التزاماتها وانكبّت تجمع شتات أو فتات نصيبها من هذه الجغرافيا المنتهكة.
على كل حال، فُرضت الحلول من الخارج، وانتهى الحال بهذه الخرائط المتناثرة من الدول الوليدة تحت رايات الاحتلال الأجنبي، حتى وقرت الحدود واستقرت واقعاً معاشاً لا يأنفه أحد، ثم انتظمت الحياة على هدى الاستقلالات المتتابعة لبلدان العالم العربي، والاعترافات الرسمية بحدودها وبعواصمها وبشعوبها، كيانات مستقلة ذات هوية وسيادة ومصير معلوم.
لكن اليد العابثة والمسؤولية المهدرة، لم تتوقف عن فعل فعلتها في هذه الجغرافيا النازفة. انقضت عقود من الزمن البائس الذي عصف بالمنطقة، وكان زمنا زاخرا بالمناسبات السياسية المختلفة، والمنعرجات السارة والضارة، حتى انتهى بها الحال اليوم، مستسلمة لمرحلة من التغيير التي قد تطال كل شيء، من الحدود وحتى الأعماق النافذة في بطون هذه الأرض.
ربما انتهت عاصفة التقسيم التي كانت تلمع نذرها في سماء المنطقة، إذ حافظت حدود سايكس-بيكو على استقرارها واستمرارها، رغم عاديات الظروف وصوارف الزمن الراهن الصعب، خرجت سوريا وليبيا من عنق زجاجة التقسيم التي كادت تحلّ عليهما، ولم ينجح تنظيم داعش في انتهاك حدود العراق بعد أن هدم بشكل رمزي تلك السدود الترابية التي فصلت بين العراق وسوريا، العراق نفسه تجاوز اختبار انفصال إقليم كردستان المرير وتم تأجيله لوقت لاحق، وكذا بشأن مصر والبحرين التي تبحث إيران عن فرص لالتهامها واليمن بنزعات جنوبه النهمة.
لو كُتبت هذه العبارات في تلك اللحظة التأسيسية الماضية، سيكون مريعاً القبول بحدود سايكس-بيكو المختلقة، أما وقد أصبحت اليوم من أخف الضررين، وآلية مستقرة للتعامل داخل منظومة الجغرافيا العربية، ومنصة لتعزيز حالة الدولة فيها، ووقفاً لحالات النزيف الجغرافي، وضمانة لظروف الاستقرار المنتج والمشجع للتنمية وحفظ بيضة العرب، فإن صونها وحمايتها من أوجب الواجبات، وكل سعي لثقب سقف الأمر الواقع سيجرّ الكوارث على المنطقة التي لا تخلو من دواعي الانهيار.
تمرّ المنطقة بمرحلة شديدة الحرج، شيء يشبه التيه الكبير، يقترب مما كانت عليه في تلك اللحظة التأسيسية الماضية، من هشاشة الأوضاع وانفلات الأحداث، وما كانت هذه الظروف العسيرة تنذر به من نتائج تغيّر من وجه المنطقة وتعبث بنظامها.
تعاني المنطقة من انسداد سياسي، وعجز عن إيجاد الحلول التي تعالج إشكالاتها القائمة، واستمرار ظاهرة الثروات المهدرة، سواء تلك المكتنزة في باطنها أو الدائبة على ترابها، ومن ذلك الإنسان العربي الذي تستبد به الظروف وتخنقه، فيهاجر من أرضه طريداً في القوارب المهملة وفي طوابير المطارات الغاصّة بأوجاع الانتظار.
تتداعى الأطماع الخارجية لنهب المنطقة المستباحة عبر مشاريع الاستنزاف والأشكال الجديدة من استعمار القوى النافذة، فلا تعنّ المكونات المحلية لاختراق حالة الانغلاق إلا أفسدتها التدخلات أو تناولتها إغراءات الرعاية الأجنبية.
يتجلى هذا أكثر مع الهويات الجزئية التي تتنفس تحت رماد الأوطان المفترضة. تبتعث تلك القوميات الصغيرة هوياتها من ركام الماضي وتنفخ فيه من روح أحلامها المؤجلة، وتخلق ندوباً وثغرات لنفاذ الآخرين إلى عجين الوطن والعبث به، وعندما تفسد طبختها ويندلق مرجلها، تتحول هذه الفئويات البائنة إلى بيادق متحفزة لزيادة تهتك النسيج الوطني وتفتيت نواته الصلبة.
ولعل أظهر ملامح التشابه مع المرحلة التأسيسية- ما قبل إقرار الأوطان القائمة- هي مؤتمرات تحديد المصير التي تتناوب عليها الدول والقوى الأجنبية لتقرير ما تنتهي عليه أوضاع بلد عربي ما. يكون الأمر أكثر قسوة وبشاعة عندما تجتمع حول الطاولة قوى سياسية لا تجد بينها عربياً واحداً لرسم مستقبل بلد عربي قح.
من سوتشي إلى أستانة إلى وارسو أو جنيف، تسافر حقائب القضايا العربية العالقة، تتنازعها أهواء القوى السياسية والأدوار الأجنبية الملتبسة، ويخبو فيها النفس العربي الذي يفترض أن يكون حامي العروبة وحارس إنسانها المستضعف.
كون الكثير من الملفات تنجز خارج المنطقة، بما يعطي “عواصم القرار البديل” الفرصة واسعة لهندسة الجغرافيا وآليات الحل، فإنها ستشحن بمصالح الآخرين وليس بما يلبي حاجات ومتطلبات الداخل، وستستمر الأزمة في عثراتها الدائمة بلا خروج من النفق أو نهاية لطريق المآسي، وكأن هذه المنطقة مكتوب عليها الإقامة طويلاً في هذا الظلام البهيم والليل العتيم، ولا ينبث الأمل اليتيم إلا من محاولات شجاعة لعواصم عربية حيّة مثل الرياض وأبوظبي تحاول أن ترمم محيطها المتداعي، وتستعيد للعرب بعضاً من دورهم المفقود ومستقبلهم المولود.

الرابط :




تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائياً ع

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم، ومن

ماذا يخطر في بالك ( 5 ) ؟

هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) . راجياً لكم النفع والفائدة  . ضعف التقدير يقود إلى سوء التقرير . .................. كلما كان واقعك ثرياً وغنياً ، بارت بضاعة خيالك الواهم . …………… إذا أحببت شيئاً ثم التقيت به بعد غياب فكأن الروح ردت إليك بعد غيبة الموت ، أو العقل عاد بعد جنون ، أو الذاكرة استفاقت بعد غيبة . كل الأشياء الرمادية تسترجع ألوانها الزاهية ، والروائح الزاكية تستجرّ عنفوانها ، والمشاعر اللذيذة تستعيد عافيتها . ما يفعله الشوق بك من ذهاب العقل وغيبة الذاكرة وموات الروح ، يفعل بك الوصل أضعافه من الفرح والطرب والنشوة . لقد جُبل هذا القلب على الإلف بما يحبه والتعلق به حتى يكون بمثابة الطاقة الموصولة بألياف الكهرباء ، أو الزيت الذي يقدح النور ، والجمر الذي يستفز أعواد البخور . وإذا غاب المحبوب واستبد بك الشوق انطفأ نور الوجه وضاقت النفس وذهب الفرح حتى يعرف ذلك في حدة طبعك وانغلاق عقلك وعبوس وجهك ، فإذا التقى المحبوبان والتأم القلب عادت المياه لمجاريها وشعشع الوجه واتسع الثغر وانفرجت الأسارير . سبحان من خلق . ……………… إذا كنت تسم