التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ما بعد كورونا : إعادة تعريف " البيت"

بفعل التدابير المتخذة دولياً جرّاء جائحة كورونا، أصبحنا نقضي الكثير من الوقت في بيوتنا، بالأحرى كل الوقت، في حال استمرت الأوضاع طويلاً أو انفرجت الأزمة، فإنها كانت فرصة ثمينة، سيكون لها ما بعدها، لاكتشاف جاهزية بيوتنا لاستقبالنا كل هذا الوقت، واتساعها مادياً ومعنوياً لاحتضان حياة كاملة بين جدرانها وفي أركانها.

لا تذكّرنا ظروف الجائحة، بقيمة البيت، فهذا ليس جديداً على الذهنية التقليدية، ولكنها تنبهّنا إلى جودة تعريفنا للبيت، وظيفته، استيعابية تصميمه لتلبية حاجاتنا الأصلية والمستجدة، حالة التواصل بين أفراده بما يؤهله ليكون مصدر راحة لا انزعاج، وموضعته في الثقافة العامة من حيث حيويته في دعم الواجبات الكبرى للمجتمع.

لا ينبغي أن ننظر إلى البيوت بعد الآن، كمحطة معيشة هامشية في ترتيبنا الحياتي، بل أكثر من ذلك بوصفه ضامناً لحياة مكتملة، إذ تتقلص مع الوقت أسباب الاضطرار للخروج من البيت لقضاء الشروط الحياتية المهمة، التبضع والتعلم والعمل أضحت الآن متاحة وممكنة وربما مقتصرة على البوابات الإلكترونية المشرعة في الشاشات الصغيرة بدون مشقة وعناء الخروج والزحام وطوابير الانتظار.

هذا وإن كان يبدو مريحاً في التصور الأول، لكنه مدعاة لإعادة تصميم استجابتنا لنوع حياة أقل تحركاً واحتكاكاً بالخارج والآخرين، بما يستدعيه ربما من قصور اجتماعي يقلص من علاقاتنا ويعمّق شعورنا بالوحدة والانعزال، وانسحاب قد تزيد حدته من الفضاء العام وتكون له مضارّ غير متوقعة على الصحة النفسية والسويّة الحياتية.
فحسب ما يرى الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار، في كتابه "جَماليات المكان" فإن البيت رمز للألفة المحمية الذي يتعدّى في كونه مجرّد مكانٍ ليصبح ظاهرةً نفسية ذات أبعاد عديدة.

فأصبح من الضروري الآن أن نعيد ترتيب أولوياتنا في وجهة نظرنا إلى البيوت التي نبنيها أو سنسكنها، بحيث تساعد في بناء ذاكرة جماعية مفعمة وحيوية، وأن نغير في المبادئ التي كانت تفرضها الثقافة السائدة دون أن نتجرأ على تلبية رغباتنا أو احتياجاتنا الخاصة، مثل زيادة الأماكن المشتركة، والاعتدال في مجالس الضيافة.

لو وضَع أحدنا ساعة مؤقت لحساب كم يقضي من الوقت وأين داخل البيت، ربما سيكتشف أن الكثير من أركان البيت الذي اقتطعت أجزاءاً أكبر من الموارد المالية والمساحة المكانية، بقيت مهجورة ومقفلة أغلب الوقت، وأن تلك التي كانت محل جلوسهم الدائم لم تحظى بنفس القدر من التركيز التصميمي والمساحة الواسعة أو الكافية على الأقل.

أضحى شكل الحياة الجديد، والمتغير باستمرار يفرض تصوراً متطوراً للبيت، فهو وإن يتضاءل مساحة وحجماً، فإنه يتسع دوراً وتتبلور وظيفته باستمرار، فالكثير من شروط الحياة الضرورية أخذت تتقلص وتنسحب من الخارج، وتندرج ضمن الأجندة المنزلية وتنضمّ إلى قائمة واجبات البيت، ابتداءاً من المهام التقليدية له من المأكل والمأوى والاجتماع، إلى بيئة وظيفية وتعليمية وترفيهية وربما إنتاجية.

الأمر الذي يتطلب مواكبة واعية من جهة، وضغطاً قاسياً من جهة ثانية على بعض الفئات التي لا تساعدها قدراتها الاقتصادية على تحقيق استجابة متساوية مع هذا الفضاء المتزامن حولها، وعزاؤه في ذلك أن السهولة واليُسر التي توفرها التقنية الحديثة قد تختصر عليها شقاء التفاوت الاقتصادي، وتردم فجوة العجز المالي بالبدائل المتاحة والميسورة والتي أرست قواعد مساواة حديثة وتفتيت الطبقية الجائرة.




الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...