التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الثورة على العادات

لدي قناعة أكيدة ترسخت منذ سنوات أن أغلب مشكلاتنا نتيجة عدم فهم الأمور على حقيقتها وعدم الإلمام بكنه المشكلات ولب القضايا ، ولذلك فإن أكثر المفكرين والمتخصصين ينادون قبل كل خطوة في حل قضية نازلة إلى فهم تفاصيلها وتحليلها .

وقد شكى عليّ غير واحد ولا أخفي عليكم منهم من يتصدر أهم المؤسسات في مجتمعنا الصغير من الواقع الذي يعيشه وحجم الضياع الذي يحيط به ، ولو تناولت تفاصيل مشاكله الحياتية وجدتها سخيفة وبسيطة .
لكن الإشكال الحقيقي تعاطيه معها بكثير من السطحية والبساطة وهذا يعود إلى جملة من الأسباب ومن أهمها قلة ثقافته وضآلة معرفته إلى جانب عدد من الأسباب الشخصية والعامة .
إن مسيرة التغيير على الصعيد الشخصي والخارجي بحاجة إلى التعامل معها بكثير من العمق والانغماس في لبابها وسبر غورها ، ولا يجدي العمل مع ظواهرها السطحية وأشكالها الخارجية التي لا تعبر عن حقيقتها واستئصالها لا يعود بالفائدة على الإطلاق .
وإن كثيراً مما يعوق تقدمنا خطوات للأمام ويحول دون أن نقترب من الطموحات التي رسمناها بالأمل والحلم والإرادة الجازمة ، هي منظومة من العادات الحياتية وقيد من الروتين الغليظ الذي يخنق رغبتنا للنجاح والظفر بالانتصار .
فمثلاً مشكلة استنزاف الوقت الرهيب الذي يخنق المساحات الجادة من حياتنا هو في حقيقته عبارة عن عدد من الارتباطات الفارغة التي تأتي من قبيل المجاملة والنفاق الاجتماعي والالتزامات التي لا تعنينا في شيء سوى الهروب من اللوم الذي لا يضر .
إنها ولادة العلاقات التي تأخذ أكثر مما تعطي والأشخاص الذين يعرقلون مسيرتنا نحو النجاح بكثرة التكاليف الباهظة بدون أدنى استحقاق .
كذلك الورطات المالية واختناقات الإفلاس و( الطفرة ) هي جريرة عدد من التقاليد البالية التي يتكلفها المرء في مجتمع لم يتجاوز التفكير في صغائر الأمور والنأي عن الاهتمامات العظيمة .
إن النظر إلى الأمور بعمق يهيئ لنا معالجة كثير من الإشكالات بنجاح واقتدار ، أما ما يظهر منها ويشكل ملامحها فهو إنما شيء من تبعاتها أو إفرازاتها والعمل على مثل هذه الإفرازات لا يجدي نفعاً ولا ينهي المشكلة .
هكذا تتراكم العادات الموروثة التي تضخمت نتيجة لتعاقب الزمان عليها والجهل الذي يطبق على الأجيال والخشية من الثورة عليها حتى لا يبحر عكس التيار فتطاله يد الجماعة المنقادة بهدوء وإذعان نحو التزام لم ينزل الله به من سلطان .
حتى تدني قيمة العلم والاستزادة منه نتيجة لكثير من محاولات التجهيل والتسطيح التي يمارسها المجتمع بدون وعي في مقولات سارية أو توصيات مفروضة أو اعتقاد يتبنى نشره المثبطون والبطونيون .
على اعتبار أن طلب العلم لا يجدي و( الشطارة و الجدعنة ) لمن يبحث عن لقمة عيشه و ( يسنّع نفسه ويقابل قبالها ) أجدى له من ( المعقّد ) الذي يجالس الكتب ويعقد معها صحبة دائمة لا يقطعه عنها مخلوق .
حتى إن كثيراً من الأمثال والحكم التي لا تتصل بحكمة حقيقية وأدنى نفع وتقولها بعض من المتشائمة والمخذّلين نزلت حكم الصحة والغلبة وتكفلت بإنباءك عن مستقبلك والكشف عن حياتك .
والحفاظ على الصدق والصراحة والنزاهة والفضيلة أصبح فكرة حمقاء ، لأن الذكي من يجيد التملص من الحرج ومواقف الشدة والمسؤولية حتى لو كذب وداهن .
والفطن الذي يحرص على مصلحته حتى الجشع والإضرار بالغير ، ويطلبها على حصان من الدجل والغش والزور لأن حيازة الخير والرزق تحتاج إلى ( فهلوة ) وقوة تتجاوز المبادئ وتزاحم الفضيلة لكأنهما لا يجتمعان أبداً .
وتتكرر التوصيات من الآباء والأمهات أن يكون ابنهم على قدر من الحذق والفطنة ليأخذ حقوقه من الناس ويطالب بحظه من الدنيا بالقوة على اعتبار أنها لا تأخذ إلا مراغمة ولجاجاً ذلك لأن أحداً ما ينازعك ويقلل من حظوظك في حيازة الخير ونيله ، والحق أنه عدو متوهم وشخص لا وجود له على وجه البسيطة .
حتى نعود إلى مصاف الأمم الزاحفة نحو التمدن والتحضر والتنور علينا أن ننقم على كل موروث يأتي بالعار ويكبل أحلامنا دون التحقيق ، علينا أن نعترف بالحقيقة رغم مرارتها ونثور على العادات التي تأبى على مواهبنا وطاقاتنا أن تتفجر وتأتي لنا بالسعادة في الدنيا والآخرة

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...