التخطي إلى المحتوى الرئيسي

فصول في الحب

لقد اعتاد الكتاب وأولي الأقلام أن يبتدؤا مقالاتهم ويصدروا أحاديثهم بتعريف – ولو كان موجزاً – عن موضوع حديثهم ولب كلامهم .
لكنني لا أستطيع هذه المرة أن أماثلهم الطريقة ولا أحاكيهم الأسلوب ، فأي تعريف يمكن أن يستقر لهذا الحب ، فهو ذو أبعاد مختلفة وألوان متعددة وأوجه متباينة  .
لكلٍ ذوق يجد به طعم هذا الشعور ، ولكلٍ عين متفردة يرى من خلالها هذا الحب ، ولكلٍ كأس يشرب به ليغذي روحه ويسد رمق حاجته .
لا أراه غير ماء تسقى به الحياة فتونق أزاهيراً ، ولا أجده غير عطر يتضوع في الفضاء ويملؤه عبقاً ، ولا أفسره غير شعور دافئ يتلجلج بهدوء داخل الأضلاع وقد وهبها أجنحة تطير بالنفس إلى حيث الرياض الخضرة والسهول النضرة والعوالم المبهرة .
هو ذلك الحب ، سمه ما شئت ولقبه ما أردت يبقى جميلاً تحتاجه النفس وترنو إليه الحياة .

ضحايا حب
الشجار الدائم حطم كل المعاني الجميلة التي ولدت في طفولتها ، وإخوتها بوجوه مقطبة وأكف ممدودة يقابلونها ، ومنزل موحش ارتسمت على جدرانه المتصدعة كل صور الخوف والرهبة المقيتة .
بينما هي ترزح تحت وطأة هذا الجحيم الداخلي المحرق وحبائل الشيطان تصور لها بؤر الفساد وأحضان الذئاب جناناً غناء وربىً خضراء .
خرجت إلى هذا العالم المظلم وهي تجري بقدمين مجهدتين أعيتهما أسواط
إخوتها الجلادين ، وأنفاسها المتقطعة تتسابق للخروج وقد ضجت من ضيق صدرها ، تجري في طريق لا تعرف له نهاية ، وهي تجري .. ( علّها تجد ضالتها وسد فاقتها ) وقد حرمها الوالدان وسلب حقها الإخوان .
وما تلبث أن تجد حضن ذئب رغيد حتى تجد نفسها ملطخة بأصبغة الخطيئة القذرة ، وأصابع الاتهام تنهمر عليها من كل حدب وصوب وسوط الجلادين ما زال يدمي ظهر قلبها وصفحته .

مثلية عاطفية
ينتابني الخجل وأن أتلمس خيوط هذه الحقيقة ويخامرني شعور بالحياء وأنا أقف في وجه هذه الفضيحة ، أدق النظر في ملامحها وأستبين قسماتها .
كما هي ( المثلية الجنسية ) وقد اعتدت على حدود الفطرة وحطمتها ، ولم تقم وزناً لا لشرع ولا عقل ، وكما هو الشعور السافر بالرغبة في مثيل جنسه .
هكذا الحب في أحيان كثيرة أصبحت له مثلية ، حيث لا يجد الشاب وقد تمكن الخواء من قلبه وأفرغ منه كل مشاعر الحب والعاطفة الجياشة التي استقاها مذ قبل بطهر ونقاء وأحاله كوباً أعلن إفلاسه وجسداً يلفظ أنفاسه .
ها هو وقد شدهته صورة ذلك الفتى الوسيم وبرقت في عينيه أسارير ذلك الوجه الحسين ، فسولت له نفسه وزين له قرينه أن هذا منتهاك ومبلغ هواك .
قبح الله حباً أنت حامله ، حباً لم يكتب الله له الديمومة ، فيصدق فيه قوله تعالى في سمائه : {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } .

حب طاهر
أدرك الله – عز وجل – حاجة الإنسان إلى هذا المعين ، كيف لا وهو من سواه وشكّل قواه وخلقه في أحسن تقويم .
فأدام الوصل بينه وبين عبده بمداد من حب ، وعلّقه بباب الرجاء ودعاه على أعتاب الولاء ، رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، كيف يكون الإعراض واللهو وقد اختاروه حبيباً لا ينصرف النظر عن مطالعة آياته ، ولا يعرض القلب عن مذاكرة كلامه ، ولا تقوى النفس على هجرانه ولا تكل من عبادته وسؤاله ، يضللهم قوله الكريم : { فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } .
وليس إلى ها هنا وقط بل جعل مناط التعارف بين المؤمنين وصمام أمان المجتمع بمثل هذا المجرى وسلك بهم الرسول الكريم – صلى الله عليه وسلم – نحواً من هذا الطريق ، وتوجيهاته ترن في أسماعنا وترف أمام أحداقنا وهو يقول : " أوثق عرى الإيمان : الحب في الله " .
هنيئاً لنا هذا الحب الصافي ، ومرحى لقلوبنا هذا النعيم المقيم .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...