التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإيجابي .. مثقف بالضرورة




الاثنين 14 شعبان 1436 الموافق 01 يونيو 2015

لا قيمة للإيجابية دون علم، ولا معنى للروح المعطاءة دون ذخيرة معرفية، إن الحركة المسبوقة بعلم تلك التي تستحق أن تزاحم الأفكار والمشاريع التي جوّدت بالعلم، وهذّبت بالمعرفة، وشذّبها الفقه والبصيرة .
إن المشاريع العظيمة التي بلغت الآفاق، وغارت في الأعماق؛ تنطلق من علم ثاقب وبصيرة نافذة، ولذلك كانت أولى رسائل المشروع الإسلامي ( اقرأ )، وهي رسالة يعنى بها كل من وضع لنفسه مشروعاً أن يبدأ بالعلم؛ فهو الطاقة الحقيقية لكل عمل إيجابي .
إن المثقف الموسوعي الذي اصطلح العلماء على تعريفه بمن " يعرف شيئا عن كل شيء " ذلك وحده التي تكون منتجاته ناجحة، ولها رواج رهيب بين الأفكار، وتجد من يتلقفها، ويعجل إلى الاستفادة منها؛ لأنها قيمة ذات معنى غائر، وفائدة عظيمة .
إن الذي عبّ من بحور المعارف، ونهل من ينابيع العلم، وتعددت اطلاعاته، وتنوعت قراءاته؛ فأخذ من كل بستان زهرة، وارتشف من كل غيث قطرة، ذلك الذي بمقدوره أن يلون أحاديثه بأطيب الفوائد، ويزهو كلامه بأجمل المنتقيات، وأجود الفرائد .
إن من تصيخ له سمعك، وتولي لكلامه اهتمامك، ويسترعي أذنك، ويشد انتباهك، ويجبرك على أن تتلقى ما يدلي به عليك بكثير من الحفاوة والترحيب؛ هو العارف الموسوعي، إن العلم أو الثقافة بأي الأسماء سميت فهي مادة واحدة؛ تغذي بها عقلك، وتسري في روح عطائك؛ فتمنحه الحياة والانطلاقة والجودة .
الحياة .. لأن العلم هو الروح الحقيقية التي تعيش عليها الأفكار العملاقة.
والانطلاقة .. لأن العلم يمنحها قوة الانتشار، ويسوّل للأنفس أن تلتقطها وتستغلها .
والجودة أخيراً .. لأنه يعطيها القيمة، ويشبع بها نهم الناس .
وشتان بين إيجابي تسلح بالعلم، وتزود من فيوضه الواسعة، فهو مهاب الجانب معروف القيمة، يدرك الناس في ماذا يدندن، وحول إيش يتحدث، وبين آخر خواء لا علم لديه ولا بصيرة؛ فهو لا يعدو أن يكون غثاً من القول، وحملاً على الناس وعالة، وإضافة  لاشية فيها .
{ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } طه 114 ، لعله يكون خطاباً إلهياً ممن صنع ملكات الإنسان في أحسن تقويم، وهو أعرف بما يحضّها للإبداع، ويؤزّها في سبيل الإنتاج المثمر .
إنه العلم، تزوّد منه بلا توقف، وعبّ من معينه الذي لا ينضب دون كلل، ولا تفوّت فرصة واحدة؛ تثريك معرفة، وتغنيك علوماً؛ فهو مولد الإبداع، وماكينة التميز والعلاقة الفارقة لحجم المشاريع المتعددة بين غث وسمين .
سئل الإمام سفيان بن عيينة: من أحوج الناس إلى العلم، فقال: أعلمهم، فقيل له: ولماذا ؟ قال: لأن الخطأ منه أفدح .
انظر لهذا العالم العابد وهذا الجهبذ الذي دام ذكره حتى اللحظة التي أكتب فيها كلماتي المتناثرة هذه، كيف علم أن التزود من هذا المعين لا نهاية له، وأشد ما يحتاج إليه المرء عندما يتقدم فيه، ويمعن أكثر .
كلما ازددت علماً *** زادني علماً بجهلي
إن قضاء الأوقات مع الكتاب في رحلة زاهية تنتهي إلى مزيد من التفتح على أبواب المعرفة والإبداع خير من ضياع الأوقات فيما لا نفع فيه ، بل أجدى من إهدارها في التفكير غير المنتج، وتفريغ الطاقة فيما لا يجدي .
وزهدني في الناس معرفتي بهم *** وطول اختباري صاحباً بعد صاحب
فلم ترني الأيام خلاً تسرني *** مباديه إلا ساءني في العواقب
ولا قلت أرجوه لكشف ملمة *** من الدهر إلا كان إحدى المصائب
فليس معي إلا كتاب صحبته *** يؤانسني في شرقها والمغارب
اعقد صحبة مع الكتاب لا تنتهي إلى الندم، اربط وقتك مع هذا الجليس الذي لا يمل، فضّله على صحبك ممن يسرقون أوقاتك في سفساف الأمور وصغائرها، امنحه تأشيرة الدخول إلى قلبك، وليتربع على عرشك، وليقد زمامك، ويجمع عليك أمرك .
بدل أن تستنزف أوقاتك مع قطّاع الطريق من الصحب الفارغين والجلساء اللاغين الآخذين بحقير الأمور ووضيعها؛ فيخبو نار تحرقك على وقتك، فتدمن مجالسهم، وتسيل دمع الأسى على إيجابيتك .
إن العلم -يا صاحبي- إذا ما لزمته، والتزمته قويت به حجتك، وأكسب لسانك بلاغة فائقة المعنى والمبنى، وجوّد لك أفكارك، ودسّم كلامك، وأثرى حديثك، وأغنى فهمك، ومنح شخصيتك القوة والصلابة، وقراراتك الصحة والإصابة .
لا غنى للإيجابي الذي يحلق في هذه السماء العليا عن هذا الجناح الذي لا يطير بفكره إليها إلا به، ولا يشبع نهم طموحاته الجارف إلا الثراء الذي يمتلكه العلم، ولا يجب شأفة النفس وحظها من الرعونة والكبرياء إلا العلم .
فهو البصيرة النافذة والخبرة الحاذقة، والكلمة الصادقة والحجة البالغة، والبرهان الذي يفحم، والدليل القاطع، والآية الشاهدة، والدلالة الواضحة، والروعة التي تزين صدر الكلمات، والحكمة البليغة التي تقوى بها العبارات .
إن الكاتب المثقف صاحب الاطلاع الواسع؛ ذلك الذي يملك الكلمة الرشيقة التي تخف على السمع، وتسمن في العقل، وتستثير كوامن النفس ، وهو صاحب العبارة النافذة التي يستلي بها الخاطر، ويجتلي فيها الجمال، وتسري في أعماقها الروعة والجلال .
وإن الخطيب المثقف الذي لا يتتأتأ عند كلامه؛ فهو منطلق متعمق متنوع غني ثري رائع ذائع مبدع مغدق مثمر، له حلاوة منطق، وطلاوة متنمق، لا يتشدق، ولا يتفيهق .
وإن المؤلف المثقف ذلك الذي ينبري لكتابة أجود الآراء دون حشو ممل، ويختار لمؤلفه أعبق الأفكار وأغدقها دون عشوائية متخبطة؛ يبدو منها وهج النوعية في أحشاء الفوضى اللغوية والخبط من كل مكان .
وإن المفكر المثقف ولأنه عدّد قراءاته، ونوع معارفه، ووسع مداركه؛ تجده ملماً بالموضوعات عارفاً بها مهما تلونت وتشعبت لا تشكل عليه ولا تستعصي، ناهيك عن الغور في بطون الأفكار والمعارف، وقد أسهب في معرفتها، وأمعن في تناولها، وها هي الآن تنكشف بين يديه وعقله الناقد؛ يسبر أعماقها، ويمخر عبابها .
الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...