التخطي إلى المحتوى الرئيسي

على البركة !




{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } الكهف 103 – 104 .
لا نقف عند آية طويلاً مثل هذه التي نقرأها نهاية كل أسبوع ، ولا نكاد نتجاوزها قبل أن نسحّ الدمع من العيون ، وقد علتنا رعشة الخوف والرهبة .
ذلك لأننا قلما ندع للراحة أن تأخذ قسطها من جسومنا ، فهي دائماً في شغل دائم وسعي حثيث ، فبين كتابة وتأليف إلى تخطيط وتنظير مروراً إلى مباشرة المشاريع والعمل عليها انتهاءاً إلى العمل الفردي الذي لا يدوم لدقيقة واحدة ونرجو أن ينتفع به الناس دهوراً طويلة .

لكننا نخشى مع هذا كله أن لا يقبل العمل ، ولا نخلص لله تعالى فيذهب هباءً منثوراً وجفاءاً مهدوراً لا ننتفع به يوم المزيد ولا يعود إلينا بخير في يوم نحن في أمس الحاجة إليه .
لقد عشنا أعمارنا كلها نميل إلى العبادة والعمل ( على البركة ) هذا المبدأ الذي أضاع مستقبلنا وأهدر من أيدينا حاضرنا وسفّه أحلامنا وضيع آمالنا من أيدينا حتى اعتقدنا أننا لا ننال الجنة إلا بركة .

وقع في يدي كتاب ابن القيم القيّم " مدارج السالكين " الذي صوّر لي التعبد والتقرب والتملق بين يدي الله بمعنى آخر ، ونقلني من التعبد المرسل دون تفكير أو شعور ، ولا أنتهي معه إلى أثر أو عائد من الاستقرار والاطمئنان ، ولا أتنسم شيئاً من بركة العبادة وخيريتها ، إلى عبادة الخلّص .
وهذا نابع من سوء فهمنا للعبادة وغلط ناشئ في تفكيرنا وبصرنا بالأمور حتى أصبحنا نعيش الحياة ونتعاطى مع مسائلها بكثير من التساهل والتنازل ، وهذا طبعيّ إن لم يبحث المرء عن رشده وعن من يمنحه الحقيقة والمعرفة والنضج .

إن العبادة مكابدة حقيقية وجهاد طويل وترويض للنفس على بلوغ المعالي وتمني الفضائل وتعشّق المدارج الرفيعة ، إنها معارج لا تبلغها ، ومنازل لا تنالها بسوى الكد والتعب والرهق في سبيلها .
إن العبادة صورة مصغّرة أو " بروفة " لهذه الحياة التي تتطلب من العناء في سبيلها وتحتاج من المشقة للتدرج في سبلها حتى تتمرس طريق العظمة والإيجابية ومنازل أصحاب الهمم العلية ، وإن من تخرج من مدرسة التعبد الديني والمكابدة الإيمانية تلين له وعورة الحياة وتهون في سبيل مطامحه المفاوز والمشاق والمصاعب ، لأنه خاض في مدارج السالكين أعظم التحديات حتى ترقى في معارجها وصعد منابرها .

وقد طالعت كتاب ابن القيم اطلاعاً واسعاً وقرأته باستفاضة وإسهاب حتى أعملته في حياتي وفنيت في وجوده الذي دعى إليه كثيراً في هذا المؤلف الناضج ، وهو تفسير وشرح وتحقيق وتهذيب لمنهج المتصوف إسماعيل الهروي .
وكتاب ابن القيم صورة للتصوف المرشّد الأقرب إلى مصطلح الزهد الإسلامي المباح الذي يشتغل على ترفيه الروح والموازنة بين طينة الإنسان ونفخة الروح .
ولقد تأثرت كثيراً بهذا الكتاب وهو أنفع مما تعلمته وقرأته من الكتب والمعارف ، وبدأت علومه ومبادئه في حياتي وعبادتي تحضر بقوة في صلاتي ودعائي وصلتي بالله – عز وجل - .
ولقد أصبحت أنزع إلى الخوف أكثر من الرجاء بتأثير من هذا الكتاب الغني الثري ، بعد أن كنت أعتمد على الرجاء ثم التسويف والاطمئنان إلى عملي والعيش " ع البركة " .

لقد أدركت بتمام اليقين أن كل شيء لا يزين ولا يحسن إلا بالعلم والمعرفة الحقيقة وإدراك أدواتها ، وأن الجهل شجرة ينبت منها كل شين ورزية ورذيلة كما يقول ابن القيم .
ولا يضر بالناس والأمم والمجتمعات إلا الجهل الذي يودي بالحقيقة ويزيلها ويمنع دون جلائها وبيانها ، فيا أيها القوم اختاروا العلم على الجهل وخذوا كل فن وعلم من أهله وبطون كتبه وفي كل صقع ورقع .

ولا تخوضوا في علم ولا تقدموا على عمل أو صنعة دون أن تدركوا أدواتها ومهاراتها ، ولا تشرعوا في مهمة قبل أن تتزودوا بما تحتاجون إليه في إتمام المهمة واستكمالها بتكامل ودقة ، ذلك حتى لا تولد أعمالكم خديجة منقوصة معيبة .

مما أضرّ بأهل العشق أنهم ××× هوُوا ، وما عرفوا الدنيا وما فطنوا
تفنى عيونهم دمعاً ، وأنفسهم ××× في إثر كل قبيح وجهه حسن

والاطمئنان إلى العمل والاعتداد به من أعظم آفات العمل الديني والدنيوي وهو إضرار حقيقي للإنسان وحلقة خاتمة لإنجازاته وحفلة توديع لنجاحاته ، وعلى خلافه انتقاص النفس واحتقار عمل المرء – حسب فهم التصوف الديني – وعدم الرضا عن الذات والتوق إلى المزيد دافع حقيقي للاستزادة وباعث للطلب والاستمرار في الخير والعمل على كافة الأصعدة الحياتية لنيل الكفاية والنهاية .


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...