التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ماذا يخطر في بالك ( 6 ) ؟


هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) .
راجياً لكم النفع والفائدة .


الشعر عند العرب له مقام ، فهو ديوانهم ومخزن تاريخهم ، لسان قبائلهم وصحيفة شمائلهم ، من مهر فيه حاز تقدير الناس وانتباههم ، وكان فيهم كالنبي النابغ والعلم اللامع .

وهو عند العرب لغة وسليقة ، فهم أهل قلوب طرية ونفوس شجية وهذا أقرب ما يكون إلى روح الشعر وأمهر من يقول به .
والمجتمع الذي يحافظ على مكانة الشعر ويقيم له أسواقه ويرسخ أعراقه فإنه مجتمع يؤمن بأصالته ولا ينبو تاريخه ، المجتمع الذي يحتفل بالشعر والشعراء إنما يفعل ذلك رغبة في المضي متماسكاً منسجماً مع هويته ولغته التي فيها بناؤه ودواؤه .
الشعر أيها السادة غناء ، وهو أطرب في السمع من لذة الإيقاع ، وأكثر من العزف إشباعاً وإمتاع ، والشعر فلسفة تستبين في كلماته المضمر من شخصيتك وتستوضح المقبل من أيامك ومستقبلك ، وإذا استطعت أن تستدبر أو تستقبل بعض يومك فليكن الشعر دواتك وملازمك ، فإنه المسلاة والحياة إن أردت .
............
التطور والتغير والتحول وربما الانتكاس والنكوص والتحلل والانبعاث وسوى ذلك من الألفاظ والأحوال ، هي من سنن الحياة وقوانينها ومن ترتيبات الكون ونواميسه ، بها يتجدد للبشرية أمر حياتها على الأرض ، وللكون شأن انبساطه في راحة القدر .
ينبغي أن تكون " الثوابت " قليلة ، وهي تصنع الإطار العام والشخصية الجامعة ، وإذا زاد استنباتها من هوس الهوية واستمطارها من إكبار الذات ، فإنها تثقل الأمم وتحاصرها ، حتى تصبح عبئاً وحرجاً وعنتاً ، كما أنها تخلق أمة من الكسالى الثملين بفرادتهم التاريخية وقدسيتهم الدينية ، بينما تمضي الحياة قدماً بأهل الأسباب المشرعة والنتائج المترعة .
الجماعات التي تعيش حالة حضارية تذهب في المجمل إلى المشتركات البشرية فتكون ثوابتها القائمة وسياساتها الملائمة ، وتتنازل عن بعض ما تظنه من ثوابتها المخصوصة حتى تنساب في الأرض وتتصدر الأمم ، وذلك نابع من قوة تماسكها المنطقي .
بخلاف الجماعات المتضعضعة في مؤخرة الأمم والحضارات فإن حماسها لثوابتها يزداد جنوناً وهستيرية وتخلق المزيد من أركانها المنحبسة وينابيعها المنبجسة فتضفي عليها حالة من القداسة وتنضم إلى نادي الثوابت المستقرة والخطوط المستعرة ، وهو نابع من شعورها بالنقص وبدافع من خوف الانحلال والانسلال .
ولتقترب الفكرة ، انظر في دين ما ، وطالع ثوابته العامة ولوازمه التامة ، ستجد سعة يضيق بها المتنطعون ، ثم انزل إلى حلقاته المذهبية والطيفية ستجد ثوابت مستنبتة وأطراً مستغلقة ، وهي تشد الخناق وتغلظ الوثاق حتى تكاد تلقي بتابعها كلاً لا قائمة له .
الثابت ليس مقدساً أكثر من كونه قاعدة منطقية للتعايش المشترك ، وكونه في خانة التقديس يعطي إحساساً بالفوقية وقهر الطبيعة ، ولكنه في خانة القاعدة الموضوعية لخدمة الصالح العام يعطي إحساساً بالارتياح وامتثالاً ودوداً من الناس .
التحول سنة ، والتعامل معه على هذا الأساس يقلل من حالة الاستفزاز المؤدي إلى اختناق التفصيلات الصغيرة ، ويعطي خارطة عمل لاستقواء مناطق الضعف ومفاصل النقص لاستعادة الريادة وإحياء الأدوار الحضارية ، والتعامل معه بهذا المنطق يفكك وهم المؤامرة والاستهداف الذي يعطل الثقة بالنفس ويبطل مفعول مشاريع الاستنهاض والمعالجات الداخلية اللازمة لعملية البدء من جديد .
الكون لا يعطي الأمم صكوك الصفوف الأولى من مقاعده ، الأمم هي التي تفسح موطئها من واقع اجتهادها ودأبها للصدارة ، خصوصياتك الفريدة والحق المطلق الذي تثق به لا يعطيك طريقاً مفروشاً للمجد ، المجد نفسه يتحقق إذا دفعت أثمانه الباهظة من الجهد والقوة والبأس .
والأرض لا تجامل الممتلئين بامتيازات السماء .
.................
من المعيب أن تقوم باكتشاف قيمتك انطلاقاً من الآخرين ، وتشعر بتقدير ذاتك مضافاً الى سواك ، وتؤمن أن قائمتك لا تقوم إلا في ظل آخر وعلى كتف مخلوق سواك .
مذموم ذلك الشعور بالأمان المتترس بالأغيار ، والثقة المسكوبة من أوعيتهم ، تفيض بما زاد عن حاجتهم ، فتبتزّ استقلالك وتهزّ كيانك .
..........
لا تحاسب الكاتب على تلك المثالية التي يكتب بها ، ولا ذلك النبل الذي يبدو في كلماته الواقعية ، لا تنخدع بقلمه فتنتظره ملاكاً لا يخطئ أو بدراً متلألئ .
إنما يذرع الكاتب قلمه في عرض الورق وطولها بما يمليه وجدانه دون حسبان ، وما يلقيه زمنه دون ميزان ، وما تركته الأيام في مخزن ذكرياته وسلم أولوياته ، وهو في وسط هذه الفوضى من الأطراف التي تشده إليها من كل جانب ، يحاول أن يحترم قارئه ويجتهد في عباراته وأفكاره وأكثر من ذلك في البحث عن ضالته وشفاء غليله وإرواء ضمئه ، وقد يضعف أمام ضغط مصلحته أو يطير بجناحي طموحه ، فيبدو ملاكاً في أحايين ، ومارداً في أخرى .
وهو في معترك الكتابة مثل الوالد في سعيه لرزق أولاده أو الطبيب في حرصه على مرضاه ، وفي لحظات يغدو كالتاجر الذي يحتفي بزبائنه ويسوق بضائعه ، أو الصائغ الذي يحرص على قلائده ونماء جيبه .
.........
قد تبدو البدايات متشابهة ، ولكن النهايات تأخذ مسافات الاختلاف على قدر أصحابها
القاع يعج بالمتشابهات ، ولكن الأفق يحتشد بالفروقات ، فثم أفلاك مضاءة وأقمار وضاءة ، وأخرى ذابلة وآخذة في الهبوط .
عند خط الأشواط الأخيرة ، التفت يمنة ويسرة ، تلك الوجوه القليلة التي تحيطك هي التي استطاعت البلوغ .
ماذا لو احتفلنا بالنهايات كما يحدث بعض الأحيان ؟ وكأنها عنوان فرح لا عنوان حزن ، هذا يعني أن مسافة الحياة التي تعيش أمتارها كانت حافلة بالمجد والجهد والسؤدد ، بما أنها تحتاج لحظة توقف ، في شكل تتويج ، أو توديع ، أو تكريم .
الأبطال يحددون شكل النهايات ، المجال يعطي روحها ، وإذا كان المجال والمضمار جاداً ونافعاً ، فإن النهايات لا تعطي إعلاناً بالوداع ، ولكنه استئناف في شكل خبرة وتجرة تسكب عصارتها في معاني ومباني هذه العملية الخالدة ما بقي نفس على وجه الأرض .
نحتفل أحياناً بتقاعد موظف أو نهاية مشروع ، وعندما تتصفح سيرته ستجد انعكاس شخصيته الباهرة وإمكاناته الساحرة ، التي تركت لها في كل بقعة أثراً وفي كل مكان خبراً .
سيرة عاطرة وشخصية عامرة ، عاطرة بالذكر الطيب الذي سيبقى أثره زاكياً وكأن النفوس تجدد استدعائه في كل موقف لتشم عبق النجاح وعبير الإنجاز .
وعامرة بالجهد الدائب والنجاح اللازب الذي رافقه في كل خطوة ولاصقه في كل مشوار ، ولعلكم ستجدون في سيرته ما يغني عن التعبير ، وفي مشواره ما يستدعي كامل التقدير .
فأحسنوا سيركم ، نحتفل بخواتيمكم ونبتهج بأثركم !
..............
مجرد حلقة تافهة ، تضم مجموعة مهرجين ، استيقظوا من سبات التجاهل ، وبمضمون متهافت ، كتبه صحفي منغمس في صحافة عربية مترهلة ، يحاول أن يقدم منتجاً كوميدياً لا يحفل بأبسط الأدوات الفنية المعتبرة للكوميديا ، تفعل كل هذه الأفاعيل .
الكوميديا الساخرة التي لها قواعد مسنونة وأساليب مضمونة عند الدول المتحضرة التي تصون الفن وتحترف مهنته ، الدول التي تحترم عقولها وجمهورها وذوقها ، فترتفع بهم جميعاً إلى مصاف الرقي والتمدن .
وعند أهل الدول المتقهقرة حلقة تافهة تضحكنا حتى تبدو النواجذ ، ثم تهز عروش الثقة لدينا حتى تنكشف المنابذ .
يذهب المصلي وقد قطع نومته وفرح لقومته ، في عز الظهيرة ، والضمأ يحيق به ، يشارك المسلمين جمعتهم وجماعتهم ، يتزود بالتقوى ، ويتقوى بالإيمان ، ليسمع خطيبه - ويا ويح ما سمع - يرعد ويزبد عن " مجرد حلقة تافهة ، تضم مجموعة مهرجين ،استيقظوا من سبات التجاهل ، وبمضمون متهافت ، كتبه صحفي منغمس في صحافة عربية مترهلة ، يحاول أن يقدم منتجاً كوميدياً لا يحفل بأبسط الأدوات الفنية المعتبرة للكوميديا " .
هل هناك فرق ؟
...............
لقد رأيته !
هو نفسه ذلك الشخص البائس ، نفسه الذي أسمع عنه مذموماً في كل المجالس ، مذكوراً بالقمين وكل ما يشين ، كثيراً ما شاركت في اغتيابه أيام غيابه .
هو نفسه الشخص الذي لا يعبؤ به ولا يهتم لأمره ، الخامل الهامل الذي لا وزن له .
رأيته في وقت متأخر ، إذ كان الفجر يطل بهدوء من على شرفة المساء ، رأيته يهرول من سيارته حتى باب جيراني ، مرتبكاً وكأنه يخفي شيئاً جللاً ويطوي على سوء ، اختبأت حتى يكمل تفاصيل فعلته ، دار في ذهني كل ما يمكن ابتكاره من المحارم والمآثم ، فهو لا يستغرب من أمثاله كما أتصور .
غادر مسرعاً ، وترك خلفه كومة من الأكياس مستندة إلى باب الجيران ، كان الشارع خاوياً إلا من صدفة جاءت لتغير كل الموازين ، كان يمحو آثاره ويدفن سره ، وكأنه يلتقط كل ما يمكن أن يفتضحه .
لم تكن تلك الأكياس إلا سكراً وأرز وجوالين زيت وبعض أغراض البيت .
إنه يتصدق سراً !
يا لخيبة تلك الأمسيات الذي أذهبناها في ذمّه ، إنه يخفي معروفه ، والناس تتندر عليه ، يهتبل ساعات الفجر الأولى وينغمس في صنائع المعروف ، ثم لا يلتفت ألامه الناس أم شكروه .
يا ويح تلك الوجوه التي اجتمعت على لحمك ذات مساء ، لقد تمنيت لو أنني أيقظت الناس ، كل الناس لتراه ، لتقف على معروفه وبياض كفوفه ، لو أنني قبضتهم من أعناقهم ليتفرجوا عليه .
كم صرفنا من الوقت ونحن نلوكه بالذم ، وهو يسرع إلى رضا ربه ، ثم يخفي ذلك وكأنه يواقع الإثم ، مؤمن بدوره لا يحفل بأحد إلا رضى مولاه ، وشعوره بالرفاه .
لوهلة شعرت بالاختناق ، تذكرت صاحب ذلك البيت الفقير وهو بطل أمسيات " الحش " في متصدق السر ، تذكرت أن أحكامنا المسبقة تحيط بنا مثل قبضة ، مثل أغلال ، أو حجاب ، وأن الخبيئات موكولة لمن عنده الجزاء الأوفى .
أحسست بتفاهة الشعور القديم بالامتياز أمامه ، وسذاجة انتقاصه في عوالج صدري وخوالج ذهني ، إنه كبير الفعائل دون احتفال ، عظيم الصنائع بدون ابتذال ، انتصر على نفسه ، كسر شهوة استظهار الخير ، وأخفى ما بذلت يمينه عن امتنان الناس وتقديرهم ، لقد تنازل عن نصيبه ورضي بذلك الشعور البسيط الذي ينساب إلى فؤاده .
اللهم طهّر سرائرنا ، ونوّر ظواهرنا ، واستر عيوبنا ، واقبل طيوبنا ، وسامحنا واغفر لنا واعف عنا ، يا كريم .
...................
إذا تعسر الفهم ، اعتسفت العبارة .
…………
من خُدع الحب ، أنك تتمسك بمن يظهر لك الاهتمام أو يتظاهر بذلك .
بمن يعترف بك ، لأن الإنسان يبحث عن من يقبل به ، وبوجوده ، وفي طريق البحث عن ضالته ، يقع على ثروة أن شخصاً قدم له ذلك باحترام واهتمام ، ثم يبتلى به .
وما زلت أقول أن الحب ليس كتلة صلبة ، وليس تفسيراً محتكراً ، أو صورة واحدة .
ولذا فإن الحب في بعض معانيه هو التعلق بمن تجد نفسك لديه ، وتظنه فارس أحلامك ، ونهاية آمالك ، ومستراح ركابك .
الحب في هذا الحال هو تعبير أناني ، سلوك بدوافع شخصية ومصلحية ، إذ تحب في الآخر صورتك لديه ، واعترافه بك ، واهتمامه بتفاصيلك .
على كل حال ، هذا ليس سبباً كافياً لتحبه ، ومن السطحية أن تتعلق به ، وتستشيط رعباً لمجرد التفكير في مفارقته ورحيله .
عليك أن تتحقق من فكرة أن الحب ليس بهذا التصور المحاصر ، فهو معنى لطيف جداً ، وهو مكلف أحياناً ولكنه من نوع التضحية النبيلة ، تلك التي لا تسائل فيها ضميرك باستكراه : هل كان يستحق ؟
…………
وإنك قد تراهم في تيه يعمهون !
شباب متقد ، مولع بالظهور ، يبحث لاهثاً عن موطئ قدم ، عن فرصة ليراه الناس ، ليشهدوا على نجوميته ، على جماله ، على براعته ، على أقل تقدير ، يشعرون به ، ويثمنون وجوده حياً يرزق بينهم .
يطير فرحاً عند كل تقنيه جديدة ، وبرنامج حادث ، يصِله بالناس ، يبث صوره ، يعبر عن حالاته ، استيائه وانبساطه ، يقول للناس : اسمعوني ، شاهدوني ، جدوني .
يسرع إلى كل مشروع يرجى منه الظهور ، بطولة رياضية ، فريق تطوعي ، تجمع لمعدلي السيارات ، حفلة شعبية ، مقهى للزافرين بدخان الفراغ ، أي مكان يمكن أن يحتويه ، ويغريه .
ولذا تجده كل يوم هو في شأن ، فمرة لاعب ماهر ، ومرة راقص مجاهر ، وأخرى متطوع فاخر ، وثانية " زاحف " مغامر ، ويتصرم شبابه وهو لم يأخذ من الإيجابية حظه الوافر .
ولم يجد نفسه في شيء من أوضاعه المتقلبة ، وأحواله المعلبة ، وهذا ناتج من ضعف التأسيس ، ومن حمى الإفراغ والتنفيس .
فلو أنه تعلم أن الإنسان لا يليق به إلا ما يحسن صنعه ، ولا يرتدي إلا أدواراً تناسبه ، وأن قيمته في جدوى ما ينتجه ، لا ما يستدعي حوله الأضواء ، ويلوي له الأنواء ، لكان في حال يستريح بها ويريح .
………………
والمصائب قد ترزقك التواضع .
فإن المرء قد تنبسط له الدنيا حتى لا يظن أن لها انطواء ، وتمضي به المسرات حتى لا يظن لها انقضاء ، فيسرف في أمله ، ويتهاون في عمله .
ويأخذه الغرور كل مأخذ ، ويطمئن إلى ما جادت به الأيام وما استقر في الأرض من الأماني والأحلام .
فيرى في نفسه الاصطفاء ، وأنها خُصّت بنعم لا تنقطع ، وأقدار لا تنسخ ولا ترتفع ، ثم تنقض عليه النوائب ، وتكبح جماحه المصائب ، فيرشد إلى عقله ، ويثوب إلى قلة حيلته ، ويبصر تقلب الأيام ، وتصرم الأوهام .
وقد رأيت بيوتاً انحازت لهم الدنيا بحذافيرها ، وانجابت لهم الحظوظ ، حتى استعلى قدرهم ، واستعظم جنابهم ، فإذا بالأقدار تحيطهم من كل جانب ، ورأوا من شظف العيش ما يحني الرقاب ، ومن بأس الحياة ما يخترم الثياب .
وعلى سوء ما قد يصيب الإنسان أحياناً ، إلا أنها تنصب من معين حكمة الله وعدله الذي ينضبط به ميزان الدنيا والخلق ، وفيها من لطائف الله وعنايته ما يعين الإنسان على الرشد والهدى والخشية والتقى ، لأنها تساعده على مجاهدة النفس التي يغرّها انبساط الحال ويستميلها تطامن المآل ، فتنبهها المصائب إلى تقلب الأحوال ، وتذهلها الأقدار عن الاطمئنان إلى دوام الآزال .
والمصائب تسرّع عملية الإنضاج ، فإن من فقد أمه مثلاً ، يشيخ ولو كان طفلاً ، وقد اتكأ على جرحه وأبصر قصور الحياة وركن إلى حبل الله المتين ولم يطلب من الدنيا فوق ما تطيق من توافر النعم .
وقد جربت أشخاصاً خبروا البأس والشظف قبل اشتداد عودهم ، فطلبوا الحكمة حثيثاً حتى اندلقت من أفواههم رشداً ، وفي أذهانهم سؤدداً ، وفي أفعالهم عقلاً وبصيرة .
……………
" فكرتك مطوّع !! "
هكذا باتساع العين المندهشة ، وانثناء الملامح المشبعة بالاستغراب ، ولون الإنكار الحاد يجفف ما بقي من رطوبة ثغره ، تنهال هذه الجملة الصادمة محملة بكمية الأحكام المسبقة التي احتلت عقله قبل وفادة الحقائق إليه .
هذا نوع من المكاشفات الاجتماعية التي تحدث يومياً ، حتى أصبحت لازمة ساخرة وطرفة زاخرة بالإيحاءات ، تحتل عقولنا الفارغة منظومة أحكام وتصورات خائبة وتتشبع بها أذهاننا ، ليس لشيء ، سوى أنها " صادفت ذهناً خاوياً فتمكنا " .
يحاصرون ما يجهلون في خانة ما يظهر لهم أو يظنون ، ثم يحاسبون طبيعته واسترساله على قاعدة تفسيراتهم الشخصية وربما تفصيلاتهم وتفضيلاتهم الفردية ، ثم لا شأن لك في سمعة شانئة تلاحقك ، أو لوم ممضّ يقرع أذنك ويطرق ذهنك .
عقلية رغبوية ، تسد ثغرات جهلها بأمنياتها المتطايرة ، بما تحب أن تراه ، أو بما ارتسم لها أنموذجاً فاضلاً كحد أقصى لواقعها الارتجالي .
أو عقلية قاصرة ، استوطنها الجهل ، فأصبحت مباءة مناسبة لتشرب الأحكام الجائرة واستضافة الحقد والحسد ضيفاً دائماً بلا زوال ولا ارتحال .
أو عقلية مستلبة ، احتكرها طيف اجتماعي متزمت وسقاها من بنات أفكاره الموغلة في الإقصاء ، ودمغ إمكاناتها المتفتقة بقدرته الجنونية على التنميط وسد منافذ الفطرة .
لا فكرة عندهم عن التنوع والتوسع ، لا منطق لمسافات الاستطاعة ، ولا إيمان أو اعتقاد بأن الإنسان إمكان غير منضبط للخير والشر في آن معاً ، وعليك أن تدفع ثمن عزمك تبجيلاً ، وفاتورة تقصيرك تنكيلاً .
……………
ما تفعله " لتنسى " ليس إلا عملية تتحيف للمأساة !
كل الأنشطة التي تقوم بها لإشغال ذهنك عن تذكر الأشياء التي تُكره نفسك على نسيانها ، لا تضيف إليك سوى توبيخاً لنفسك وتقريعاً لذاتك التي استسلمت لما أصبح عنواناً للألم وشعاراً للأسى .
إنك تعيد ترميزها بطريقة فاخرة ، تغرز أظفارها بأسلوب مخاتل ، وكأنه اعتراف ضمني بقيمتها لديك ، وتربعها على صدر اهتماماتك وناصية عنايتك ، وإن أظهرت التجاهل .
إن تزوير موقفك كاليائس تجاه معركتك الدرامية ضد جنود النسيان ، لا يزيدك إلا هزيمة واستسلاماً .
لا تستميت لإذابة جليد الذكريات ، فإنها ستعصف بك وتدك تماسكك ، لا تزهق نفسك لإطفاء جذوتها وإخماد شعلتها ، لأن الأيام ستلهب نارها وتزيد أوارها .
واجه ضعفك ، اعترف بقصورك ، فإما خضعت لجبروت ما تحبه مع ذهاب صبوتك ، أو انتصرت على الضعف مع زوال سلوتك .
………………
يدور في ذهني منذ مدة ، حاجتنا إلى عمليات " إعادة تأسيس " دائبة لمجالات مختلفة في الشأن الاجتماعي والثقافي والفكري .
إذ يبدو أن مرور كثير من الوقت على واقعنا الذي تأنسن ، أذبل كثيراً من الأفكار ، وأعطب كثيراً من الأقدار ، وأصبح المجتمع فجاً ومستعصياً على بلوغ حالة التحضر والنهضة اللائقة به .
فضلاً عن مدخلات مرحلة الضعف التي تستنبت قيماً موضعية بائسة ، وتنتج مواءمات مشوهة في إطار التسديد والمقاربة ، مما يضاعف بأس التخلف والتراجع الحضاري .
ولن تقوم للأمة قائمة قبل أن تعيد النظر في الكثير من المؤهلات المتواضعة التي تمتلكها ، وإعادة إنتاجها بإمكانات عصرية ومتصلة بالواقع الزماني مما يكسبها وجاهة حقيقية ومنطقية .
تبدو عملية " إعادة التأسيس " عملاً شاقاً ومرهقاً ، من جهة الخلاص من الأنقاض السابقة والهياكل العالقة ، ومن جهة عسر البناء من جديد والانطلاق من نقطة الصفر ، ولكن الاصطبار والانتظار يكلف المزيد من الأثمان الباهظة للتخلف ، ويضاعف من آثار التقهقر عن الاستحقاق الزماني .
في الشأن الاجتماعي تعاني " الأخلاق " بوصفها أسلوب حياة وجهاز ضبط محلي ومعيلاً بنيوياً لاحتواء النشاط التشاركي الضمني ، تعاني من الإهمال والاستغلال ، إذ بقيت في حيز الاستنزاف الخطابي ، بل أصبحت بعض مواقف النبل مثاراً للانتباه والإعجاب من باب الندرة والانفراد ، كما أنها مرتهنة إلى تحقيب تاريخي لا ينتمي إلى الواقع المعاصر مما يجعلها متخلفة ومعطلة عن الاشتغال والإعمال الراهن .
وكذا في الشأن الثقافي الذي يواجه أزمة متعثرة بفعل الإفساد السياسي وتدخلاته السافرة في دقيق التفاصيل وجليلها ، حتى شاع سم الاستخذال وأفسد المعنى الثقافي لصالح السلطة الجائرة .
والشأن الفكري الذي يعنى بأجلّ النشاطات داخل الحقل المعرفي يعاني من شح الإنتاج أو استهلاكه في دائرة السائد .
أرجو ، آن يفهم الأمر بمنأى عن فوضى الاستقطاب التي تقبض على القصد وتورطه في حمى التفسيرات التخوينية المستفزة ، وهذا عرض من أمراض التخلف الحادة ، فاللهم نسألك السلامة .
……………
ويسألونك عن العيد ؟ قل هو من عند أنفسكم !
بكل ضجر يوبخون هذا اليوم ، وأنه ليس إلا مناسبة تفيض عن حاجتهم ، ولا تليق إلا بالصغار ، يغرق صباحه بالقبل الباردة والوفادات الخاطفة ، ويشبع مساؤه بالملل حدّ التخمة .
كل جيل يستبق شيخوخته ، يعاتب ماضيه ، يوم كان للعيد طعم ولون ومذاق ، ثم يكتفي بالحنين ويتوقف عن الفرح ، يعلق لحظته في أبد الماضي الذي ( تأمسن ) وأصبح خلفه .
العيد هو يوم اعتباري ، لن تبرد الشمس ، ولن تمطر السماء ، ولن تعشوشب الأرض ، من أجلك ، ومن أجل أن تلمس بالفرق ، وتشعر بالاختلاف .
العيد هو إحساسك بالفرح ، بالتمام ، بفرصة أن تكسر عقدة حاقد ، ورعونة متردد ، وجموح متكبر ، وتخلق معهم صفحة جديدة ، وعلاقة مديدة .
العيد يبدأ من داخلك ، يوم تتجاوب مشاعرك مع البيئة ، وتلتصق بالمعنى الحقيقي ، العيد يبيّء المشاعر الإيجابية ويفعمها ، يعطي أفضل استعداد نفسي للالتقاء ، والصفاء ، والنماء .
ينتظر منك فقط أن تستجيب لذلك ، أن تتغير من داخلك ، أن تحترم انسيابه ، ولا تخترم ثيابه ، وأن ترفع الحجب ، وترتفع كالسحب .
لا تركن إلى الأدوات الصناعية التي تختزل المشاعر في ضغطة زر ، وتطفئ جذوتك ، صافح بحرارة ، ابتسم باستضاءة ، قبّل بصدق ، وحدثهم بأمنياتك الحقيقية عن حياة تجمعك بهم ، يملؤها السرور والحبور على آرائك من نور .
لا تخجل من إبداء الفرح ، بحجة أنه سلوك طفولي وليس من عادات البالغين ، خالف ما يسود في مجتمعك واكسر الروتين والرتابة ، وتصرف كأن أحداً من المتجهمين لا يزدرون انبعاثك بالفرح .
……………
كلما ارتفع منسوب التوقع ، انخفض مستوى الصدمة .
التوقع يساعدك على استيعاب كل الاحتمالات ، ويحفزك على السعي باتجاه تحصيل النتائج الأفضل ، ويكشف لك المخبوء والمجهول من المناطق المحيطة بموضوعك .
كلما كان الاستعداد أفضل ، كان الاستقبال أكمل .
بحيث تحقق للفرصة أجدى اهتبال ، وللوقت أحسن استغلال ، وللظروف أنفع حال ، وللمقام خير مقال .
الاستعداد يمكنك من الإلمام بأطراف المهارات ، وتوسيع تفاصيل الإمكانات ، وترقية الملكات ، بحيث تكون قادراً على التجاوب مع الظروف والتعاطي مع المستقبل بأفضل إمكان .
التوقع : عملية واقعية ، تنقذك من حبائل العاطفة ،وتنجيك من ويل الظروف العاصفة ، وتجيرك من رمضاء الخيال المسرف ، والأمل المترف .
والاستعداد : عمل مع الأمل ، وسعي دؤوب لنيل المطلوب ، ورفع للجاهزية ، وتحضير للمطية .
……………
في الصلاة ليس كمثله شيء ، أحياناً يتحامل على نفسه ، ويغالب نومه ، ويقاوم نعاسه ، من أجل الصلاة في المسجد .
وكأنه من سلف هذه الأمة ، لا يعود إلى البيت وفي ذمته صلاة متأخرة أو مؤجلة .
يحدث هذا عندما يكون في قريته ، ويختلف كل شيء عندما يسافر ويبتعد عن البيت ، ويغيب عنه نظر أمه ومراقبتها .
أمه الحادة ، التي ما زالت تؤزهم للصلاة كالأطفال ، كانت هي السر ، إذ كان يصلي أحياناً من أجلها ، بمعنى الخوف من انزعاجها أو إزعاجها ، لا يهم !
اليوم ، يختم الشهر الأول في غربته ، بعيداً عن مسقط رأسه ، ورمقات أمه البوليسية ، بدأ يفقد تعلقه بالصلاة ، ينسحب رويداً رويداً من التزامه الجاد بمواقيتها .
إنه تعلم أن يصلي من أجل أحد ، خوفاً أو رهبة أو مجاملة ، وليست من أجل الله ، أو من أجل نفسه على الأقل .
نوع التربية الذي حصل عليها ، لا تعلم الالتزام القيمي انطلاقاً من القناعة والإيمان ، تخرج بسلوكه من ذاتيته العفوية المسترسلة ، إلى الحرس الخارجي الذي يلاحقه .
شعور الرضى لدى الأم بتدين أولادها تنتجه حالة الامتثال الشكلي وتقدير المجتمع ، بوصفه شاهداً على النجاح والإنجاز ، أو مقصلة للتقريع و " كلام الناس " ، لا تنتجه مسألة احترام القيم الكامن في كينونتها أو تقدير المزاج البشري المضطرب .
" تقدير المزاج البشري المضطرب " بمعنى توقه إلى الحرية ، طينته النافرة من الإذعان ، مما يعني الحفاظ على هامش التصرف الحر ، وبناء القيم على أساس القناعة والرضى والإيمان ، أفضل من تسليطها على الناس بسياط القهر والإجبار .
وقت يعود إلى نظر أمه ، حارس الفضيلة المخضرم ، يعود ركضه إلى المساجد والعتبات ، ويوم يغادر هذا المحيط ، فلا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى .
الأم يمكن أن تكون المجتمع ، إذا اتسع البصر وامتد النظر ، وابنها هو الفرد المطحون في آلته الجمعية ، يوم يساق إلى القيم والمبادئ دون اعتبار أو اختبار لوجاهتها وتبييئها .
الشاب الذي صادف حريته في غربته ، انفرد باختياراته ، جرب أن يتحرك في الفضاء منفلتاً من كل قيد ، كسر شوكة الرقيب الذي يجلد ظهره بالتأنيب والتثريب ، قد يعود لسابق فطرته يوم يقتنع بما يسرّه ويضرّه ، ولكن ليس قبل أن " يتفتّى " !
……………
ها قد " تاب " ، وترك حياته المسرفة وراء ظهره ، واستقبل حياته الجديدة على هدى من ربه وربما شيخه أو حتى نفسه .
" تاب " وأراد أن يجعل من توبته حفلة من المهنئين كما كان يجمعهم في حفلة من الراقصين ، " تاب " وأراد أن يسمع به الأقربون والأبعدون ، وأن يشهدوا هذا الحدث الجلل والقصة العظيمة .
" تاب " وأراد أن نصافحه كما نفعل بالأبطال المغاوير ، ونرمقه بعين الإجلال والتقدير ، " تاب " ولم يرضى أن يمر بجانبه مخلوق قبل أن يصفق له بقراره ويشجعه على اختياره .
" تاب " ويريد أن يزدحم محيطه بالتأييد ، يريد أن يشعر بأثر ذلك في مجتمعه الواسع والضيق ، أن يستمد الثقة منهم ، إذ يبدو الجوف غير مقنع ، والقرار لا يشبع .
إنه لا يحب الهدوء ، أو يشعر معه بالشك والقلق ، يريد أن " يطرب " لوقع التوبة في كل زاوية ، وأن ينادى إليه في كل مكان ، وكأنه المبرّز المجتبى ، والرمز المقتفى .
إن شيئاً ما ينقصه ، يبحث عنه ، ولا يكاد يجده ، شيء يعوّض وهج أيام الضلالة ، ويقتل مستوى الركود والهدوء الذي يخيّم على واقعه الجديد .
أرأيت لو أن أحدهم ، قام يصلي من الليل والتقط له بكل سذاجة واستخفاف " صورة سيلفي " وهو في خلوته وبثّها للملأ ، فأفسد عبادته وأضاع فرصته ، ما ذاك إلا كمن أعلن توبته وجاهر بأوبته للناس جميعاً .
إن في الناس ذنوباً تثقل الأرض وتمنع المطر ، ولهم توبة لو وزعت على أهل اليابسة لوسعتهم ، فهوّن على نفسك .
" تاب " وأخذ منذ اليوم التالي يدعو الناس إلى جنة عرضها السماوات والأرض ، ويبشرهم بسعادة لا تنقطع وراحة لا تنقشع ، " تاب " وأخذ يحدثهم عن الطمأنينة التي تتدفق عليه وتنسكب في فؤاده ، وهو لمّا يزل طرياً ، حديث عهد بحياة تغلب فيها المجاهدة على الموادعة .
" تاب " وشعر بوهلة من رذاذ الوضوح والبصيرة ، حتى جنّ جنونه واستحكمت ظنونه ، واعتقد أنه من خاصة العباد وحزب الله المفلحون .
إن التوبة تتحرى القبول ، قبل النزول ، وإن نفسك أولى بوقتك ، قبل أن تستنزفه لغيرك ، والطريق طويل ، والمسير ثقيل ، فاعكف على نفسك ، وتولى أمرك ، واطلب الله المعونة والسداد .
التوبة ليست تبادل أدوار ، كأن تقوم من كرسي الفنان إلى منبر الشيخ ، أو تخلع ثوباً مسبلاً وترتدي آخر على طريقة السنة ، التوبة ليست سبابة التشهد وإهمال بقية الأصابع المنثنية على الأوتار ، ما التوبة إلا بداية الطريق ، أول منازل الصلاح ، وأيسر مراحل المجاهدة .
" تاب " وكأنه وطأ بقدميه عتبات الجنان ، لعمري إنها ساعة مؤجلة ، وسلعة غالية ، ومرتقى صعب ، وعتبة دونها مجاهدة النفس والشيطان والدنيا ، وأمامها عمر لا يضمن فيه المؤمن سلامة دينه وبياض محجته .
إن القلق يشق فؤاده وهو على رابية هشة من القناعة ، والخوف يقبض بجملة صدره وهو على حافة الارتباك ، كان أولى به أن يغرق في استغفاره حتى تبتل جوانحه ، قبل أن يرفع ناصيته بوعظ البسطاء والمذنبين ، إذ لعلهم أقرب وأذلّ .
يا صديقي .. ارفق بنفسك ، وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين ، وإن القلب بين اصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ، فانكب على نفسك وقلبك وأصلحهما ، ودع عنك غيرك .
يا صديقي .. من تظاهر بتوبته ، جاهر بحوبته ، وأفسد سريرته .
……………
هناك فرق !
بين أن تُعرف " رجل مواقف " أو " رجل منهج " ، بين أن تكون ضمن إطار منتظم من المقدمات والنتائج المنطقية وهذا المنهج ، وبين أن تكون مجرد ردات فعل عشوائية وهذا رجل المواقف .
وهذا ينطبق على المسائل العلمية والاجتماعية على حد سواء ، فرجل المواقف علمياً سيصبح متلوناً ومرتبكاً في رأيه ونتاجه على أساس تبدل المواقف لديه ، فحيناً سيجانب الصواب ويحيد عن الجواب ، وحيناً آخر سيوافق الصحيح وينطق بالفصيح .
بينما ينسجم صاحب المنهج في أطروحته ودوحته على منوال ما اطمأن إليه من القواعد الناظمة والقوانين الحاسمة ، ولذا سيكون واضحاً صريحاً ، ومؤداه إلى قرار القناعة ووافر المناعة .
المنهج أقوى وأبقى ، والمواقف متبدلة ومتحولة ، والناس تستريح إلى من يعلوه طبع دائم وسمت ملازم ، وتنفر من المتقلب والمتلون أيما ولّى به شطر الهوى استقبله .
وهذا لا يعني الصلابة في العيش وغلاظة الطبع وذهاب المرونة والليونة ، فإن العفوية والبساطة تصلح منهجاً للإنسان ، وهي أقربها للنفوس إذ تأتي استرسالاً واستسهالاً ، كما أن المرونة جزء من المنهج العلمي الاستيعابي الذي يُجود به التدقيق والتحقيق .
والمنهج أكثر عقلانية من عاطفية المواقف ، وأكثر ضمانة لسلامة النتائج ونزاهة القرارات ، وفيه من الصدق والوضوح والمباشرة ما يجعل التعامل معك اجتماعياً وعلمياً على أساس الصراحة والبيان ، حتى يكاد يعرف عنك الرأي قبل سماعه ، ويعود إليك ما سمع منك مرسلاً لا توارداً ، لشبه الفرع بأصله ، وانتماء الغصن إلى شجرته .
والمنهج الاجتماعي ، هو تعبير متكلف عن الفلسفة الشخصية أو الطبع الخاص ، يعطيه فخامة لغوية ولكنه ينطوي على ذات المضمون من التقنيات الشخصية في التعامل مع الناس والمواقف على أسس ارتضاها الشخص لنفسه وأصبحت من لازم طبعه وسلوكه .
بخلافه الذي لا يعرف كوعه من بوعه ، ولا يفرق بين منطوقه ومسموعه ، فيذهب به الناس ذات اليمين وذات الشمال ، وهو باسط ذراعيه بالوصيد ، إن استغلق انتكس وإن استفتح افترس .
……………
وقد تجف الروح ، كورقة يابسة توشك على السقوط ، كعود متفحم يستعجل زفرة لتحركه نحو الهاوية .
هل جربت أن تؤمن ؟
أن تتعلق بالله ، فتجد في الصلاة راحتك فتشفى ، وفي القرآن واحتك فلا تشقى ، أن يرقّ قلبك لاستغفاره ، وينشرح صدرك باستعباره .
هل جربت أن تحب ؟
أن يكون لحياتك ذلك المعنى المتجدد كل صباح ، وذلك الصباح الذي يداوي عللك ، تنغمس فيه فيأخذ بشغاف قلبك ، وتلتذّ ببارد نميره وعبق عبيره .
هل جربت أن تكتشف ؟
أن تقرأ ، وتتعرف ، وتسافر ، وتشاهد ، وتجرب ، وتحب ، ستجد من المعاني ما يفيض بالحب في شريانك ، ويسيل بالسعادة في وديانك .
هل جربت أن تتسامح ؟
أن تتعافى من بغضائك ، وتتعالى عن أدوائك ، وتتعرف على الناس ، وتتبضّع من وفائهم وعطائهم ، وتعيش رطباً كأنك على نهر جار .
……………
الحقيقة أن برامج التواصل الحديثة التي تعتمد على الصور مفيدة من ناحية ، فهي توفر للإنسان فرصة استفراغ النرجسية من داخله .
يستعرض بقدر ما يملك من ثقة في مظهره ، ويستغرق رغبته في استظهار إمكاناته الشكلية والمادية ، ويحصل على قدر لا بأس به من التقدير والإعجاب ، فينطفئ حماسه ويضعف شغفه وتتساوى لديه حالات الاستظهار أو الاندثار .
ثمة حالات - وبفعل برامج التواصل الاجتماعي الجديد - تتضاعف لديهم الممارسات الاستعراضية ، ويدمنون البحث عن معجب أو مؤيد ، وآخرون يكتفون باليسير الذي يحصلون عليه ، ويتعالجون من الحد الفطري الأدنى للحصول على اهتمام الآخرين وتقديرهم ، ويستغرقون في مشاريعهم الجادة ومسؤولياتهم المتعددة .
الأمر يتوقف على التوظيف الواعي للأدوات ، يعود إلى الموقف الشخصي من ذاتك وإمكاناتك بكل نقاط قوتها وضعفها ، ولقدرتك على إحسان استخدام الوسائل المتاحة لبناء شخصية تعيش بأكبر قدر من المهارات والإنجازات ، وأقل إمكان للرغبات الهامشية والمطالب السفلية .
بعض خلق الله المختارين ، يمتلكون نفوساً ذاوية تجاه الظهور ، يعيشون الهدوء في أكثر صوره زهداً ، ولذا تمر حمم الواقع الافتراضي دون حماس أو انتباه لاستغلالها في سبيل رغباتهم الجانبية ، وهذا لا يصبح أمراً إيجابياً دائماً ، فهو أحياناً عرض مرضي وأحياناً يكون دليلاً كافياً لبلادة العواطف وخمول الهمم .
………………
عندما تكتب عن ظاهرة ما ، أو فكرة معينة ، استحضر نموذجاً من واقعك ، واستخدم تجارب حقيقية ، هذا يساعد في ضبط المنتج المكتوب .
إذا اعتمدت على الخيال والتفكير فقط ستحصل على نتيجة مرتبكة ، وستحرم نفسك من فرصة الكتابة داخل إطار يضبط حدود خيالك ويرتب تسلسل أفكارك .
استخدام نماذج واقعية من محيطك وبيئتك يجعل الحديث أكثر صدقية ، والفكرة أقرب للواقع ، والنتيجة مقبولة وقابلة للتوظيف والإفادة ، كما أنه يكبح من تدخل رغبتك في التأثير على الفكرة ، ويزيد من قدرتك على التصور الموضوعي والإنصاف في النظر .
تفحص واقعك ومحيطك بغرض الاستنتاج والإنتاج يساعدك في حلحلة إشكالاته ورفع استعداده للتجاوب مع مستقبله ، وهو يثري إمكاناتك وأفكارك ، كما أنه يجعل منك شخصاً نافعاً ومفيداً ومؤثراً .
هذا لا يعني أن تستسلم لهذه النماذج ، وتحتبس في حدودها الضيقة ، وتحاصر إمكاناتك للابتكار والعبقرية ، ولكن الشأن هو إحداث التوازن ، وخلق معادلة منصبطة بحدود الواقع ومتطلعة إلى أفق الخيال .
……………
ما زلت أستغرب لماذا تعوض ثقتك المنقوصة باتهام الآخرين ؟
ولا تواجه حقيقة أن خياراتك تزدريك ، بينما أنت تغطي شمس هذه الحقيقة بغربال الاتهامات الجانبية .
لماذا لا تعترف بواقعك الذي ينتقصك ؟ وتبحث عن معالجة ذلك ، ومواجهة الحقيقة ، ومكابدة تغييره إلى وضع يليق بك ويناسبك .
مهما حاولت البحث عن أعذار لأولئك الأشخاص أو الظروف ، لن يجديك نفعاً ولن تغير وضعاً ، ويجدر بك أن تعترف بالحقيقة وتسلم بالواقع .
ما يتمناه القلب ، لا تعيره الظروف أدنى انتباه ، وما يمليه العقل هو صوت المنطق وصدى المعطى الواقعي في محيطك ، وكل ما عليك أن تتنازل لهذا الواقع وتتجاوب معه بما يرفع من موقعك في أحشائه ويحسن شروط تواجدك في أمعائه .
…………

الثقة نتيجة تراكمية ، لن تحصل عليها دفعة واحدة .
كما أنها قابلة للزيادة والنقصان ، تبعاً لمناسبات النجاح والإخفاق ، التي يترتب عليها دفعات من تعزيز الثقة أو تهشيمها .
إذاً ، الثقة من أعضاء الأسرة النسبية ، وهذا النظر الواقعي إليها يبعث على الطمأنينة ، ويخفف من ضغط مثالية التصور الذي نملكه حول الثقة .
فمثالية التصور تخلق أشكال مغلوطة من الثقة ، مثل العمياء التي لا تستند إلى تبرير حقيقي وتنتج ورطات متعددة لصاحبها ، أو تلك النفوس الضامرة من أي منسوب من الثقة ، فتبقى عرضة للابتزاز والانهزام والاستسلام الكلي .
…………
بعض البيوت تقوم على نظام " تربية بجهد جزئي " ، إذ يقومون بأنصاف الواجبات تجاه أبنائهم من إحسان التنشئة والتعليم ، ويتركون ما بقي من الجهد مبدداً بين الشارع والمدرسة والصدف ، وبالأحرى متروكاً لمن لديه الاستعداد للإنابة .
وهذا ينتج أبناء بأفكار وطباع منقطعة ، لا تلتئم الفضائل في تصورهم ، ولا تكتمل الأفكار في أذهانهم ، يتعطشون لمن يملأ فراغهم ويسد جوعهم ، وهذا يزيد من حالات الارتباك والقلق التي تستبد بهم ويعرضهم للاستغلال والتبعية .
يكتفون بتقديم الحد الأدنى من شروط التربية والنفقة والإحسان للأبناء ، ويحدث ذلك نتيجة الإهمال الطبعيّ وتواضع الإحساس بالأمانة ، أو نتيجة ضغط الظروف ، إذ تعاني بعض الأسر من الفاقة وضيق الحال مما يدفع الأبناء للبحث عن معيل خارجي ، يندر أن يقدم خدماته بالمجان ولوجه الله والفضيلة ، إذ يعترض بعضهم إغراء الفاقة واستسلام المحتاج .
وهذا يجري على المسائل المادية والمعنوية على حد سواء ، فاختناق الجيوب يشبه عطش الضمائر ،  وافتقار العقول يضاهي فساد السرائر .
هذه الأسر تتبنى المنطق الهروبي في مواجهة المسؤوليات الكلية ، ويتجنبون مكابدة إصلاح ما يثلب مسيرة أبنائهم والإحاطة بعثراتهم وتتميم شخصياتهم بما يقوي مناعتهم ويحقق صلاحهم وفلاحهم ، ويبقى الأبناء ، البنات والأولاد ، نهباً للأغيار .
كلنا يعرف بيوتاً تعتبر التربية جزءاً مهملاً من الموضوع ، ولعل ترتيبه يتأخر خلف الواجبات الاجتماعية التي تنهك ميزانيات الأسر وتركيزها ، وأن دروس التربية التي يقدمونها تأتي تبعاً للأخطاء التي تصدر ، يوم يفوت الوقت ويصعب انثناء العود بعد اشتداده .
إذ لم يعد للقدوة والإحسان مكان في عجينة التربية ، والأمر متروك للصدف أو مواقف " خارج دوام " .
التربية مسؤولية عظيمة ، وأمانة كبيرة ، وهي ليست من جنس الأعمال التي تحدث " بالبركة " ، كما أن ظروفها تضيق في الأزمان المتأخرة ، لأن المكاره تزيد والأحوال لا تبشر .
العملية ليست محاصرة ، فهذا إفراط خاطئ يقابل خطيئة التفريط الذي نشتكي منه ، ولكن الأمر هو الاعتدال ، وطوفان التسيب الذي نواجهه هذه الأيام لم يسبق إليه ، فينبغي الانتباه .
الشارع يزخر بالذئاب التي تعرض خدماتها مغلفة بالاهتمام الذي يفتقده المراهق في بيته ، ولكنه ينطوي على انسحاب الابن من ظل أسرته وانسكاب الماء في حجرته ، والفهم كفاية .
……………

الكتابة : هي رصد تجربتك في مكابدة المعنى .

……

احرص على ألا يقيم الحزن لديك طويلاً ، ولا يدوم الهم في أعماقك كثيراً ، فهو مثل مستنقع كلما طال مكثه وركوده ساعد في تبيئة المخاطر وفي استضافة الكوارث المميتة .
تشاغل بمسؤولياتك ، وانصرف إلى واجباتك ، وتخلص من ضغط الأحزان والهموم ، سيما تلك التي تفقد فيها قدرتك على التغيير ، وتأثيرك في تقرير المصير .
أما ما كان مصدره عقدة قائمة ، ومشكلة ماثلة ، فليس أفضل من مواجهتها بهدوء ، ومكابدتها برويّة واعتدال ، خير من الهروب عنها وتجاهلها .
الحزن المقيم مباءة للمفاسد ، وفرصة لتكاثر بكتيريا اليأس وبراغيث العجز القاتلة ، استرجع ذكرياتك السارة ، وأخبارك المبهجة ، واجعلها مثل وقاء دون مهاجمة الخواطر الشيطانية التي تبحث عن مقتل في جدار سعادتك وانبساطك .
اعتصم بحبل الله ، وتذكر أنه يدير حياتك على كفوف الرحمة والعدل والحكمة ، احتفل بأشيائك البسيطة التي تضيء زوايا العمر ، تذكر أن لديك مجتمعاً يتقبلك ويستعد للوقوف إلى جانبك دائماً ، نوع خياراتك اليومية لتبدد سحب الروتين التي تخيم في فضائك ، وأخيراً استدعي ذلك الوجه الدافئ الذي تحبه ، لتطفئ آخر عود يحترق تحت بساطك ، ثم استمتع ليس أكثر .

…………

لدي شبه قناعة ، أن " اليوميات الشخصية " تقف وراء كثير من المشاكل أو المباهج .
وهي تشبه " نمط العادات " التي يقول بها خبراء التنمية البشرية ، ولكن اليوميات أقل تماسكاً وثباتاً من العادات الراسخة ، بما يجعلها تتسرب بهدوء وتترك تأثيراً عميقاً على الإنسان في حياته .
اليوميات بمعنى الاختيارات الشخصية التي يلتمسها الإنسان لنفسه في بعض أيامه أو أغلبها ، بغرض الترفيه أو التعلم أو الواجبات الاجتماعية .
وهي المسؤولة - حسب قناعتي غير التامة - عن تشييد أبنية الروتين الخانق في مساحات الإنسان وإنتاج حالات الطفش والسأم وضعف الإنتاجية الشخصية والفاعلية الاجتماعية .
كلما كانت اليوميات متنوعة وثرية ومتجددة انعكس هذا على أداء الإنسان ابتهاجاً وثراءاً ، وبضده لو كانت متوقفة ولا تعبر عن ذوق الإنسان وارتياحاته .
اليوميات غير المنضبطة بخلاف العادات الراسخة لها تأثير طويل الأجل على الشخص ، وهي مشتتة بطريقة غير منظورة ، ومتراكمة بشكل يجعلها شديدة الوقع والتأثير .
المهم بالنسبة لي ، أن لا تكون تلك اليوميات خالية من فروض المسؤوليات والواجبات لنفسك وأهلك ومجمتعك ، مثل تقاليد الوفاء والإحسان والخيرية .
احرص على يوميات ماتعة ومتجددة ، واحرص أكثر أن تكون برفقة جماعة من " الكويسين " ، إنها حياة جميلة .

……………

ليس مثل الوضوح شيء ، وهو تجسيد واقعي لمعنى الصدق وفضيلته في حياة الإنسان وسلوكه .

الحوار والتفاهم مجرد تطبيقات له ، يتجسد فيها الصدق عبر الوضوح ، ويتكثف في قول الإنسان وفعله ، إذ كلما كان الإنسان صادقاً ، كانت كتلة الوضوح لديه ثقيلة ( مؤثرة ) ومبينة ( معبرة ) .

المباشرة في مواجهة الحقيقة واحد من نتائج الوضوح المدفوع بالصدق والمشفوع بالشفافية ، والمرواغة نتيجة عكسية مزعجة .

الوضوح تقليد أخلاقي ، يستكره الرذيلة ويستبطن الفضيلة ، وينشد الحق في أجلى صوره وأزكى تعابيره .

وإنك تجد للكاذب والمرواغ ريحاً طاردة ، وصورة قبيحة .

بخلافه الواضح الذي يتعطر لسانه ويشرق جنانه ويأتلق بنيانه ، وهو يحافظ على متانة علاقاته بوثاق الصدق الزاكي ورباط الحق النقي .

والإنسان قد يستظرف الكذب أحياناً حتى يستمرؤه ، ويستخدمه عبثاً في غير مواطنه المضطرة فيستحليه ، فيحيق بالنبل من داخله ويحيطه بجنود لا قبل للحق بها ، حتى تصبح علامته الظاهرة وعادته الفاجرة .

الكذب مما يخرم المروءة ، وينافي الإيمان ، ويضاد الرجولة ، ويحاكي الشيطان ، ويسقط المرء في يده ، وفي أحابيل كذبه وعقابيل زيفه ، فعوذاً بالله من شره وباعد ما بيننا وبين ضرّه .

……………

أعتقد أن المجتمع يواجه أكبر موجة من " منسوب التفاهة " التي يتعرض لها عبر الوسائط الجديدة .

قديماً يجد مثل هذا في مجالس العامة ، غير أنه ينضج بمجالستهم ومعافستهم ، ويختبر الحياة وظروفها ، والبشر وأنماطهم ، ويواجه عرضاً مجموعة من التفاهات كجزء من طبيعة الحياة وترتيب المعيشة .

لكنه اليوم يواجه أرتالاً من التسخيف غير المسبوق ، وأكواماً من مناسبات التسطيح المزعج ، حتى تكاد تأتي على استعداده المفطور للجد ، وإمكاناته لحياة مثقلة بالاهتمامات والمشاريع .

يكفي أن تطالع حال شاب مستسلم لما يرد إليه عبر محادثات " الواتس آب " ، مجموعة مقاطع الفيديو التي تشل بصره وبصيرته ، والإشاعات المكذوبة والملفقة التي تذوي بالعقل ، ورسائل النسخ واللصق التي تميت المشاعر ، وكل ذلك الذي يزهق وقته ويضيع فرصته للعمل والاجتهاد .

إن " الإغراق التافه " قد يعيق أصحاب المشاريع الجادة ويذوب بنشاطهم وحماسهم لمآلات إنجازاتهم ، فكيف بالفارغ الذي لا يملأ وقته عمل ولا جوفه هم ، فذلك أدهى وأمر .

تعودت على مجانبة كل هذه الروافد التي تصب مزيداً من إمكان التفاهة إلى وجداني وعقلي ، وألزمت نفسي تجاوز هذه التفاصيل التي تبعثر تركيزي وتشتت انتباهي ، وإن ساعة أصرفها في الانطواء على نفسي منكباً على اهتماماتي المتواضعة ، خير من دقيقة أصرفها في شتات هذه الشبكات والأدوات التي تبعثر جمعيتي على قلبي وعقلي .

ولا عزاء لمن أذهب جملة شبابه في الاستئناس بكمية السخف الذي يضطرم في هذه الأقبية الافتراضية .

وقد تجدني ساهم الفكر ، مسبلاً هاتفي في طرف كمي ، أعبث ببقايا أفكار وأسرار اختزنتها من محادثة عميقة مع شخص عفوي ، أو هوامش كتاب دسم أثار كوامن البال ، ثم أستيقظ من غيبتي الذهنية مشبعاً بالأفكار ، نشيطاً كأنني قفلت من حديقة غنّاء ، ذلك لأن اشتغالك بمخاض الواقع أفضل من خديج الافتراض .

واليوم تعج مجالسنا بالواجمين من " الخرص الإلكتروني " حتى فقد الشاب استطاعته على التعامل اللبق الناضج ، ومجتمعنا فوق قصوره في فن التعامل والتواصل ، انضاف إليه حالة الانقطاع الواقعي ، وآفة الهوس بالتواصل الافتراضي .

……………

مريع واقع أن تملك حياة خالية من العزائم ، وتعيش عمراً مكتفياً بحد الضرورة الأدنى من وصف رجل يعيش فقط ، بل تتحين في عيشك الرخص ، والفرص للتوقف عن تكاليف المعيشة الضرورية .

ورائع جداً واقع أن تعزم على سلسلة مشاريع واهتمامات يراد منها بناؤك وتشييد المباهج حولك ، أو تركز عازماً منصباً منكباً على هم واحد ومشروع جامد تعقد فيه العزم وتدفع له الغرم وتأخذ منه الغنم .

لديك إمكانات تستحق أن تصرفها فيما يليق ، ولديك واقع يتعطش إلى أدوارك وحضورك ، والأمر يتوقف على تقديرك لتلك الإمكانات ، وتحريك لثغرات الاحتياج .

كلما قلت حياتك من العزائم تجوفت أكثر ، أصبحت فارغة من تماسك المشاريع ، بجدار واهي وخفيض ، عرضة للاختراق وورطة العبث .

اعزم على شيء ، فإن الخير والبركة والفضل من عزم الأمور .

……………

هناك " مجتمع احتفالي " بحيث يستغل كل فرصة متاحة للانبساط والأريحية بشكل كرنفالي ، وهو ما عليه المجتمعات الغربية ، فمناسبات الاحتفال هناك متعددة حتى في أبسط التفاصيل ، وذلك ينعكس على روح المرح داخل العائلة والحي - حسب خبرتي البصرية لا غير - .

وقد تكون الحالة الاحتفالية التي عليها المجتمعات الغربية تعويضاً عن مستوى التفكك الاجتماعي بخلافها المجتمعات الشرقية التي تتمتع بروابط حميمية وتماسك اجتماعي - مبالغ به أحياناً - .

غير أن المجتمعات الشرقية بدأت تتصحر ، ومشاعرها وتماسكها الاجتماعي يتسرب إليه الجمود والرتابة والتقليدية ، بما ينتزع منها المعنى الحقيقي والأثر الوجداني للتضامن الاجتماعي .

بل وصل الحال ببعض مناسبات الفرح المنصوصة دينياً أن فقدت سحرها وأثرها العميق ، نتيجة انسحاب الحكم الاجتماعي الرتيب على المعنى الديني القشيب .

ثمة مجتمعات ما زالت تحتفظ بطبيعتها الفرائحية المندسة في تقاليدها وربما دياناتها المتعددة - الهند مثلاً - ، ومجتمعات أخرى اتخذت الانفتاح والبحث عن حياة ماتعة كردة فعل طويلة الأجل بعد ظروف تاريخية قاتمة - لبنان والكويت مثلاً - .

وأخرى ما زالت تنطوي على صرامتها الصحراوية في باطن تكوينها ، وتستحدث المبررات الدينية لخنق كل بادرة لبث الفرح وتوسعة مساحاته في الحياة العامة .

المجتمع المتصحّر ، المتخشب ، الذي يكون فلكلوره الشعبي تجسيداً لقصص الحرب والبسالة والقدرة على التدمير .

مع الوقت يصبح المجتمع مسموماً ، كل شيء عرضة للتفسير التخويني والاتهامي ، تتطاير الكراهية كالشرر الذي يقدح في تماسك المجتمع ويهوي بكيانه ، يبحث المجتمع عن موئل في عالم افتراضي يرتاح فيه لبعض الزيف من حمم الواقع ، يتمنطق بأحزمة الهروب والسفر إلى الآخرة المتعجلة أو الجوار المثخن بفرص الفرح المهاجرة والمتع العابرة .

المجتمع الاحتفالي هو ذلك الذي يشد رحاله إلى المعاني الفاضلة ، يمجد السلوك النبيل ، ويجعل للأفراح مواعيده المعقودة ومباهجه المرصودة ، الذي يغض الطرف عن جوانبه المظلمة حتى يذهب ريحها ويختفي أثرها ، وإلا ابتدرها بالفرح الحاشد وزاحمها بمناسبات الاحتفال المتعدد ، حتى تضيق ذرعاً وتغادر واقعهم .

الحالة الفرائحية ناتجة عن تنمية الحس الاجتماعي تجاه الزوايا المشرقة ، وتوطين الفرح في كل فرصة مشرعة ، بث الإحساس بالعدالة والمساواة والتكافؤ ، حتى ليصبح الفرح الصغير بهجة للأمة كلها بفضل العدل وإحقاق الحق وإقرار الكرامة للجميع دون نفس للفساد أو دور للاستبداد .

المجتمع الاحتفالي هو المتوقف عن التأفف ، الذي يرى الصيف الغائظ سبباً كافياً للشعور بنهاية العالم .

…………

رويداً رويداً يضاعف من أنشطته الأنانية ويفقد وهجه الاجتماعي ، ينسحب بشكل ملحوظ من أنشطته التشاركية ، مثل الحديث في المجالس ، الأكل برفقة مجموعة ، الصلاة مع الجماعة ، ممارسة الرياضة ضمن فريق ، حضور المناسبات ، على الأقل مشاهد التلفاز إلى جانب العائلة .

لا شيء سوى شاشته الصغيرة التي تنطوي على عالم مضطرم وصاخب مملوء بالفراغ ، أصبح منقطعاً كأنه خلق في قفار نائية ، يلتحف السماء ويتوسد الأرض .

إنه عالم افتراضي مزيف ، يشعر داخله ببعض الحضور الصناعي ، ويستغني عبره عن حاجته إلى الآخرين وواقعهم المزدحم بالتكاليف والواجبات الشاقة .

هذا يخفف من وطأة شعوره تجاه المنافسة المكلفة في محيطه ومع مجايليه ، ويعالج من ضغط إحساسه بالانكسار عند الخيبة وفرحه بالإنجاز ضمن احتكاكه الاجتماعي ، سيما وأنه كان قليلاً ما يتحمس لهذه الاعتبارات والشروط .

الآن أصبح قصوره الاجتماعي له ما يبرره وأحياناً ما يضاعفه ، ويجعله عملاً نبيلاً .


……………

منذ فترة طويلة لم يختبئ هروباً من قصور واقعه ، المرة الأخيرة كانت أيام طفولته ، يوم كان يحتجب عن عيون ملاحقيه حتى تنطفئ المشكلة ويزول التهديد .

يوم كبر في عمره أصبح أكثر جرأة في المواجهة ، وأقل حرجاً من مكابدة الواقع لتغييره ، أو بالأحرى أصبح أكثر مراوغة وتحايلاً في ذلك ، إذ يبحث عن كل ملهاة للتخلص من ضغط الحقيقة ، وعن مهرب عملي للاعتذار عن المواجهة .

عندما أصبح مسؤولاً بالكامل عن حياته بفضل كونه كبيراً بما يكفي لتحملها وحده ، تخفف من " شركاء المسؤولية " ومتطفليها ، ربما كان العبؤ أكبر ، ولكن المواجهة أصبحت أكثر عملية ومنزوعة من الآثار النفسية التي ترهق ولا تنفع .

بعض شركاء المسؤولية إضافة مزعجة ليس أكثر ، دورهم هو النفخ في شبح المشكلة حتى تستعصي على الحل والمواجهة ، انضمامهم مجرد تذكير مستمر بالقصور ثم شهود على خيبة الهزيمة ، ويوم تكون النتيجة سيئة ، يكون الوقع أكبر والأثر أظهر لأن عيون الشركاء ترمقك بالشفقة أو التأنيب ، وقتئذ لا بارك الله في فرعون جاء في ثوب العون .

بالعودة إليه مستقلاً ، وفي عرض مواجهته لقصور واقعه ، يوظف استراتيجة المقارنة منخفضة السقف ، بحيث يبحث عن أشباه المعاناة ليتعافى من الشعور بالألم ، ثم ينتقل إلى استظهار الجوانب التي تفضله عنهم بخطوة وربما خطوات ، يشعر بالهدوء يتسرب إلى داخله ، ثم تخالطه الثقة من جديد ويطلق ساقيه هارباً إلى الأمام .

التسويف يضاعف الأزمات ، ولكن التأجيل أحياناً هو ترحيل المشكلة إلى وقت تتناسب فيه الإمكانات في ظل الواقع ، ويرتفع مستوى الاستعداد بما يؤهل لإنجاز المهمة والحصول على أفضل نتيجة .

وبالنهاية الاستقلال الذي يعطيك المسؤولية الكاملة ، هو الخارطة الأنسب لمواجهة قصور الواقع وأزمات المرحلة ، مع حفظ أدوار المعاونين برسم الاستدعاء لا الادعاء ، ومن واقع الحاجة لا التطفل .

……………

صديقي الشاب :

الشباب أفضل مراحل عمرك ، إذ تكون الطاقة في أوجها ، والحماس في ذروته ، والفكر في فورته .

إذا لم تكوّن علاقاتك الاجتماعية الثرية ، وتستظل بمشاعر الحب والتلاحم والتآخي ، متى ستفعل ذلك ؟

إنك بانقطاعك الافتراضي تحرم نفسك من فيض المشاعر الحميمة ، والأحاسيس الدافئة ، التي تخلق منك رجلاً طبيعياً ، وتنضج جوانبك العقلية والعاطفية .

ذكريات الصبا الزاهية ، وأحلام الشباب الفارهة ، الأنس بالأصحاب ، الضحك الهستيري ، والتضحية والوفاء ، وسواها من أفضل ما لدى الإنسان من مشاعر ، لن تحصل عليها إلا في شبابك ، لماذا تحرم نفسك ؟

لماذا تنغلق على هذه الهواتف المتبلدة ، والشبكات المتجمدة ، بينما يشع الخير في محيطك ، ويناديك لتشعر بذاتك ، وتكتشف نفسك ، وتعيش أغزر مراحل عمرك بالخير والأنس والسعادة .

صديقي الشاب :

إذا لم تجرب حلاوة الطاعة ، وتستغرق في التعلق بالله والإتيان بواجباته ومراضيه ، تؤجل هذا إلى متى ؟

إن العبادة شاقة ، ولها مراقي نحو استملاحها واستعذابها تتطلب من الجهد ما ينوء به المرء إلا في شبابه ، وإن المتعبد شاباً أقدر على البلوغ من المنهك بدنه والمخرومة روحه .

في الشباب صفاء يناسب روح العبادة ، وفي الجسد قوة تضاهي المشقة ، وفي الوقت فراغ يستوعب التكاليف ، وفي الصدر حماس يعادل المرامي العظيمة ، وفي العقل تحفّز ينتظر هطل المعاني ، وفي القلب صدق وإخلاص منكب على الأعمال ، وكل ذلك لا يحدث إلا في شبابك ، وإن قصرت في الاستثمار آل سعيك إلى البوار .

صديقي الشاب :

إن الحياة تحدي ، لتخوضه وتتجاوزه بأفضل النتائج ، يتطلب ذلك قوة معرفية تضيفها إلى إمكاناتك الأولية ، تلك الإمكانات البدائية بحد ذاتها لن تكتشفها وتبني عليها بغير المعرفة ، متى ستحصل على المعرفة ؟

والشباب إذا لم تستهلكه في التزود بالمعارف ومراكمة العلوم وتنمية الفهوم ، فإنك أضيع ما تكون كالريشة في مهب الريح ، قابلاً للانمحاء .

سيأكلك الندم يوم يتصرّم شبابك ويصبح جزءاً من الماضي ، ثم تنظر إليه فتجده مركوماً بالتوافه ، ملغوماً بالضياع ، بينما الآخرون أثروه بالعلم ، وأغدقوه بالمعرفة ، فأنبت الخير كله ، وأشعّ بالفضيلة من جوانبه .

الشباب أفضل فرص الاستعداد لخوض تحدي الحياة ، وبغير استثمار هذا الزمان العمري القابل للتشكل ، ستبقى بنيتك هشّة ، وأرضيتك رخوة ومنفلتة .

................

إذا طرأت لديك " فكرة ما " فإن نقاشها مع شخص عفوي أفضل من الحديث مع آخر معتد بثقافته .

الحوار مع العفوي أكثر بساطة وصدقية ومباشرة من غيره ، ستجد المعنى الخام لديه غرّاً طرياً كأنه للتو ولد .

هذا يجعل من عملية تطوير الفكرة وتخلقها يأخذ مساره الطبيعي ومراحله العمرية بتؤدة ووعي كاملين في طريق النضج السويّ ، أفضل من قفز الحواجز بتأثير استعجال الانتهاء إلى أطراف عالم حاذق يقبض على فكرتك العذرية ويسوقها في مساربه التي جرّبها وطرقه التي اختبرها ثم ينقلها إلى حافة الاستقرار الذي يملك مفاتحه وبراهينه .

وبذلك تكون فقدت النهايات التي قدّر أن يكون لها شكلها المختلف لو استخدمت طابعك في التأثير على تطوير الفكرة وتخليقها ، وتموت نواصي الفكرة التي أغرتك وقبسها الذي ألهمك ، ولم يكتب له على يديك - كما قدّر - أن يشتعل بأفق آخر يجدد للإنسانية أمر رشدها وديمومتها على وجه الأرض .



النقاش مع المدجج بالمعرفة الواسعة - وإن كان أكثر حصافة وتجربة - ولكنه محاط بالإضافات وملفوف بالتلفيقات التي يظنها مفيدة .

الفكرة بكر في أصالتها ، محاولات تطويرها عبارة عن عملية تخصيب وإنضاج قد تفيد أحياناً ، وفي أحيان أخرى تتورط في شباك التحليلات والتشعبات والترابطات غير الأصيلة .

النقاش مع المثقف مثل محيط تغرق فيه الفكرة وتخسر ملامحها الأولية ، بتلك المضافات العقلية والمعلوماتية المتبحرة حتى تبتل أولاً ثم تغوص ولا تظهر .



وهي تفقد عذريتها وبالتالي قدرتها على التوليد الدائب ، لأن عملية حسمها بالمعارف المسبقة والقواعد المؤسسة يشل قدرتها على التدفق من معينها المتفجر ونبعها المتخثر .



إنك بالحديث إلى عفوي كمثل طوارق المسائل العابرة التي تستفتي فيها قلبك وترتاح إلى طبك ، بدل أن تذهب بها إلى فقيه مأخوذ بغرور العلم وجلال الفهم فتقع فيما كفيت عن استفهامه ورفع عنك حرج وجوبه بالكف عن سؤاله .



من مظنون العلم الخائب والفهم المجانب ، أن كثيراً من التحليلات التي استقرت علماً ناجزاً وإجابة كافية مقنعة ليست سوى جانب واحد من أصول الأفكار ومبتدأ الأخبار ، فإن نواة العلوم ومحجة الفهوم قادرة على استنبات جديدها وقدّ مفيدها بدون توقف وكلل ، وهذه القدرة على الإنتاج المستمر تعني لزومية نسبية الثقة فيما استقرت عليه العقول وشاع من المعقول ، وفتح آفاق العلوم بما يدفع إلى تجديدها وإعادة النظر الدائب في مسلماتها ومستقراتها .

…………………

لماذا تتصرف بنزق مع عامل المطعم الأجنبي ؟ هل كانت قلة الملح في طبق الفول كافياً لتصرخ في وجهه ؟ حتى أحاط به الخجل أمام بقية الزبائن .

إذا كنت منزعجاً لأن علاقتك بزوجتك ليست بأفضل حال ، أو تمر بضائقة مالية أجبرتك على تناول الفطور في هذا المطعم الشعبي البائس .

فإن همومك التافهة لا تساوي ما يعانيه ذلك العامل المسكين ، ليس أقلها كونه صبياً لم يبلغ الحلم ، دفعته الظروف للتوقف عن دراسته ومغادرة بلده إلى الغربة طلباً للرزق وقد أحاق الجوع والعوز بأهله .

طاولة طعامك الفارهة ينقصها تفصيل صغير أفسد مذاقه حتى أظلمت الدنيا في عينيك وبالتالي " خرّب عليك يومك " ، وكأن العامل تحالف مع تلك الظروف الساذجة التي جعلتك متوتراً ومنفعلاً إلى هذا الحد .

ولكنها بالمحصلة لا تساوي جبال الهم التي تثقل كاهل ذلك العامل المسكين ، إنه في بلد نائي تفتك به الغربة ، لم يعش طفولته بشكل كاف أو عادل على الأقل ، أهله يتضورون جوعاً وفقراً ، وأمه أنهكها المرض ، وبلده في حالة حرب لا يدري أيسلم فيها إخوته من قدر الموت الذي يحيق بهم أم لا ، أخبارهم عنه مقطوعة ، الوصول إليهم مستحيل والاتصال بهم صعب في ظل هذه الظروف القاهرة ، منذ ساعات الفجر الأول وهو يلتقط أنفاسه أمام المخبز ، رب عمله يكيله بالتوبيخ ، وفي الليل عندما ينوي أخذ حاجته من الراحة والنوم تزوره كوابيس بلده المتعب ويؤرقه الحنين الممضّ إلى أهله ومرابع صباه .

ثم تأتي وأنت الآمن في سربك والمتعافي جسدك والمتخم بنعمك ، ترفع صوتك ناهراً وموبخاً لأن قليلاً من الملح التافه أفسد مزاجك .

أعرف هذا النوع من الناس ، خوّار يستقوي على المستضعفين ، يفرز شعوره بالنقص في التطاول على من يؤمن جانبه ولا يخشى من رد فعله ، لا يملك أبسط آداب اللياقة والتحضر ، وربما أبسط مواصفات الرجولة ، أسد عليه وفي ..... نعامة .

ولأن الدنيا تدور ، والأيام دول ، والحال لا يدوم ، فإني أخاف أن نؤاخذ بجريرة هذا النوع من التافهين ، وأن تغار النعم مما فعل السفهاء منا .

ولذا أحيطوا مواقف الانتقاص الذي يبديها أهل الرعونة بمواقف النبل والأدب الجم والمعاملة الطيبة ، أحسنوا إلى الضعفاء ، طيبوا خواطرهم ، بشّوا في وجوههم ، اسألوا عنهم، شاركوهم بعض اهتماماتهم ، أغدقوا عليهم العطف ولا تكسروا نفوسهم فوق ما هي فيه من الانكسار وقلة الحيلة .

….……………

احتفظ ببصيرتك ، ولا تغشينها حجب الشهرة ، أطلق عفويتك التي نمت في بدائيتك من عقال أطماع الظهور الفلاشي .

طبيعتك القروية المنسجمة لا تعرضها لطحن الشوارع المدينية الصاخبة ، لا تدفعها إلى قارعة التحضّر الإسمنتي فتسحقها بكثير من اللامبالاة والتجمّد.

احمي طبيعتك من زيف المظاهر ، لأنها تعبث بجوهرك وتشتت انتباهك وتؤذي استقرارك الداخلي ، منصات الأضواء تحيق ببساطتك المنطلقة وتعيق تطورك المنسجم الهادئ متزامناً مع ظروفك واستعدادك وإمكاناتك الفردية والبيئية .

لا تطمع في الشهرة أكثر مما ينبغي ، فمهما اتسع ذكرك وارتفع قدرك ، لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً ، ومهما ذاع اسمك وطبّق رسمك ، لن تطوي الجغرافيا بمحيطاتها ويابستها ، ولن تبتلع الأرض ببشرها وشجرها .

ستبقى كما أنت محدوداً ، قابلاً للنسيان ، عرضة للتلاشي ، ولن تنال من رهق اللهث وراء سراب الشهرة إلا التعب والعرق ، ويضيع الوقت ويتصرّم العمر قبل أن تستوفي حقه من القيام بواجبك وتحقيق مناط حياتك ، وأقلها الحصول على حظك من المتعة والراحة ، وتلك السعادة المبثوثة في نصيبك البسيط والمتواضع من الحياة ، وطريقتك في عيشها بعفوية .

اشتغل على محيطك ، احصل منه على تأشيرة قبول اجتماعي مكتنزة بالطمأنينة ، هذا أكثر حكمة من طمعك فيما يفوق طاقتك وجغرافيتك ، القدْر المرصود لك من المعارف والنعم والفرح في زاوية قريتك هو أولى بك ، تطلّعك لأبعد من ذلك يحتاج إلى اجتهاد متعقل وحماس معتدل ، والنتيجة تتوقف على : تحقيق الأسباب المنطقية واستجابة الظروف المحيطة وابتسامة الحظ المتعالي .

صور الجنائز المتوالية على حدتها تعطي صورة كاملة للمشهد ، عندما ترى التفاصيل المهرولة لتوديع شخص كان يملأ المكان وقد تحول إلى جثة هامدة بلا حول ، وكأنك تشاهد مسرحية الحياة من زاوية كاشفة أعلى المنصة .

يستعجل أهله في دفنه إكراماً لميتته وكأن الأرض تتوق لابتلاعه ، والناس يسرعون إلى بتر المأساة التي نبتت بداعي الحزن على وفاته ، ينهال عليه التراب بأيدي كانت تتمسك به أيام حياته ، عندها تتذكر أن شيئاً من عبث اللهث لا يجدي بحال .

تضيء ذكراك المتبقية مثل شمعة يكون اشتعالها بداية انهيارها ، وكأن البدء إعلان النهاية ، تنسحب ذكرياتك خجلاً من البقاء ماثلة في ظل غيابك ، إذ تكون الذكريات عارية يوم يرحل صاحبها ، فالذكريات كانت قبلاً مجرد مواقف في مصفوفة يومية تتوارد بشكل حيّ ، عند الموت تتوقف هذه المصفوفة عن التنامي ، ثم تخلو تماماً كمحطة انتظار لقطار أعلن توقفه عن العمل ، وتكتسب تلك المواقف إهاب الذكريات ، ويمنحها الموت بعضاً من روحه المهيبة ، تنزاح المواقف السلبية تقديراً لمقام الموت ، ولكن الذكريات عمرها أقصر من إضاءة خاطفة ، يغمرها النسيان مع الوقت ، ويطويها التقادم ، تتساقط مثل أسنان كهل ، حتى يصبح حضورك باهتاً مثل أثر جلسة على تراب ناعم فوق أرض جحودة .

ماذا يمكن أن يعوّض عن هذا الانسحاب الحتمي لبقاء الإنسان فوق الأرض وفي أحشاء الحياة ؟ الحقيقة أنه لا شيء مثل الأثر الطيب ، وهذا بالاشتغال على ضوء قدرتك ، وتطوير أقصى تأثير تستطيعه في محيطك ، ثم ستحصل على بُعد المسافة والمساحة تبعاً لقيمة ما تملك ، مسؤوليتك تتوقف عند عتبة بذل الوسع والجهد لتثمين حياتك وإثمار دورك .

" البركة " وهي لاعب غيبي في مسألة الحياة تتدخل في توسيع أثرك البسيط إلى نتيجة سرمدية ومثمرة ، وهذا يحصل بتنزيه خطواتك من حظوظ النفس وإضرار الخلق ، وجعلها خالصة لنفع الناس ومقبلة على الله بكليتها ، و"إنما يتقبل الله من المتقين " .

………………

اتخذت قراراً منذ أمد ، ألّا أخوض حديثاً ودياً مع أحد المقربين عبر وسيلة تواصل افتراضي إلا فيما يندر ويلحّ ، فغالباً ما كان ينتهي حديثنا بسوء الفهم وانكسار الخاطر .

كنت أحاول أن أبدو عبر هذه الوسائط كطبيعتي ، خفيف ظل ، ومملاً في المزح ، ومزعجاً بالتعليقات كما أظن في نفسي ، ولكنني أقع في ورطة .

الواقع أن جزءاً من السبب يشاركني فيه الآخرون ، إذ عبثت هذه الآلات في تلقائيتهم ، وأصبح معها الشاب مرهفاً أكثر مما ينبغي ، مستوفزاً وكأنه في جبهة حرب ، عرضة لتفسيرات فوق ما تطيق التصرفات العفوية .

لا توفر الوسائل البديلة " أبعاد التواصل الطبيعي " التي تجدها في المواجهة المتزامنة ، لا ملامح دافئة أو حادة ، لا صوت صاخب أو هادئ ، لا عينين مجلوة أو منطفئة ، لا مظهر متقبل أو مرفوض ، لا وجدان مفعم أو خامد ، كل ذلك لن تجد قطعة منه في حديث افتراضي فاتر يغلب فيه حر الشك على برد اليقين ، ويسرع إليه سوء الظن قبل استقرار الثقة .



تغريك في الوسائل الجديدة سرعتها وسهولتها وتلك المضافات الميديائية التي تحاول جعل الحديث حميمياً أكثر ، ولكنها بجملتها لا تساوي حديثاً مباشراً مع شخص أثير ، إذ تتركه محملاً بالود ، مغرورقاً بالارتياح ، مشتاقاً لصدفة أو موعد يصلكما بالحب .

التقنيات الحديثة جعلت الأمور أكثر بساطة ، ولكنها أكثر سخافة كذلك ، لم يعد للشوق والحنين محل في إعراب الوقت المتسارع ، لا تنمو المشاعر بطريقة طبيعية ، يوم تلتقي بمن يفترض أنك باعدته لزمن ، سيصدمك حجم البرود الذي يواجهكما عند اللقاء ، والتشبع المفضي إلى ملل من نوع ما ، لأنك كنت للتو تلتقيه في وسيلة اتصال افتراضي ، لا معنى للقائكما ، لا جدوى منه ، لا روح فيه .

جرّب أن تتجاوز إغراء التقنية المزيف ، وعبث المشاعر الصناعية التي تعتمر هواتفنا المخادعة ، اجعل شوقك ينمو بعفوية ، ويوم تلتقي بجيران قلبك ، ضمّهم إلى صدرك بكل ما تملك من عضلات الحب ، تحدث إليهم وكأنك ماكث إلى جوارهم العمر كله .

اسمع : لعلك تفتقد الأصدقاء والجلساء بشدة ، وبالأحرى تفتقد نسخهم القديمة ، قبل هجمة البدائل الجديدة ، لا تنضم إليهم في " قروب " فهذا لا يضيف إليك قيمة أو إحساس ، حثهم على اللقاء الحيّ المباشر ، ساعد هذا العالم في مداواة روحه من شراك التقنية وإدمان التكنولوجيا الذي يكاد يوديه صريعاً في سحيق الجفاف .

….………

لا يوجد نجاح من غير كُلفة ، النجاح الذي تحصل عليه ببساطة وراحة مشكوك في قيمته ، ويجب أن تعيد النظر في حقيقته .

كلما زاد حجم النجاح زادت كُلفته طردياً ، وكأنه ثمن تدفعه مقابل الحصول على ما يعادله من الإنجاز .

نجاحك في محيطك الضيق ، بلدتك البسيطة ، ليس مؤشراً كافياً على قيمة ما لديك ، فهو نجاح سهل ، لا يتطلب الكثير من البذل والجهد ، وغالباً تكون حصلت على انطباع التفوق نتيجة مجاملة لطيفة من مجتمع التأييد حولك ، أو انبهار سطحي لتقدمك بمسافة يسيرة عن إمكاناتهم التقليدية ، ليس في الأمر ما يدعو للانتباه والإعجاب .

حجم الفارق يتسع بخروجك من هذا الإطار الضيق ، الاحتكاك بالعالم الخارجي ، رفع سقف المقارنة ، حيث يزدحم الأفق بالكفاءات العالية ذات الاستعداد الجيد والإمكانات الفائقة والجهد المضاعف .

المنافسة في هذا الفضاء تحدي ، والتفوق نجاح ، تستحق معه التقدير والإعجاب والتصفيق ، والشعور ببعض الرضى مكافأة لك على المثابرة .

في طريق سعيك الشاق في مراقي النجاح ، ستصادف الأذى ، ستعترضك أذواق الناس التي لا تتفق عليك ، تباين زوايا النظر إلى كفاءتك ، تفاوت الأخلاق في تعاطي لغة النقد ، البعض يستفرغ فجوته التربوية في ثغراتك الطبيعية ، ويصبّ جام نزقه في هفواتك وتواضع تجربتك .

أحياناً تهولك كمية السلبية المختزنة في بعض الآراء ، لا تتأثر بكثافتها السوداوية ، غالباً ما تكون هذه نتيجة مناخ شخصي محتقن ولا تستند إلى مبررات علمية دقيقة .

كما أن ميولك النفسية تؤثر في توسيع دائرة السلبية وتضييقها بناء على قيم نسبية ترجح كفة على أخرى ، عالج هذا بضبط معاييرك واستدخال أدوات جادة أكثر عقلانية .

واتجه متعجلاً إلى الجوانب المضيئة من الواقع ، باشر نشاطك للإصلاح والترقية ، المكوث طويلاً في أقبية الظلام يسمّمك ، ويضعف مقاومتك ، ويطفئ جذوتك المفعمة ، كما أن ضرره يفوق نفعه ، فما الداعي للشقاء ؟

ومع هذا ، لا تتعالى على نقصك ، استخدم الآراء البناء التي تحدد بوضوح مواطن الخلل وتبتكر حلولها ، بعد أن تتجاوز تلك الهدامة التي تتعامى وترمي بشرر .



عليك أن تعتصم بالثقة ، شرط أن تكون تلك الثقة نابعة من تقدير موضوعي لذاتك وإمكاناتك ، بعيداً عن الرأي الانطباعي النرجسي حول ما تستحقه ويليق بك .

ثم تعامل مع تلك الآراء بواقعية وإنصاف ، اجعل محور تفكيرك أنها كمرآة تكشف مناطق ضعفك ، وتفحّص زواياك التي تتطلب ترميماً من جديد ، وتغافل تلك الآراء البشعة التي تحمل اقتراحات حادة منشؤها صبيانية التفكير والتعبير .

اجعل تركيزك في تناول هذه الآراء ، أن لديك ما يستحق النقد ويحتاج إلى التطوير ، وربما تعديل وجهته باتجاه أفضل وأليق ، ولكن الهزيمة وإلغاء دورك ، ذلك خيار القانطين ونهاية العاجزين ، وهو ما لا يحسن بك فعله .

….………

فجأة أصبح ناشطاً رياضياً في مجتمعه !

لم يكن هناك مؤشر في تاريخه الشخصي يلمح إلى صلة من أي نوع بكرة القدم ، كان يمارسها على نحو تفرضه ظروف مراهقته المتدبذبة وجدوله الطفولي المزدحم بالتجارب غير المتسقة .

الإنسان في مراهقته يجرّب كثيراً من الأدوار ، بحثاً عن موطئ استقرار ومنصة قرار ، كثيراً ما تذهب اختياراته إلى نفق الانسحاب بدافع الإخفاق أو خطأ تقدير الظروف .

في النهاية ينجح في الحصول على ما يعتقد أنه الموقع المناسب ، وغالباً ما يكون ذلك ظن خائب وحماس غير محسوب ، ينتهي بنتيجة مملة وقرار بالانصراف .

العلّة الأصلية تكمن في التوهان الذاتي ، بمعنى أن الإنسان لا يملك فكرة مكتملة عن إمكاناته وطبيعته وجوهر قدرته على التأثير في المجال اللائق ، ويتسبب هذا في قلق الأدوار وضياع البوصلة وشتات الانتباه ، وربما يمضي عمر الإنسان عقوداً متطاولة وهو لم يحصل على موقف نهائي ناضج من ذاته ومجال تأثيره واشتغاله .

عندما ينضج المرء في عمره ، لا يترافق ذلك بالضرورة مع نضج في الاهتمامات والاختيارات ، وبالتالي تظل حيرة الموقع الشخصي مستمرة ، ويحدث ما يمكن تسميته " البناء في الفراغ " .

البناء في الفراغ بمعنى أن يتقمص دوراً معين من واقع أنه يعاني فراغاً حاداً لا يملك حياله خيارات جيدة ، فيلتصق بأكثر الأدوار شعبية وحيازة على الأضواء والتقدير ، وفي المجتمعات العادية ليس هناك أفضل من مجال كرة القدم ، القليل من المؤهلات مع إضافات صخبية مفرطة تصنع منك وجهة رياضية مهمة وقامة كروية لا يشق لها غبار .

الإنسان في رحلة بحثه عن موقع ، لا يلاحظ " تأثير المضافات " عليه ، تلك التي تتسرب إليك من محيطك ، جماعة أقرانك ، قائمة تفضيلاتك ، الأشخاص الذين يروقون لك ، وسواها من الجوانب التي تطبع تأثيرها بشكل أقل وضوحاً وأكثر عمقاً .

ولذا من المهم تحسس ذاتك وشمول تركيزك على نقاط الاحتكاك بالآخر وما ينتج عنه من أثر وتأثير .

وانتبه من " توهم الأدوار " وتصديقها ، كأن يعرض لك إعجاب بمجال ما ، ثم تصدر حكماً مستعجلاً بمناسبته واتساقه مع ذاتك ، وتتورط في بحره وتغرق في محيطه ، ثم يضيع العمر وتذهب الطاقة في غير محلها .

الإنسان ينضج بالحركة ، وتختمر لديه نتائج السعي خبرة مشبعة بالحكمة ، والباحث عن مظان الخير والفضيلة لابد واجد منطقة تأثيره ، والقائم خير من القاعد .

………

لا تكن محطة انتظار مؤقتة لمخلوق آخر ، محطة انتظار لقطار متوقف منذ عقود ، في بلد مشلول وعاجز عن الحركة .

لا تقف محسوباً على غيرك ، مثل حكومة ظل تمنّي النفس باعتلاء العرش واقتعاد الحكم دون أمل ، وكأن قيمتك لا يقوم لها سوق بغير أحد آخر سواك .

أعتذر عن هذا الإيحاء السياسي لتقريب الفكرة ، كل الأشياء تورطت في السياسة هذه الأيام !

المهم .. لا تنسخ أدوارك وأفكارك من الآخرين ، امتلك طبعتك الخاصة ، شخصيتك المنفردة ، أقول المنفردة وليس المختلفة ، الاختلاف لا يعطي انطباعاً إيجابياً ، ولا تأثيراً مفعماً ، ولكن التميز المشفوع بالاستقلال هو المقصود بطبيعة الحال .

كل شخص ستذهب متعته ، وتبقى حسرته ، سيخفت رونقه ، ويمكث أثره متفحماً داخلك ، أو مترمداً ، في شكل ذكرى يائسة ، أو غضبة بائسة ، أو برود شاحب ، يجمّد كل المشاعر الحميمة التي كانت تجمعكما ، وبالأصح تذروها رياح الأيام كهباء منثور ، ودقيق منشور في ليل مهتاج عاصف .

هناك الكثير من الوجوه تمر أمامك ولا تعيرها أدنى انتباه ، فضلاً عن التقدير الذي كنت تصرف أطناناً منه لتلك الوجوه التي كانت مألوفة ذات ارتياح ، الظروف تغيرت ، الزمن تبدل ، والتنائي ، ومشاغل الحياة ، كوّمت حواجزها بما يكفي لحسم تدفق المشاعر القديمة ، وإخصاء فاعليتها .

هل مرّ بك موقف مشابه ؟

شخص ما ، كان يستحوذ على جملة اهتمامك ، يشاطرك يومياتك ، وكأنكما سياميان لا تنفصلان بمشرط " الربيعة " ولا مبضعه الذي تكسر على طاولة وزير متردد ، ثم يصبح وبفعل انقطاع تفرضه ظروف الوظيفة أو الدراسة ، شخصاً عادياً ، وربما أقل من ذلك .

هل تتذكر مشاعر الحميمية المتطرفة يوم علاقتكما الأثيرة ؟ الوجه المألوف الذي يبعث على الارتياح داخلك ، البشاشة التي تأتلق في وجنتيك عند مصادفته ؟ لا شي يذكر منها الآن ، أصبحت مشاعرك محايدة تماماً ، وربما متبلدة ، وجهه أصبح في قائمة العابرين دون حاجة لتفحّص أذوناته ، حتى الذكريات خارت قواها عن أن تسترد شيئاً من مفقودات الماضي السحيق .

يا لأنانية الحياة ! آخرون يتموضعون في تلك الزوايا التي كانت تطرد سواه ، ولا ترتضي آخر غيره ، وجوه كانت في طيّ المجهولين ، ارتفعت أرصدتها في سوقك الداخلية ، القادمون من فوضى الاحتمالات ، حصلوا على تأشيرات مؤكدة بمناصب الاهتمام والاحتفال الشخصي ، الأشخاص الذين كانوا طرفتك الغاصة في الضحك ، أصبحوا قصتك الموغرة في التقدير ، ولا أريد أن أضيف مكرها : أن ألدّ أعدائك قد يصبح أشد أحبائك ، ربما ، فالله وحده يعرف عن أمر هذه الروح !

ما يهمّ ، ألّا يقتطعك أولئك الأشخاص غدوّا ورواحاً ، ويخترمون وجدانك كالمعابر المشرعة ، وأن تحتفظ بحدودك ، ووجودك ، وطابعك ، وتبقى مثل مزار مهيب ، له قدسيته ، ويجد الناس فيه مستراحهم ، ويعظمون أمر صاحبه ، وإن اقتربوه فبتقدير وإجلال ، وإن باعدوه فبمودة ومعروف ، وألا يرى الله منك إلا كل خير .

……………….

هناك مكون عنفي في الطبيعة الاجتماعية البدائية ينتشر بشكل مخيف ويمكن ملاحظته بسهولة .

يمكن اكتشاف ذلك عبر حالة الضيق والضجر المنتشرة كدخان في فضاء المجتمع ، وانحسار الحميمية وتصحّر العلاقات بطريقة متبلدة وذاوية .

عنف لفظي تتشبع به لغتنا اليومية ، حتى في الكلام السهل البسيط نستخدم ألفاظ اللعان والسباب والشتائم للتعبير عن متانة العلاقة وقوة " الميانة " .

هناك تطرف في الانطباعات الشخصية ، فمن جهة يختار أحدنا مخاصمة آخر لمجرد موقف عابر ويبالغ في استعدائه ويرفض أي فرصة لتعديل موقفه ، ومن جهة إن أحب فإنه يتطرف لدرجة غير معقولة ، يدفع في النهاية ثمن تطرفه العاطفي بأطنان من مشاعر البغض العكسية والكراهية الارتدادية .

هناك احتكاك إيذائي ، بمعنى أن أبسط صور التعامل الطبيعي بين الأفراد ، يمكن ملاحظة قدر الخشونة التي تميزها حتى تظن بهم العداء لا الصفاء .

يتضح ذلك أكثر في معاجلة الظنون السيئة وتضييق الخناق على الاحتمالات الحسنة ، فالطيب يمكن أن يكون انتهازياً ، والنظامي يمكن أن يكون متربصاً ، والحيادي يمكن أن يكون منافقاً ، ودواليك من التفسيرات التي تحول الجميع إلى قنبلة قابلة للانفجار بالحقد والكراهية .

هناك تعويض بشكل غير منطقي عن قصور اجتماعي يشعر به الفرد ويذهب للضغط على الآخرين لاستفزاز اهتمامهم ولفت تقديرهم ، وربما ينتقم من إخفاقه الاجتماعي بإيذاء الآخرين ليشعر بوجوده وتأثيره .

الأنانية تبتلع العلاقات ، الجميع يريد أن يقبض على الآخر ، وينفرد باهتمامه وتركيزه ، وربما سعى وجرى في طريق كسب ولاء الجميع ، حتى إذا شذّ مخلوق عن تقديم فروض الطاعة والتقدير لجنابه ، جنّ جنونه وجيّش العالم لإبعاده الاجتماعي وتبخيسه من عناية الناس واهتمامهم .

التقنية آثمة بكفل الجفوة بين الناس ، باعدت بين الأواصر الطبيعية وأضرمت الظنون السيئة ، إذ خلق الانقطاع الافتراضي واقعاً قاحلاً مزروعاً بشوك الضغينة ، وانحسرت الحميمية التي ترعى الحب وتلغي الضغينة .

هناك ما يضطرم في خلفية المجتمع ، يرزح المجتمع تحت طبقة من النفاق وقشرة المظهريات التي تبلدت تحتها المشاعر النبيلة ، إذ أصبحت غير مشبعة ولا مجزية في ظل حمى الاتصال الافتراضي الذي يشعل طموح الأفراد لتأثير أكبر مما يطيق واقعهم .

العنف الاجتماعي السطحي تعبير المجتمعات البدائية ، إذ تنعم المجتمعات المتحضرة ببث هذه الاحتقانات الفطرية في مسارب السياسة والتغيير الاجتماعي بعد تطوير بواعثها ومستوياتها برفع قيمة الوعي ودرجة الثقافة ، مما يخفف الضغط على الاستعداد البدائي للتنافس الاجتماعي .

………………

تعتبر التقنية واحدة من النعم العظيمة للبشرية ، وهي من المنتجات المميزة للإنسان بفضل تمكين عقله في سنن الطبيعة وقوانينها .

وهي يمكن توظيفها في تطوير إمكانات الحياة ومعالجة جوانب القصور فيها بحسن الاستغلال والاستثمار الإيجابي .

وفي المقابل يمكن أن تتسبب في آثار سلبية ، خاصة على العلاقات الثنائية ، وطبيعة التعامل بين الأشخاص ، ويتضح ذلك داخل الأسر وجماعات الأقران إذ تعاني من جفوة حادة في ظل انهماكهم بهذه الوسائل البديلة .

يمكن توظيف التقنية في تطوير آليات التعليم والتربية في مدارسنا وبيوتنا ، بحيث تستغل حالة الانبهار بالتقنية وتعلق الأبناء بها لتعزيز القيم الفاضلة وبناء أذهانهم وطريقة تفكيرهم على أساس متين ومنهج قويم يتفق مع الأهداف التعليمية والتربوية المعروفة .

وفي المقابل يمكن أن تتسبب الفجوة بين الأسلوب التقليدي في التعليم وبين الحراك المحموم التي تمتاز به التقنية في زيادة الانقطاع بين أطراف العملية التربوية والتعليمية في المدرسة والبيت على حد سواء .

وهذا يتطلب عملاً دائباً لتطوير جاهزية التعليم لمواءمة الأدوات العصرية التي تنتشر بشكل سريع في متناول الجميع بيسر وسهولة ، سيما أبناؤنا في مراحلهم المبكرة وهم في غاية الاستعداد لتقبل الوفادات التقنية بكافة شروطها الثقافية والسلوكية .

……………

يواجه أي مجتمع مشكلة التحرش الجنسي كنتيجة طبيعية لضغط الفطرة مع الاحتكاك الآدمي ، ويحدث ذلك في هامش هذه العلاقة المتحفزة كسلوك شاذ عن الطبيعة وخارج من إطارها الشرعي .

وتزيد حالات التحرش كلما انخفض الحس القانوني الذي يلاحق مثل هذه التجاوزات ، وتزيد كذلك كلما انخفض الوعي وتهشم النسيج الاجتماعي بما يحرّض على ولادة ظواهر التحرش الجنسي وملحقاته المزعجة .

بالإضافة إلى ضرورة سن القوانين الرادعة ورفع مستوى الوعي بما يزيد من التماسك الاجتماعي ، يتطلب الأمر لمواجهة هذه الظاهرة إلى إصلاح الشأن الثقافي بحيث ينتصر للمظلوم في وجه الظالم ، ويأخذ بحق الضعيف من تطاول المتحرش ، بعيداً عن الأحكام المسبقة التي تجثم على وعي المجتمع وتلقي باللائمة على جنس معين أو جغرافيا معينة وتتهمها بالويل والثبور .

يتوجب على المجتمع أن يواجه حالات التحرش الجنسي بشجاعة ويسمي الأشياء بأسمائها ، ويتخلص من عقدة " العيب " التي تعطل فاعلية أدوات العلاج ونجاعة الحلول .

فضلاً عن تيسير فرص التواصل الشرعي بين الجنسين وتسهيل ظروف الزواج الصالح ، بما يضيق على هذه الآفة ما يبرر انتشارها واتساع رقعتها ، يومئذ لا يصبح لأحد العذر أو شماعة مبررات واهية .

هي لن تنتهي بإطلاق ، ستبقى هذه التجاوزات ما بقي الإنسان على وجه الأرض لأنها جزء من طبيعته واحتكاكه الآدمي ، والعقل يقول أن المطلوب هو التخفيف منها ومزاحمتها قدر الإمكان بالشروط العلمية الموضوعية والواقعية وليس منها الحس الديني ، رغم أنه يصلح ليكون أفضل علاج معنوي وقيمي يضبط حركة المجتمع وسير الجماعات .
القانون مهمته ضبط الانفلات وليس إنهاء المشكلة لأنه يستحيل على المريد ، والانفلات ناتج من غياب الوازع الديني والضبط القانوني واخترام روح الجماعة عبر مفاعيل الفساد والاستبداد .
أما إذا انفرد الحس الديني بالفضاء ، فإن نتائجة ستكون عكسية وغير مأمونة في ظل غياب القانون .
ورزقنا الله الثبات والصلاح وإصابة الحق ما استطعنا لذلك سبيلاً .

………………

بإمكانك مشاهدة صور مروعة من حالات الإسراف في المأكل والمشرب والملبس والمركب ، وكأن الدنيا تدوم والنعم لا تزول ، حتى اعتادت الأجيال على مستوى من الإسراف الباذخ والصرف المبالغ .
كمية الأطعمة التي تراها ملقاة في الحاويات مهولة ، تعتقد معها وكأن شعباً آخر يتلقى وجباته منها ، وتكتشف حجم الكميات التي تطبخ دون حاجة أو اضطرار .
وكمية الملابس التي تتكوم في الخزانات مثير للاستغراب ، بل تستقبل في كل مناسبة ضيوفاً جدد بعد استخدامها للمرة الأولى والوحيدة ، ثم تلقى في الخزانات نسياً منسياً بعد أن صرفت لها المبالغ الطائلة والنقود الهائلة .
مجتمع استهلاكي يغذي نهمته الشرائية ملقياً بعرض الحائط كل شروط الادخار واحترام النعم وتقدير سنن الحياة التي لا يدوم لها حال ولا يستقيم لها مآل .
نحتاج إلى تجديد ثقافتنا بحيث نعيد ترتيب أفكارنا حول قيمة المظاهر التي تغذي كبرياء الترف ، وأن نشيع نمط الكفاف الذي يعلمنا أخذ حاجتنا من الأشياء ومشاركة الفائض مع الآخرين بما يعزز قيم التكافل والتضامن ويحفظ للنعم حقها وقدرها .
يومها تنحسر مظاهر الإسراف ويزيد تماسك المجتمع ، ونسلم من غضب الله وغيرة النعم وانقلاب الحال .

……………

هناك نمط من الواردات العقلية يمكن تسميته " الفكرة المتفجرة " بحيث تستمر في قدحها وهي تلقي بشرر المفاهيم والمعاني دون انطفاء ولا انذواء .
تبدو لك نواصيها سطحية مثل شاطئ غير مؤهل ، فتجتذبك إلى محيطها المتلاطم وغورها المتعاظم ، تبتل ببعض قطراتها لتغريك باستبحارها ، حتى تغرق فيها فإما النجاة والحياة ، وإما الغياب والفناء .
تحتاج الفكرة لاستمطارها ، إلى عقل فاحص بخلفية معرفية حقيقية ، تساعد في حفر الفكرة واستكناه أعماقها ، وإلا فإن العقل البليد الأجوف يقف مكتوفاً أمام الأفكار المباشرة ، فضلاً عن تلك المتترسة بالحجب ، أو المكتنزة بالنعم .

…………………

بين سلبية الرضى عن النفس ، وإيجابية التواضع عند النجاح ، شعرة المعادلات الشخصية والحسابات الداخلية .
تكثيف الشعور بالاكتفاء بعد الإنجاز يمكن أن يكون تصرف قاتل ، المبالغة في الاحتفال بالنجاح ربما يتحول إلى إعلان نهاية الرغبة في الاستزادة والتوقف عن الركض .
الشعور دائماً بأن لديك المزيد لتقدمه ، وتبذله ، وتحصل عليه ، يدفعك للأمام ، لتوفير المتبقي من واجبات النجاح وشروط الإنجاز .
بشرط أن يكون ذلك الشعور مفعماً ، ومنطقياً ، حتى لا يتحول إلى جسم ضاغط ، يطالب بما يتجاوز استطاعتك ويفوق طاقتك ، وبالتالي ربنا يوسع من فجوة الإمكانيات والتوقعات ، ويمطر وابل الإحباط عليك .

الأمر يتوقف على قدرتك في ضبط المسألة نحو توظيف إيجابي ومعتدل لموجات المشاعر التي تتدفق خلف كل نجاح ، بما يوطنها على قياس درجة التحمل ومسافة الخطوة اللاحقة .
...............
خذلان الأصدقاء هو الموتة الصغرى ، وخسارتهم هي القاضية .

حافظوا على صحة علاقاتكم بالمسامحة !

….……

أن يتسبب شخص في " إعادة تصميم حياتك " ويحدث ثورة باطنية تنعكس على محيطاتك بأبعادها المختلفة ، فذلك نوع من التأثير الجذري العميق .



علامة تعجب وعلامة استفهام ️ كيف :

ينضاف إلى حياتك شخص ، يستغرق اهتمامك ، يزاحم تفاصيلك الحرة المستقلة ، يملأ عليك تركيزك وتفكيرك ، يستحوذ على جملة انتباهك ، مع الوقت يتوج على عرش قلبك حتى لا فكاك منه .

ثم تشرع تنسحب من طريقتك الأولى ، تترحل عن نسختك العتيقة ، تنخلع من أصالتك المنبعثة من أسّ عفويتك واسترسالك ، تبتعد ، أو تغير ملامحك الداخلية وكأنك تستبدل أثاثك وديكور بواطنك ، حتى يبدو غريباً للمألوفين ، لائقاً للمحدثين ، وتصبح كائناً خلاف ما كنت .



1️⃣ ذلك التحول في " العادات " ليس إلا تعبيراً بسيطاً عن الشروع في التغيير ، إذ تكثر المتشابهات ، وتتسع أو تستمتع بالموافقات . 



2️⃣ نزراً من الوقت ينسحب ذلك إلى " الطباع " وهي أكثر تجذراً وأشد تأثراً ، حتى يكاد ينكرك من يعرفك ، إذ تعتسف ما اختلف منك ليجري في هواه ، وتنكر ما انفرد فيك لينسجم في فلكه ولا يحيد عن سواه .



3️⃣ وأخيراً يجري التغيير على " الأفكار " وتلبس ثوباً غير ذاك الذي حيك لك واتفق معك ، وتصبح تابعاً مستسلماً ، يقودك اللاوعي إلى تقفي آثاره ومرادفة أدواره وأطواره .



وليس في الأمر تعليق على سوئه أو حسنه فالأمر يعود إليك بالتأكيد ، ولكنه أقرب إلى العبث ، لأن النفس التي تنجاب للأشخاص ، سيعرض لها من يكون أكثر جاذبية وتأثيراً ، ومن ثم ستصبح حياته مجرد ظلال للآخرين .

الأولى أن يتحكم " المعنى " في تشكيل حياتك ، أو بعث تلك التصاميم المتجددة في مشوار العمر ، سواء دفعك إلى " المعنى " شخص أو موقف أو تراكم خبرة ناضجة وقناعة راسخة .



رأيت سكارى الأشخاص في صور متعددة ، رأيتها في الأيديولوجيا والسياسة إذ يلعب " الفرد " بشموليته وإطلاق حكمه مخلصاً للأمة وسبباً كافياً للموت والتضحيات ، رأيتها في المجتمع البسيط ، صرعى الإعجاب والتعلق ممن يمجّ طبيعته واختياراته وارتياحاته ، ويخلّي السبيل سالكاً والباطن فسيحاً لتفضيلات محبوبه ومرغوبات مطلوبه ، رأيتها تفسد على الناس ديانتهم ، ودنياهم ، وتفقدهم ذواتهم .



من يخلق طوابير المدمنين والشذاذ والمتشددين وسائر المنحرفين ، إلا ذلك الفراغ الذي يستبد بالأشخاص ، فيملأ أوعيته معاشر الانتهازيين أصحاب الهمم المنتكسة والأفكار النجسة .



تذهب بك الريح إذ تخضع مقاساتك لمسافات ذلك التافه الذي يستحوذ على مهجتك ، أراك لاهثاً تقتات على فلتات تقديره واهتمامه ، يقبضني قلبي وأنت تخرج من ذاتك وتضيع في تيه الجنة الموهومة والعتبة المعصومة ، تتجرع غصص تهمشيك ، تتلوّى من شدة الركض في رمضاء الهوى وهجير السلوى إلى نار الوصل المعدوم واللقاء الملغوم ، ولو ذقت بعض ما في المعنى من السر والقرار ، لقبضت على تلك الأنفاس التي أزهقتها في غيّك ، وأودعتها في قبضة رشدك ثم أطلقتها في فضاء هداك آمناً رغداً سعيداً .



……………

برغم أن الثورة النزيهة ثم الحرب الكريهة في بلاد الشام لها خلطة معقدة ومشتبكة من الأسباب والأسرار ، ولكن هذا المشهد المؤسف يفسر عندي " بعض " أسباب ما يحدث في سوريا .

وهو - كما نُقل - لابن أحد ضباط النظام يرقص أثناء الدرس غير آبه بمعلمته ، وزملاؤه غارقون في الضحك ، ويلتقطون صورة لهذه المسرحية الهزلية وكوميديا الواقع السوداء .

وكما نقل لنا أيضاً ، فإن ابن الضابط آمِن من كل عقوبة ، لأنه ينتمي إلى طيف القابضين على البلد ، حيث صاحب الكرسي وحاشيته هم المقدم على كل معنى وأحد ، ولا يجرؤ مخلوق على مطاولتهم بلوم أو عتب .

وفوق جريمة هذا الشاب في حق العلم وجنابه ، فإنه انتهك مقام هذه المرأة وهي في مثابة والدته المصونة ، وهي تحاول أمامه أن تبتلع بكل مضض مشهد إهانتها وانتقاص قدرها دون إبداء ردة فعل ، لأن هذا الصبي المنفلت أهم من علمها ومقامها ، وربما بلدها كله بشجره وحجره وبشره .

ولعلك رأيت سيدي العربي - غير المكترث - في بحر المقاطع التي تحتشد في هاتفك ببرود ، أفظع من هذا المقطع التافه ، وما هو أنكى في أمر إخوتنا السوريين المستضعفين ، ولكن هذا المقطع وحده استوقف بصري المنكسف وذهني المعتكف .

وهو يختصر هول العبث الذي استشرى في قيم هذه الأمة الآفلة تقريباً إلا من عصبة المستيقظين ، وهو عبث قيمي ليس ما تراه في مثل هذه المقاطع إلا طفح جلدي يشير إلى بعض ما يختلج في باطن الأمة ويتأجج في ضميرها من قيح وتشوه وانتكاس .

وإذا فرشت باطن الأرض بهذا المستوى من الإسفاف والعبث بالقيم كان ذلك تمهيداً لكل المفاسد وتبييئاً لكل المثالب وليس " الاستبداد " إلا واحداً من المظاهر الفاضحة لحال الأمة وواقعها .



لو كان " ابن خلدون " حياً لفرك عينيه طويلاً قبل أن يشرع في تدبيج مقدمة جديدة تشرح طرائق مبتدعة ومسالك مفتظعة عن انهيار الأمم وتهاوي الحضارات .



ولعل هذا المقطع لا يستحق الذكر أمام مشاهد الدماء أو الغرق في لجج الماء في رأيك العظيم ، لكنه عندي - وحسب رأيي التافه - أشد هولاً وأصدق قولاً عن أصل البلاء وذهاب العافية .



ذلك لأن أمثال هذه المواقف الغاصة بالأسف تتكرر في بلاد نعتقدها مستقرة ، ذهب فيها وقار العلم ومنزلة الكبير في النفوس واستمرأ الناس فيها استضعاف الخلق والتطاول على المبادئ واخترام الحدود ونهب الحقوق ، وهذا كله مؤداه إلى التهلكة التي تأخذ صوراً متعددة وأشكالاً متنوعة وليست الحرب الأهلية إلا واحدة من الالتحامات الحتمية نتيجة تعقيد الواقع واضطراب الأولويات .

ولو أراد مستبد أن يمد في عمر قبضته على خناق الكرسي ومكثه على صدر الشعوب ، ما وجد أفضل ولا أسهل من لعبة العبث بقيم المجتمع المشيدة وخلخلة أركان أخلاقه الشديدة " فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا " .

وسواء جاء ذلك بسبيل الفحش في الظلم والاستبداد ، أو الترف وتمييع القيم : ( إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون ) ، ( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا ) .

ثم إذا هوى عماد القيم انهدم البنيان على ساكنيه وكان من بعده الطوفان الذي يأتي على كل شيء ، ثم لا يستنكر الشيء من محله ، فإذا بدأ الأمر بذوبان العدل كان ما لحقه أفحش وأشنع وأفظع ، من الإسراف في تضييع الحقوق والإيغال في الدماء المحرمة .

" القيم " أقصد بها تلك الراشدة القارّة في وجدان البشرية ، وفي رأس هرمها العدل ، وليست تلك التي تجترّ المجتمع وتشده إلى التخلف وتؤسس لرجعيته انتصاراً لأمراضه المجتمعية ، أو تزاحم نموه باسم خرافة الأصالة .

إن نكوص القيم وفساد المثل أول الخطو في نفق الضياع ، وهو مهنة المستبدين ومآل الخانعين ، فالأول يفترشه لطريق المجد المؤبد ، والآخر يعانيه جزاء السكوت عن الحق واستمراء البغي ، وإلا فإن الأمم الحية بامتداد " المصلحين والمجددين " والراسخة بمهابة القيم والاستنصار للحق ومد جسور العدل ، يصان حالها ويدوم ظلها .

لأن القشعريرة من الظلم وانحراف القيم دليل حياة الجسد ، وابتلاع غصصه أول المرض ، والتباطؤ في استنكاره يحرّض الطبيعة على النقمة ، وكلما أشربت الأرض ظلماً وطال العهد على الامتعاض منه جاءت العقوبة مضاعفة والتطهّر ماحقاً .

حفظ الله بلاد المسلمين وقيمها وأمر رشدها من كل سوء .

………….……

من الأوفر حظاً بمعرفتك ؟ 

الذي قضى معك عمراً أطول ، أو عاش معك ظروفاً أكثر ؟ 

الذي عرفك منذ نعومة أظفارك ، أم الذي وافقك وقد استوى عودك ؟ 

الذي جالسك ثم ارتحل عنك ، أم ذلك الماكث لديك حتى الآن ؟ 

الذي استقرت لديه نسختك القديمة فهي أكثر تعبيراً عنك ، أو ذلك الذي شاهدك وأنت تتقلب في الأحوال فكان رأيه أشمل وأكمل ؟ 

الذي صادفك في جملة المواقف ، أو الذي جرّبك في كل الظروف ؟



بعض من تعرف يفسر سلوكك بناء على الجزء الذي يعتمد عليه ، والزواية التي يختارها ويرتاح لها ، لن تجد ما يجمع عليه الآخرون عنك ، حتى تلك الصفات التي ظهرت منك واستقرت فيك ، ربما لا يراها الحاقد أو الجاحد ، كما أن أقرب الناس لك أزهدهم فيما لديك .



الأفضل ألا تبالغ في تقدير تلك الآراء ، بمعنى أن لا تؤمن بقوتها على نطق الحقيقة ، فالآخر لديه ظروفه الخاصة التي تؤثر في زاوية نظره ، لديه ضغوطه التي دفعته لاختيار رأي دون آخر ، أنت لست معنياً ، ولا مسؤولاً عن ذلك ، كما أنه ليس تعبيراً عن حقيقتك ، لأنها خلقت في محيط آخر لا ينتمي إليك ، ولا يعبر عن واقعك وإمكانك .



صديقي الذي تشقى من أجل فهم محيطك ، أو ادعاء الفهم والإحاطة ، وكأنك تشتمل بعض الغيب في علمك ، ورزقت بصيرة تنفذ في حواجب الصدور وبواطن الأمور ، إنه جهد في غير محله وتعب لا طائل منه .

" التفسير استناداً على التاريخ " مجرد عون منحاز إلى دسائس رغبتك .

" التفسير بالمقارنة " سند مائل يتكئ على ركنك الأثير .



الأمر أبعد من إحاطته ، والروح من أمر بارئها .

………………

التربية بأفق مسقوف ، تنتج جيلاً مهلهلاً ، مثقلاً بالعيوب . 



يولد الطفل مستعداً لكل الطباع ، نظن أحياناً أنه يرث الطباع عن والديه عبر تناسل جيني حتمي ، ولكن الأمر لا يبدو بهذه البساطة .

يصبح الطفل بخيلاً إذا ولد في عائلة تستبعد الإيثار في تعاملاتها ، تشترط المقابل النفعي للحصول على الخدمة أو القيام بواجب .

ويصبح هشاً ضامر الشخصية عندما يتربى في عائلة تدلل أطفالها ، طلبات مجابة وخدمات مستطابة ، لا يجرب أفرادها الفاقة أو الهزيمة ، لا يخوضون تحدياً من نوع ما لتلبية حاجاتهم والفوز بمستحقاتهم .

يصبح الطفل هزيل التفكير ، متبلد المشاعر ، سطحياً ، ساذجاً لأبعد حدّ ، عندما يختلط بعائلة متهافتة ، خوارة ، لا تروم هدفاً ولا تسعى إلى مجد .

البيوت أولاً .

ما زلت أقول هذا لمن يستفتيني ممن يظن بي أكثر مما أحسن ، أقوله لأهل التعليم ، ممن يعاني دفعات دراسية هزيلة ، يؤزها إلى فضيلة النجاح ولا تستجيب ، لأن تلك المفردة لا تقع من نفسه في مكان لائق .

ليس ذلك النجاح المركوم في المعدلات المرتفعة والنسب المجتمعة ، ولكنه النجاح في الحياة ، الذي كان اسمه " الفلاح " قبل أن يهتضمه العصر في دوامته الحديثة .



التربية الصالحة عماد المجتمعات الفاضلة ، الذي تكون أخلاقها صيانتها من الانفلات وقوتها في الإنتاج وضابطها في العمل وباعثها على الأمل ودافعها إلى النجاح وحاديها إلى الفلاح .



والتربية بأفق مفتوح ، تعطي نماذج سابحة في الخيال ، مضرب مثل في التفاني والإخلاص والتضحية من أجل ما تسمو به الروح وتعلو به النفس .

تلك التربية الطامحة ، المشرئبة إلى السؤدد والمجد ، التي ترتفع عن حظوظ النفس ، وتزهد في المنازلات الأرضية التافهة ، وتنشد صورة أقرب للخيال .

ليس في ذلك ضرب من منازعة الواقع ، ولكن الفرد ابن بيئته ، والتربية التي لا تدشن واقعاً جديداً عبر الذهاب إلى أقصى صور البذل لن توسع في إمكانات الواقع ليستجيب لمرحلة فاصلة ، يكون منجزها أول الخطو في الطريق الشاق ، وأول البصيص في ضياء الحلم .

كل الأسماء المؤثرة في سياق التاريخ ، كان لها نصيب من التربية غير العادية ، خلقوا في ظروف غير طبيعية أحياناً ، تعرضوا لأفق تربوي مشحون بالطاقة ، سواء كان في تجسيد غرائبي  لا تقليدي ، أو نظام متسق من الدأب والجد والصناعة الشخصانية السويّة .

تخلوا عن نظم التربية بأفق مسقوف ، الدنيا تشعر بالملل من النسخ المكررة .

………………

ما رأيت أحداً يهمل هاتفه إلا أكبرته .

في هذا التيار الهادر من الغارقين في بحر هواتفهم ، قلّ أن تجد أحداً يزهد في الهاتف وينشغل بشيء آخر بين يديه .

في ظل هذا الإغراء والإدمان والفوضى التي تضطرم فيها الشاشات الصغيرة ، يندر أن تجد أحداً بمنجاة منها ، حتى ذلك العاقل ، المعروف بانضباطه ، أذهب الهاتف بمسكة عقله واستجماع زمامه ، وذلك الرياضي المتعصب الذي كان يتابع مباراة فريقه كأن على رأسه الطير لشدة ما يصرف من التركيز ، أصبح فيما جدّ في فوضى الهواتف نهباً لشاشته المنحنية ومنصرفاً عن شاشته المشرئبة .



وقتئذ : امتن كثيراً لمن يتجاهل هاتفه ، ويغرق في الحديث إلى جلسائه ، أو الانتباه إلى برنامجه التلفزيوني العتيق ، أعجب بقدرته على مجاوزة هذا الانبهار الكوني ، والموجة العاتية التي غرق فيها الجميع .

ولا أجد أحداً يكون الهاتف أهون ما ينظر إليه وآخر ما يفكر فيه ، إلا شعرت وكأن في خبيئته نفساً مستعدة للجد والتفرد والمسؤولية ، سيما إذا كانت متاركته للهاتف بداعي الزهد مما فيه والاستئناس ببعض ما يزخر به واقعه وإن قلّ ، فهي أكثر إشباعاً وأغزر إمتاعاً وأجدر بالوقت .



امتن كثيراً لمن يستغل أوقاته في خلوة مع ذاته ، أو حديث إلى جلسائه ، أو يقضيه في نزهة لبر أو بحر ، أو ينكب على كتابه ، ويشتغل في صنعة تليق بإمكاناته .



هذا يشبه كثيراً من يتجنب المنازلات الشخصية ، والضغائن التي تستنزف طاقته ولا تلبي حاجته ، يشبه المترفع عن سفاسف الأمور والمتعالي عن توافه الاهتمامات منصرفاً إلى عظائم الأعمال وكبائر الأشغال .

الحقيقة أن هذا يستند على تقديرك الشخصي للمسائل ، بصرك بها وليس نظرتك إليها ، بمعنى أن تكون ذا بصيرة واعية ، تدرك أن هذه الفقاعات أقل جدارة من عمرك الثمين .

أقول هذا لمن لا يستخدم الهواتف كأداة ، بل يستخدمها وكأنها الحياة ، كل الحياة .

….……………

عندما يجدّ في السياسة شيء ما ، فليس من المنصوص عليك أن تتخذ موقفاً منه ، وتلهث لتُسمع العالمين والأولين والآخرين رأيك تجاهه ، وتلاحقه حتى تأتي أقصاه ، وتسرع لابتلاع كل ما يتعلق به وينجم عنه ، وكأن قناة بريطانية شهيرة ستستضيفك في نشرة المساء وتستجوبك على طاولة أفذّ مذيعيها .

هوّن عليك يا صاحبي ، لعل جليسك في " القهوة " لا يأبه لموقفك أو يحفل بكلامك ، فضلاً عن هديرك في الفضاء الافتراضي وكأن العالم يرقب منك دلواً في هذا الحدث أو ذاك .

سيما إذا كان الخبر مدوّياً ، تجد الناس تغرقه حديثاً ، وكأن تعميماً صدر من جهة حكومية غارقة في بيروقراطيتها تهيب بالمواطنين المشاركة في هستيريا التعليقات والتحليلات السمجة .



كان الحدث السياسي فيما مضى وقبل ثورة الاتصالات يدوّي في واقعه ، ويطبخ في معامل الصحافة لينتج ناجزاً حصيفاً في طبعة الصباح ، يتناوله الناس مع طاولة الإفطار مشبعاً بآراء كبار المحللين والعارفين .

بغض النظر عن فرص التضليل الواسعة التي كانت تمتلكها الحكومات يوم كانت تحتكر وكالات الدعاية والأخبار ، ولكن الخبر من جهة انتشاره في المجتمع كان يأخذ كفايته من الوقت والإثراء والإنضاج .

ولم يكن الأمر بهذا المستوى من الهوجة التحليلية التي انسحبت من مواطن الرصانة والمتانة ، إلى مهرجان من المساهمين في الرأي بحقه وبدون ذلك غالباً .

إذا لم يكن لرأيك شعبية تتجاوز عدد الكراسي التي تتململ فوقها في " القهوة " فالأفضل لك أن تكف عن إتيان العجائب والطوام ، وأن تستهلك الأخبار التي - ولحظك الجميل كثيرة هذه الأيام - في استنزاف الوقت وأنت تهرف بما لا تعرف على جلسائك ، وأن تحفظ مطولات التحليل التي تطالعك بها القنوات لتعيد روايتها لجلسائك وكأنها - وياللعظمة - من نسج خبرتك الواسعة ، من يعرف ! ربما حتى الذي يجلس قبالتك كان ينتظر دوره ليسابق بها .

ومن المضحك المبكي أن منطقتنا أصبحت السياسة داؤها ودواؤها ، بحيث لا يمكن الانفكاك من هذه الملحمة السياسية الهوجاء .

ولكن منطقتنا تشتبك في سلسلة متداخلة من الأحداث السياسية تجعل الحليم حيراناً ، ويعجز عن فهمها أجهزة الاستشعار الاستخبارية ومراكز البحوث الجادة وصناع السياسة ودارسوها ، فكيف يمكن لك وأنت البسيط في ثقافتك والعليل في فهمك ، أن تصل إلى المخبوء وتحيط بالمقصود ، لا ضاق فهمك .

الحقيقة أنك تملك فائضاً من الوقت وتتمتع بمساحات افتراضية وإلكترونية تحرّضك على المشاركة ، تخرج السياسي العملاق من داخلك وتنفخ فيه من روحها المزيفة ، ثم تتشدق بتحليلاتك وتصوراتك العظيمة والتافهة في آن .



إنني لا أريد أن أضيق واسعاً ، ولكنني أحب لك أن تصرف وقتك فيما ينفعك ويعود عليك وأهلك ومن تحب بالخير العميم والبشر العظيم ، فإن الجهد الذي تبذله في غير محله ستدفع أضعافه من الندم على فواته .

احتفظ بوقتك في التركيز على دائرة تأثيرك ، وما يفيض عنه في متعك وراحة بالك .

أما إذا قصدت بذلك أن تبدي رأيك وتشارك في شأنك العام فإن هذا يحدث في بلدان العملية السياسية التي تستوعب المجتمعات وتضمن لها حق المشاركة والتعبير والتأثير ، وسواها فهو إزهاق للوقت وضياع للجهد وتفويت للطاقة .



صحيح أن هناك من الأحداث الضخام ما لا يمكن تفويته ، وآخر متصل بيومياتك مباشرة ، ساعتئذ فليس أفضل من تحرّي الصدق في النقل والتعفف عن الإشاعات وتسقط وتلقط ما لا يجدر على عاقل القناعة به .



وإذا كنت لا تعتاش من إرهاق ملاحقة الأخبار ، مثل صحفي منحوس يسترزق من قصص السياسة المزعجة ، أو دبلوماسي يعمل لصالح حكومته وفي خدمة شعبه ، فإنه ليس أقل من الخروج من دوامة التعالم باحتضان رأي من ترتاح إليه وتطويره عبر ماكينتك التلقائية وإعادة روايته في محيطك البسيط .

دون أن يكون هذا طمعاً في التفاتة اعتراف بنبوغك وتوهجك كمحلل سياسي عظيم ، أو هرولة عابثة تذهب بجملة وقتك وطاقتك ، فإنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً .



ومن أجل أن تطمئن لرأي ناضج حول حدث سياسي عام لا يمكن تجاوزه ، فانتظر حتى تهدأ الزوبعة ، وتخرج من الدهشة الأولى ، واستفتي الخبراء المنصفين الجادين في المسألة ، إذ لا ينفع يوم لا تكون مؤثراً ألا تكون منصفاً كذلك .

فعملية التأييد على طول الطريق لا يفعلها إلا الإمّعات ، والشجب المستمر هذا من عمل المنظمات والجامعات ، والرأي السياسي هو جهد شخصي متصل بتقليب وجوه المصلحة وتفحّص مواطن الإصابة والإلمام بظروف القضية ، ولا علاقة له بمسألة الولاء والمواطنية وسواها من معاني الانتماء المنطقي أو الهستيري ، فبعض الحكومات تستفيد من افتعال بعض الأحداث لتثبيت عروشها حتى لو ذهب الشعب إلى الجحيم كما تفعل إيران وغيرها كثير .

…………………

الفوضوي لا يُرجى برؤه !

إذ لا يستجيب للتغيير ولا ينتفع بمشاريع إعادة تصميم الحياة على نحو مفيد ومؤثر ، كل الفرص التي تلمع في حياته لا ينتبه لها ، أو يلتفت إليها .

ذلك لأن الفوضى تحيط به مثل حائط ، أو تعبث بأعماقه مثل عاصفة ، لا يستقيم داخله معنى ولا يخضع لتوجيه .

بعكسه الجاد أو الموشك ، فإنه غالباً ما ينتفع بمناسبات التغيير ، ويتأثر بما يصادفه أو يقصده من خطابات التحول نحو حياة سعيدة لا بليدة .

والفوضى ليس مجرد غرفة مبعثرة أو شخص لا ناظم ليومياته ، ولكنها فوضى المعاني التي لا يجد فيها المرء لحياته بوصلة ، تقوده لما فيه نفعه وخدمة مجتمعه .

الفوضى التي تسكن في داخلنا أحياناً فتشتت انتباه بصيرتنا وتبدد انسياب مهجنا ، فيصبح المرء في سيره كأنما يتخبطه الشيطان من المس أو تهوي به الريح في مكان سحيق .

………………

هناك كذب ينتج عن ضعف " مسؤولية الكلمة " ، بمعنى أن يكون شخص ما مستخفاً بذاته أو ما يصدر عنه والتأثير الذي قد يتركه ويصنعه .

ولأن الكذب مما يخرم المروءة ، فإنه في حالة ضعف مسؤولية الكلمة أشنع خرقاً وأبشع وضعاً .

كذب التسلية المكروه ، وكذب الملاطفة المباح ، وكذب التحايل الممجوج ، لا تشبه على اجتماعها كذب الضعف في احترام الكلمة التي تصدر عنك .

وهو أعلى مراحل الكذاب ، إذ يصبح وبفعل التساهل لازمة لا تنفك ، وطبيعة لا تتغير ، وقتئذ تهوي بصاحبها ويكتب عند الله كذّاباً .

لو شعر الإنسان أن كلامه جزء منه ، يعبر عنه ويشير إليه ، لتحرّى فيه الصدق ، وأجرى فيه المنطق والحق ، واستطار من الكذب لأنه يوهن من قدره ويضع من منزلته ويحط من إكباره .

والنفور من الكذب فوق ما هو عاطفة يستبطنها الصدر ، فإنها قد تكون عادة حميدة يستقيم بها اللسان ، وفوق ذلك منطق يرتضيه العقل ويؤمن به الفكر يوم يترقى في مسارب الفهم ومناطق الوعي .

والصدق الذي يكون مبعثه جهاز فهم دقيق ، يتحرى مواطن الإصابة والحقيقة ويطلب مظان الصدق والإنصاف ، وينفر من التزييف والتضليل ، ويرى ذلك من أوجب طبائعه العلمية وألزم شروطه الموضوعية ، انطبع هذا المنهج القويم في سلوكه متدفقاً بالصدق وباشاً للحق ومجانباً للكذب بالكلية ومستعيباً من ملامسته ولو بطائف منه .

إن الصدق والله من أعظم الأعمال ، وأرفع الأخلاق ، وأعز الطباع في زمن الأطماع .

………………

الزمن وعاء ، والوقت هو تلك التفاصيل الصغيرة ، المملة .

الزمن بطيء ، والوقت سريع .

الزمن مجموعة الظروف المحيطة ، هوية العصر ، روح الوقت ، العوامل العاصفة التي تحفّ خطواتك وتنساب إلى حياتك .

والوقت هو الزمن المبدد في أجزائه ، الأبعاض المفرقة التي لو انتظمت كانت مجموعة ما أحدثته في واقعك وما أودعه الزمن فيك .





الوقت لا يجامل أحد ، فهو كائن جاد ، ومخلوق صارم ، أصمّ يمضي غير آبه ، والزمن أكثر لطفاً ، رحيماً ، دافئاً مثل حضن ، حتى الزمن الأهوج يستبطن بعض مسافات التمكين التي تشرق منها منصات التغيير والتحول .

قدرتك على اللعب في ظروف الوقت أفضل من استطاعتك على التأثير في الزمن ، وهما متداخلان بشكل ضبابي يصعب أن يحيط بهما إلا ذو حظ عظيم .

الوقت هو أداتك ، انشغالاتك هي عملية إمساك الوقت ، تجييره لصالحك ، مراكمته مثل ثروة ، لا تستنزفها بجهل ، ولا تحبسها عن نفع .

الزمن عرضة للتوظيف بيد من يجيد أصول الاستجابة المفعمة ، والتعاطي الذكي ، وعبقرية اللعب على أوتاره بخفة وتمكن .

………………

علامة استفهام سوداء مزخرفةلماذا تقرأ ؟



لأن القراءة حياة أخرى ، وهذا أشهر تبرير وأفضلها تقريباً ، ليس لأنك تحتاج حياة أخرى ، ولكن حياتك الحقيقية تحتاج أن تخرج منها لتفهمها ، لتحيط بها وبنواميسها ، وكأنك تخرج من غرفة لتطل على أبعادها ، ومحيطها ، فإنك لو بقيت محبوساً داخلها ما حصلت على كل ذلك بفضل الخروج منها ، هل فهمت لماذا نقول أن القراءة حياة أخرى ؟

ليست حياة أخرى ، لأن حياتك الحقيقية لا تطاق  ، ثم تذهب إلى حدائق القراءة الغناء وفضائها الحالم ، ولكنك تقرأ لتحسن من ظروف حياتك ، وتزيد من استعدادك لخوض غمار الحياة وأنت أقوى بناء وأكثر مهارة لمواجهة كل شيء .

حياة أخرى ، بمعنى أن حياتك وأنت قارئ لا تشبه حياتك وأنت خالياً من المعاني ، خاوياً من المعرفة ، إذ تكون هشاً ، متضعضعاً ، وبالقراءة تكون متماسكاً ، مثمراً ، مؤثراً .

أشبه ما تكون " حياة ظل " تبتني داخلها مسارب خروج بديلة وخطط بناء تعويضية ، تبقى مستعدة في الخلف لتحين فرصة الظهور والتمكين .

ولكن لا ينبغي للقراءة أن تخرجك من الحياة بل تتداخل معها ، ولا أن تغرقك في أعماقها ، أو تطير بك في فضائها ، وتنسى أن تعيش حياتك الحقيقة التي تنتظرك على عتبة الواقع .

يا سيدي .. اقرأ من أجل المتعة ، وهي أقل شروط القراءة كلفة ، وأفضل هداياها .



علامة استفهام سوداء مزخرفةماذا تقرأ ؟



سؤال مضلل ، لأن القراءة تجيب عن نفسها ، يمكن أن يصبح السؤال بعد التصويب : ماذا تحتاج لتقرأ عنه ؟

القراءة وسيلة ، وليست غاية لذاتها ، القراءة أسلوب مواجهة علمي لكل ما يعترضك ، مع الوقت تصبح أسلوب حياة ، للمتعة ، للعمل ، للنجاح .

هناك من يسأل أو يستشير ، هناك من يجرب ويختبر ، هناك من يتهور ويغامر ، هناك من ينسحب ويستسلم ، وهناك من يقرأ ، ليتعلم ، ثم يتقدم .

القراءة تستبين طريقها مع الوقت ، تأخذ بيدك إلى النضج القرائي ، بمعنى أن تعرف ما يضيف إليك ، وما يفيض عن حاجتك ، المسألة تعتمد على الوقت ، والخطوة الأولى تكسر التردد .

اجعل القراءة جزءاً من خياراتك ، وليس من أولوياتك ، الأهم أن تعيش الحياة ، والقراءة تعطيك أفضل الخطط والأدوات لتعيشها بطريقة أفضل وأكثر جدوى .

لا تنخدع بحملات الترويج الرومانسي عن القراءة ، ستشتعل همتك لبعض الوقت ثم تضع الكتاب جانباً إلى غير رجعة ، لا يمكن أن تصبح قارئاً أصيلاً إذا اندفعت إليها لمجرد الترف ، وتجربة ما يتظاهر به أنصاف المثقفين ورواد المقاهي والكلمات المدججة بالنرجسية .

سيبرد ذلك الحماس أسرع من كوب القهوة الذي يصورونه في " انستغرام " بجانب كتاب عنوانه غارق في اللامعنى ، ويزورك البرود عاجلاً .

لا تقرأ لمجرد التقليد في زمن الشكليات المزعج ، قراء المتعة نهمون ولكن غير منتجين ، القراءة مغرومة بالجادين فقط .

.……………

كلما كان محيطك مناسباً ، وراقياً ، ساعد ذلك في زيادة الفضيلة لديك .

تصبح حساسيتك بالنبل تجاه الإنسان عالية ، وتصبح أقل صور الاستخفاف مستفزة بالنسبة إلى أخلاقيتك الرفيعة ، هذا هو الأفق التربوي الذي يليق بإنسان الفطرة والمبدأ والغاية .

المحيط يأخذ شكل " أسرة ، جماعة الأقران ، بيئة العمل ، الحي ، المجتمع ، الأمة " ودواليك من أشكال الجماعات البشرية صغيرها وكبيرها .

بعض المحيطات تدمر هذا الجهاز الأخلاقي وتفسده ، ويبقى المرء قابلاً للاسترذال وعظيم الأهوال من ضيم البشر في صوره المتنوعة .

يبدأ الأمر بالتبلد وينتهي بالقدرة على الإقصاء والإلغاء ، وما بينهما جحيم من التبريرات والتفنن في إيذاء الآخرين ، في متتالية إبليسية لا يمكن السيطرة عليها تضج بأقصى ما يستطيعه إمكان " الشر " لدى الإنسان .

نهاية أولئك عادلة ، لأن الكون بين يدي الله وليس في قبضة البشر ، إذ ينتهي بهم المطاف وقد فتك الواحد منهم بنفسه ، لأن نار الحقد والكراهية والإفساد تأكل بعضها إن لم تجد ما تلتهمه .

لو استحضر الإنسان مفردة " التقوى " في واقعه لسلم من شروره نفسه وسلطان الشيطان عليه ، وأمِن من غزو جيوش التأثير الذي يطبعه المحيط في سلوكه وتفكيره ، التقوى التي مؤداها " الفلاح " في دنياك وأخراك ، غابت وأصبحت مظهراً لا مخبراً في مجرد ثوب مكفوف ورأس مسقوف .

………………

ما الذي يضطرّك لتتمسك ببعض العلاقات أو الواجبات التي تستنزفك ، تلتهمك حتى لا تدعك إلا وقد غدوت ناحلاً ، ضامراً ، لا روح فيك ولا مشاعر .

بعض العلاقات تسبب لك إرهاقاً شديداً ، تلهث لتحافظ عليها وتلاحقها بعنت ، تحيطها بيديك وهي تتفلت من شدة استغنائها عنك ، ولكنك تصرّ ، وتكابر ، وكأنها آية منزلة أو رواية مرسلة .

يفترض بالعلاقات أن تساعد في إنمائك لا إرهاقك ، أن ترتقي بك وتكمل نقصك وتسد ثغرتك وتصلح عثرتك وتخرج أفضل ما فيك وتستظهر أجمل ما لديك ، العلاقات التي تثقل كاهلك وتعيق تقدمك وتكلفك باهظاً من الواجبات والالتزمات لا خير فيها .

………….……

أحتاج أحياناً زيارة المكتبة ليس لشيء سوى الحاجة للشعور بالتواضع ، بخلاف من يذهب أحياناً لمجرد اكتناز الكتب أو ممارسة دور المثقف الفاخر الغارق بين المجلدات .

عندما يزورك شعور الاعتداد بالنفس وأنت تذرع نصف يومك منكباً على كتاب ، توقف عن الاستمرار في حالة الاكتفاء والرضى والثقة ، واذهب إلى أقرب مكتبة لديك ، ستعود بشيء من النفع على نفسك .

حجم الكتب التي لم تزُرها عينك من قبل ، العناوين التي لم تخطر لك في بال ، عشرات المؤلفين ممن لم يسبق لك مصادفتهم ذات قراءة ، المجالات التي حرمت شرف مرورك عبرها ، " كم أنت جاهل ! " وتحتاج عمراً آخر لتحصّل نصف ذلك .

بالتأكيد ليس المطلوب هو أن تحيط بكل تلك المؤلفات والعناوين والكتّاب ، فهذا بعيد على رجل يتقاصر عمره ، ولكن يكفيك نفعاً أن تشعر بالتواضع ، استثمر هذا التواضع في زيادة الدأب لديك ومحاولة الانصراف إلى تخصص تحبه وتجيده لتحقيق أفضل استغلال للوقت وأعلى قدرة إنتاجية .

………………

" وتيرة التغير " تلعب دوراً في جدوى التحولات التي تصيبنا ، تترك تأثيرها في الأشخاص والأشياء التي ينالها قدر التغيير ، لأن الثبات ينافي الواقع والقانون الطبيعي للكون .

" وتيرة التغير " هو تلك المسافة المستغرقة أثناء عملية التبدل ، منذ الصدمة الكهربائية الأولى حتى الأثر المستقر لها في الذهن والسلوك ، وبينهما مراحل نمو الانطباع ورسوخ القناعة .

رحلة زمنية قد تسرع أو تبطئ ، ربما شعرت بها وربما تجاهلتها ، رغم أنها المخاض الحقيقي الذي يستوعب التفاصيل الدقيقة وتخلّق النتيجة النهائية .

الوتيرة هي الكم والكيف معاً ، مسافة الزمن وعامودية التأثر ، هو البعد المحيط بأطراف العملية العسيرة باتجاه التحول .



انظر في سير المتحولين ، سواء المنتكسين أو المتعافين ، في كل إطار ومضمار ، كلما كانت وتيرة التغير متعجلة كانت النتيجة مهلهلة ، لم تأخذ كفايتها من إنضاج الوقت وإغداق الزمن .

وكذا تلك التحولات العابرة التي تنفرط مثل سبحة لا عاصم لها ، سلسلة من التهاوي وربما التلاشي غير المنضبط ، رحلة قلق ومسيرة ضمآن في قفار قاحلة ، لا حظ له منها غير الإعياء والتعب وضياع الطلب وتيه المأرب .



أستخف بالطبخات السريعة للتغيير ، تلك التي لا تحتاج أكثر من ماء مغلي للتسخين ثم تصبح جاهزة للالتهام وليس للإطعام ، مع الوقت تفتر ، وتفقد تجاهها قدرتك على الهضم واستساغة الطعم .

وكذا التحولات التي تسكن في خانة ردة الفعل ، تبقى مشدودة إلى مثير خارجي ، كلما استفزها ، ساقت جنودها المتقلبة على جمر الشتات ، وارتصفت مثل طابور أعمى من المذعنين الموات ولا حياة .



امنح " وتيرة التغير " لديك حقها من الوقت ، اعطها الفرصة لتتنفس ، والمساحة الكافية لتتبلور على نحو ناضج وفي هيئة حياة .

القوالب الأصيلة ابنة البيئة والوقت المناسب ، يوم تتقمص قالباً لا ينتمي إلى هذه الأحضان ستنفر الحقيقة من دثارك وترحل عن دارك ، وتتركك نهباً للقلق والفراغ .



هذا المعنى " يلعب في عبّي " منذ مدة ، لمن يفهم المصرية !

يتبدى في ثنايا المواقف والأشخاص ، يطل برأسه كل مرة وأنا أشيح عنه ولا أرعوي له .

هل لديك حكاية حول هذا المعنى ؟! قصّها لا تبخل بها .

..………………

الرجل الحر يوم يخاصم آخر لا ينخلع من رجولته ، يخاصم بطباع الفرسان ، بشرف ، بكامل عدّته الأخلاقية ، فكيف به لو كان مسلم .

يسرف بعضهم في الخصومة إلى ما أبعد من الفجور ، يتمنى لو وقع خصمه في فضيحة ، ربما اختلقها ليزيد من رصيده في مواجهة هذا الخصم الذي أصبح في رأيه غير مستحق لأبسط حقوق الإنصاف والموضوعية .



بفرض أنه غير مستحق للملاينة والمسامحة ، ماذا عن أخلاقك ؟ أترضى أن تتنازل عنها انتصاراً لنفسك ، هل يطفئ هذا العرض اللاأخلاقي المغري بعض نيران الحقد والكراهية المشتعلة داخلك .

ماذا يساوي كل هذا أمام أن تنحّي الشرف من طريقك ؟

يحدث هذا أحياناً باسم الانتصار للدين ، غضبة من أجل الفضيلة ، والميل للحق في مواجهة أساطين الباطل وأبالسة الشر والإفساد ، والأمر لا يعدو مجرد اختلاف في الرأي ، لم يتهدم الإسلام وقد وقف ضده الأباطرة والأكاسرة ، هل يهدمه رجل قصيّ يدير طاولة تلفزيونية ذهبت ريحها وانشغل جمهورها بسواها .



البلد مستفزّ من بعضه ، أو منشغل ببعضه ، لا يكاد يخرج من حدث حتى يتورط في آخر ، رغم التوجه السياسي الجديد للدولة الذي يأخذ بأزمّتها ، لكن المجتمع له انشغالاته المنفصلة تماماً ، الدولة تخوض حرباً حقيقية في جبهات متعددة والمجتمع منكبّ على تصفية حسابات ، البلد يعيش " تحولاً وطنياً " فيه استحقاقات متراكمة وثمة أطراف مشغولة بترتيب مكاسبها الاستقطابية .



ليس لدي ما يكفي من أدوات تفكيك هذه الحالة ومنحها حكماً بالصواب أو الغلط ، والواقع أنه لا أحد يهتم لما أقول غير أنني مبتلى بداء الثرثرة ، ولكنني أعرف أن المرء يخوض الحياة بمفرده ، وسيكون مسؤولاً عن اختياراته أمام كافة الابتلاءات ، ومنها الوقوع في خصومة .



سيكون مسؤولاً عن درجة احتفاظه بأخلاقه أو إيغاله في الانصراف عنها أمام جنس بشر ، فكيف بمواجهة مسلم ، غيبة عابرة ربما أحبطت عملاً وأذهبت أجراً ، فكيف هي الوقيعة بأحد والاستشفاء بضعفه والبحث عن فرصة لافتضاحه وربما التجنّي عليه والفرية فيه .

الأخلاق ديانة ، شرف ورجولة ومسؤولية ، لا يختلف الأمر إذا كنت في مواجهة مسلم أو فاسق أو حتى كافر .



..........................



كم حصلت من الوقت " لتنمو وحدك " ، وبالأحرى كم فرصة تملكها لحدوث ذلك .

يعيش الفرد في مجتمعنا حياة مزدحمة بالآخرين ، في بيته مثلاً لا يملك غرفة تحتفظ بخصوصيته وتحمي حقه وتراعي حريته الشخصية ، لأن نظامنا الاجتماعي والثقافي يقدم المشاركة والجماعية على سواها .

حتى مسألة " تفريق المضاجع " نحمل عنها انطباعاً جنسياً وعنصرياً بغلبة ثقافة اجتماعية معينة ، ولا نفهم منها ضرورة الإنماء في ظل البوتقة الشخصية - تبدو المصطلحات مربكة أكثر من اللازم في هذه المنطقة - .



في المدرسة يكتظ الفصل بالزملاء ، وفوق فساد هذا النمط تعليمياً بما لا يسمح باكتشاف الفوارق الفردية المميزة ، فإنه يلغي من جهة السلوك النوعي الذي يملكه فرد دون آخر بموجة بشرية ونسق عمومي إغراقي .

في الشارع ، في العمل ، في السوق ، كل الأماكن تصطبغ بجماعيتها الحادة ، وكأنك تختنق ، ولا تراعي فردويتك بما يحقق لها النمو والتجلّي المنبعث من داخلك ، والممتاز عن سواك .

كون حياتك مزدحمة بالمحيطين ليس جيد دائماً ، هل سمعت أحداً يمدح " الازدحام " من قبل !



لا مهرب لاستنطاق الذات في هذا الفضاء التناسلي الجائر ، المجتمع التكراري أو الاجتراري - إذا شئت القسوة - لا ينتج تجارب متجددة أو لا يجرؤ تقريباً ، يرزح تحت مسلماته ويعتصم بحالة استقراره وارتياحاته التقليدية . 



آراء الآخرين تؤثر عليك ، تخلق عندك انطباعات تحد من رؤيتك وتسد الطريق أمامك ، أفق المجتمع يسقف انطلاقاتك ، ويضللك بنهايات الأشياء وكأن لا فرصة بعد ذلك .



النصائح المجانية تحتويك ، أو تكبل خطواتك ، والنصيحة جزء منها حكمة والآخر سوء ظن في العواقب ، حتى تلك الصادقة لا تقول أكثر من " لن نتحمل معك المسؤولية " .

الناصح أحياناً لا يريد تكليف نفسه أعباء مغامراتك ، ولذا ليست أكثر من " فكّنا بالله " .



فكرة النصيحة لدينا هي ابتكار كل ما يمكن من المخاوف وصد الفرد عن مغامرته ، بينما دور النصيحة في أصلها أن تسلحك بما تحتاجه من الوعي والأدوات لخوض تجربة ما .

أعرف سلبيين كثر ، لا يفرقون بين النصيحة والتوبيخ .



يستحسن بنا خلق مسافة كافية لينمو الأفراد من تلقاء أنفسهم ، نتيح لهم خوض تجاربهم ، والشروع في اكتشاف الأشياء بأنفسهم عبر سلسلة المواقف التي تعترضهم ، طلقاء من قيد الأسبقيات الجائرة التي لا تنتمي إلى محيط ظروفهم واستعداداتهم الشخصية .



المجتمع يمارس ضغوطه ودوره في تنميط أفراده ، الدولة أحياناً عبر أنظمتها تدمغ الأفراد وربما سحقتهم لمزيد من التطويع والإطواء ، المذهب والحزب والأيديلوجيا تفعل أسوأ وأفظع من ذلك بكثير .

هل الدين يفعل مثل هذا ؟

ربما في نسخته المنقبضة ، التي تتعامى عن فضائه الرحب الذي وسع الناس على اختلافهم وانبجست تسوياتهم الذوقية ومجاهداتهم الاجتماعية عن مذاهب وطوائف شتى .



على مستوى العبادات كذلك ، في المسجد تتقدم فضيلة " الجماعة " بوحدتها الشعورية ، ولكن ثمة فرص بديلة لعبادات التطوع والخلوة بما يعطي الفرد حقه في اجتراح تجربته الدينية الخاصة وتطوير جاهزيته وتأملاته العبادية وصلته بالله عز وجل ، و " لا يزالون مختلفين " هود ١١٨ .

….…………

بائع العربة الذي أصبح " سلفياً " !



تخلى عن دراسته في بلدته اليمنية المعوزة وغادر إلى حيث يجد فرصة عمل في مدينة جدة ، وهي المدينة المفضلة للأفراد غير المؤهلين ممن يتولى الوظائف التقليدية .

هذه المدينة مأوى للتقاليد الوظيفية التي تأتي مع أصحابها من بلدانهم المتنوعة ، ولذا ستجد اليمني والمصري والهندي يكسب قوته بطريقته الخاصة ، وهذه عادة المدن المنفتحة والقابلة لهضم الثقافات ولو أعسرت .

لم يكلف الأمر صاحبنا أكثر من عربة خشبية بعجلات مستهلكة ، يتبضع لها مما لذّ وطاب من " حلقة الخضار " ليعود ويبيعها أمام المساجد الكبيرة المكتظة بالمصلين والمتسوقين كذلك .

أصبح مع الوقت وجهاً مألوفاً لجماعة المسجد ، رغم ازدحام المنافسين إلى جواره لكنه ولخفة ظله وقدرته على بناء العلاقات استطاع أن " يأكل الجو " وربما كان هذا لغرض تسويقي وربحي .

ولأنه يقتنص أوقات الصلاة ، فهو مضطر لأدائها متأخراً حتى يحمي عربته ، أو يعطي نفسه فرصة الصلاة في الصفوف المتأخرة واللصيقة بباب الخروج وباب رزقه ، وعلى العموم هي طريقة ترتيب شخصية بين المصالح والمبادئ .

كان يربح بشكل مقنع ، على الأقل يتوفر لديه الدخل الذي لا يمكن تحصيل أفضل منه ، أوقات الفراغ يقضيها في التعرف على هذه المدينة وأهلها ، ففي نفسه بعض روح الشباب الذي لم يجد فرصة الاستمتاع به ، الظروف والحاجة استعجلته إلى تحمل المسؤولية .

لا يعكر صفو حياته العملية إلا عمليات دهم الشرطة التي تمنعه من العمل غير النظامي ، رأيته مرة يبكي من شدة الهلع بينما يحتجزه الشرطي في أحد الدوريات ليقله إلى المخفر ، عاد بعد ذلك للبيع بشكل طبيعي ، ولا أعرف ماذا حدث بالضبط ؟!!

كان يحب قراءة القرآن بعد صلاة العصر ، وأنت تمر بجانبه تسمع قراءة مجيدة وترتيلاً ينال إعجابك ، في الفترة الأخيرة أصبح يقرأ بشكل مكثف ، أحياناً يبدو وكأنه يحاول حفظه مع معاون آخر في المسجد .

كان التحول يحتاج الوقت فقط ، فلديه فيما يبدو الاستعداد والحماسة والبيئة ، بحصوله على الوقت اختفت عربته من أمام المسجد وغاب هو عن الأنظار .





ثم ظهر فجأة على غير الحال التي كان عليها ، أصبح يقصّر ثوبه ويطلق لحيته ويلبس الشماغ بدون العقال على عادة المطاوعة عندنا ، كانت التفاصيل الدقيقة بادية عليه ، من بينها عود السواك يشرف من جيبه العلوي بمسافة قصيرة .

ما زالت روحه نشيطة رغم استضافته لمعنى جديد في حياته ، وهو معنى جاد وصارم ، استوقفته للمرة الأولى في تاريخ علاقة طويلة من التشاوف غير الفعّال إذا كان هذا تعبيراً كافياً للفهم ، إذ يبدو أنني مصاب بداء اختراع المصطلحات في الفترة الأخيرة .

بالأحرى ابتدرني هو بالحديث ، إذ يبدو أن هذا المعنى الجديد في ضيافته يفضل هذا النوع من مباشرة الكلام ، لعل فرصة تسنح بالنصيحة وهداية الناس إلى الحق .

أصبح طالب علم متواضع كما يسمي نفسه ، درس لبعض الوقت في الحرم المكي والنبوي ، يقرأ في كتب الشريعة ويستمع الكثير من المحاضرات .

هو عاطل عن العمل إلا من طلب العلم ، وإذا احتاج لبعض المال فإن " الإخوان " يوظفونه مؤقتاً ليساعد في ترتيب بعض المكتبات التجارية وتوظيبها بمقابل لا بأس به .

ردد كثيراً في حديثه لفظة " السلفية " وفضلها ، والاهتمام بنقاء العقيدة ، وبصفاء الأفكار والبراءة من غيرها الدخيلة .

حديثه مشحون بالآخر ، وهو هاجس سلفي معروف ، وكأن صواب موقفها وصفوه متوقف على كدر الآخر ودرجة انحرافه عن الجادة .

من الواضح جداً عليه حماس البدايات ولذة انشغالاته الجديدة ، كان كلامه مربكاً وغير منتظم السياق وكأنه لا يحدث بصورة طبيعية ، تغيرت طبيعة نشاطه في البلد الذي جاءه عمداً لطلب الرزق وضمان معيشة أهله ، في حال توقف عن هذا الدور ماذا يفعل أهله ، هل وقعوا على نصيب من إرث أحد أقربائهم الأثرياء ؟



أوقفت سيل حديثه الرومانسي بسؤال حالته الاجتماعية فنكص على عقبيه .

النكوص بمعنى أن حديثه أصبح أكثر واقعية ، إذ يبدو أن المعنى المنضاف إلى حياته ما زال في مرحلة الأفكار ولم يصل إلى مستوى الطباع الخفيضة .

كال التهم لعمه الذي سعى لإفساد زواجه ، همومه الاجتماعية لا تليق بمشروعه الشخصي الجديد ، ولكنه الواقع وسلطته الحادة .

تخلص من السؤال بطريقته وعاد ليعيش دوره الجديد مزهواً بسلفيته النابتة .

ليس لديه أفق للمستقبل أو فكرة حوله ، يتسلح بأدوات فرضتها ظروف التحول ، ولكن لا يعرف إذا كان هذا نافعاً لقوت أو نجاة بعد موت .



إذا وصلت إلى هذه النقطة من السطور ، فإنك أزهقت بعض وقتك في قراءة قصة لا تخرج منها بفائدة ، نفس الأمر بالنسبة لكاتبها .

ولكن لو قدر لهذا الشاب أن عاش في دبي مثلاً ، ربما أصبح رجل أعمال ثري يملك سلسلة محلات شهيرة لبيع الخضار ، لو عاش في أوروبا ربما يصبح وزيراً في واحدة من حكوماتهم المتعاقبة ، في أمريكا سيصبح رئيساً وربما متشرداً يتسكع في شوارعها المظلمة ، في بلدنا هضمناه وأضفنا للكوكب " سلفياً " جديداً .


شعور جيد .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائياً ع

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم، ومن

ماذا يخطر في بالك ( 5 ) ؟

هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) . راجياً لكم النفع والفائدة  . ضعف التقدير يقود إلى سوء التقرير . .................. كلما كان واقعك ثرياً وغنياً ، بارت بضاعة خيالك الواهم . …………… إذا أحببت شيئاً ثم التقيت به بعد غياب فكأن الروح ردت إليك بعد غيبة الموت ، أو العقل عاد بعد جنون ، أو الذاكرة استفاقت بعد غيبة . كل الأشياء الرمادية تسترجع ألوانها الزاهية ، والروائح الزاكية تستجرّ عنفوانها ، والمشاعر اللذيذة تستعيد عافيتها . ما يفعله الشوق بك من ذهاب العقل وغيبة الذاكرة وموات الروح ، يفعل بك الوصل أضعافه من الفرح والطرب والنشوة . لقد جُبل هذا القلب على الإلف بما يحبه والتعلق به حتى يكون بمثابة الطاقة الموصولة بألياف الكهرباء ، أو الزيت الذي يقدح النور ، والجمر الذي يستفز أعواد البخور . وإذا غاب المحبوب واستبد بك الشوق انطفأ نور الوجه وضاقت النفس وذهب الفرح حتى يعرف ذلك في حدة طبعك وانغلاق عقلك وعبوس وجهك ، فإذا التقى المحبوبان والتأم القلب عادت المياه لمجاريها وشعشع الوجه واتسع الثغر وانفرجت الأسارير . سبحان من خلق . ……………… إذا كنت تسم