التخطي إلى المحتوى الرئيسي

التباعد في مجتمع شديد التماسك

“من فضلك اترك مسافة بينك والآخرين” أصبح شعار المرحلة، وتواجهك هذه العبارة في كل مكان تذهب إليه.
الخميس 2020/06/11

في إطار التعاطي مع فايروس كورونا المستجد، وخلال التجربة القسرية للتعايش معه في بعض البلدان التي وجدت في عملية الحظر نتائج اقتصادية لا تقلّ ضررا عن الجائحة، زاد تنبيه السلطات الصحية على ضرورة التباعد الاجتماعي كأداة للسيطرة على انتشار الفايروس والحدّ من ضراوته.

التباعد المكاني، أو التباعد الاجتماعي، إجراءات لمكافحة العدوى غرضها إيقاف انتشار الوباء أو إبطائه، في غياب العلاجات الدوائية، وتبدو فكرة التباعد مكروهة لدى المجتمعات العربية، وهي التي اعتادت على مستوى ربما يفوق غيرها من التواصل العميق والتشابك المعقد.

يقال إن التباعد الاجتماعي قد يكون يسيرا في المجتمعات التي تجذرت لديها النزعة الفردية، لكنه يشقّ على المجتمعات التي تتشارك أفراحها وأتراحها في ترابط وتعانق، يزيد ويتسع حسب كل مناسبة وطبيعتها، ويبدو فكرة غير ممكنة وربما سخيفة بالنسبة لهم.

لذلك يستحث البعض على استبدال التباعد الاجتماعي بالتباعد الجسدي، لما قد يستثيره في النفوس من استفزاز ثقافي، أو خوفا من انعكاساته السلبية اللاحقة على العلاقات الاجتماعية وتهديد استقرار المجتمعات وتماسكها.

وقد نبه الباحث السعودي جمال العقاد إلى أن “مصطلح التباعد الاجتماعي خطأ جسيم، ستكون له تبعات سلبية، ولا بد من استبداله بمصطلح آخر أقرب للواقع مثل التباعد الاحترازي، مؤكدا “أن ترجمة المصطلحات الأجنبية الحرفية غير ملزمة لنا”.

التحذيرات جاءت في مواجهة متخصصين يشجعون على الالتزام بجرعات مخففة من التباعد الاجتماعي، ليصبح جزءا من السلوك العام، حتى بعد انقضاء الجائحة، بوصفه سلوكا صحيا ينجو بالبشرية من تهديد غير مرئي وغير متوقع.

المجتمعات تهندس سلوكها من جديد على وقع ما فرضته الجائحة من شروط معيشية جديدة لتجنب الخسائر الفادحة.

“من فضلك اترك مسافة بينك والآخرين” أصبح شعار المرحلة، وتواجهك هذه العبارة في كل مكان تذهب إليه.

لا توقعات بنهاية قريبة للأزمة، ربما تطول وتتعمق هذه العادات الجديدة في سلوك المجتمع، وتصبح المسافات بين الناس طبيعة مألوفة وظاهرة غير استثنائية، لاسيما وأن الحكومات إلى جانب التشجيع على التباعد، فرضت عقوبات مخالفات على المخالفين ونشرت متطوعين لتنظيم عملية التباعد وإرسائها في مفاصل المجتمع والفضاءات العمومية.

في إيطاليا، قامت هيئة الحماية المدنية بالتعاون مع الحكومة بتنظيم 60 ألف متطوع لتذكير المواطنين بارتداء الكمامات والحفاظ على التباعد الاجتماعي.

وفي السعودية أغلق أكثر من 70 مسجدا لمخالفته الإجراءات الوقائية وتساهله في تنظيم عملية التباعد أثناء أداء الفريضة داخل المسجد، الذي يمثل ذهنيا وعمليا أكثر البيئات الراعية لترابط المجتمع المسلم وتمتين العلاقات بين أفراده.

كما أعلنت السلطات الأمنية السعودية تغليظ العقوبات ضدّ المخالفين وفرضت غرامات تصل إلى 100 ألف ريال.

وشدّد الأكاديمي سعد البازعي على ضرورة التباعد الاجتماعي، لكنه اعتبرها ضرورة مرحلية، وأن “الأوبئة تأتي وتذهب لكن التقارب الاجتماعي يبقى عمادا للحياة الاجتماعية الطبيعية”.




الرابط :



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...