التخطي إلى المحتوى الرئيسي

نجاحات البودكاست تنعش آمال الصحافة بتجاوز أزمتها

تقنية البودكاست تحيي رميم الإذاعات لكنها تختلف عن الإذاعات التقليدية حيث تعطي مرونة في التوقيت وخيارات الموضوعات، ودرجة أفضل من التفاعل المتبادل عبر وسائل التواصل الحديث.

الأربعاء 2019/08/14
أحيت تقنية البودكاست رميم الإذاعات التقليدية وقدمتها بصورة تكنولوجيا حديثة تناسب العصر الرقمي والنمط الاستهلاكي لجيل الشباب، وهو ما ينتظر من الصحافة أن تواكبه بوصفها فعلاً لتقصي الأخبار وتحليلها وإذاعتها، حيث أصبحت الحاجة ملحة لتطويرها على ضوء الآليات التي تتيحها التقنيات الحديثة.
تسجل تقنية البودكاست هذه الأيام صعوداً لافتاً على مستوى المنضمين إلى قوائم جمهورها ومستمعيها، أو صعيد القنوات التي اعتمدتها منصة لبث محتوياتها وطرح برامجها. البودكاست Podcast – وتعرف التقنية أيضاً بـ”البثّ الصوتي”، أو “البثّ الجيبي” أو “التدوين الصوتي” – وهو باختصار عبارة عن برنامج صوتي إذاعي، ينتجه أشخاص عاديّون أو مؤسسات.
 ويطرح البودكاست موضوعات متعددة في جوانب الحياة والتعليم والهوايات والسياسة وغيرها، وهو مسجَّل ومنشور على الإنترنت في سلسلة حلقات، بحيث يمكن للمستمعين الاشتراك فيه وتحميل الحلقات الجديدة عند صدورها تلقائيًّا بمجرد الاتصال بالإنترنت، وذلك باستخدام برامج التقاط البودكاست مثل تطبيق بودكاست Podcasts App لأجهزة الآيفون والآيباد والآيبود والماك، أو تطبيق مثل ستتشر Stitcher لأجهزة الأندرويد.
لقد أحيت هذه التقنية الذكية رميم الإذاعات، وخلقت جيلا جديدا يشبه إلى حد ما جيل الإذاعيين القدامى، ممن ارتبط بالمذياع وشغف به واعتمده مصدراً للاهتمامات الجادة وصنوف المتعة والترفيه، وبعد أن غمرت الساحة فضاءات جديدة للإعلام مثل التلفزيون والصحافة والإنترنت، تراجع دور الإذاعة إلى حد كبير، وأخذ جمهورها يتناقص ويتداعى كلما تقدم العمر بأجياله التقليدية.
ورغم أن بعض الإذاعات بقيت صامدة وقادرة على طرح نفسها في سوق ضيق تشعر فيه بالوحدة وتواضع الشعبية، لاسيما وأن الإذاعة بقيت المصدر المفضل للمناطق النائية والمتخلفة وشديدة الفاقة، غير أن البدائل السهلة والميسرة التي أتاحها الإنترنت والهواتف الحديثة غيرت المعادلة وزادت من حصار الإذاعة التقليدية وأذهب وهجها القديم بلا عودة.
لتعود الإذاعة اليوم، بفضل التقنيات الحديثة في قالب جديد، ولا يمكن القطع بشأن أن البودكاست هو نسخة محدّثة من الإذاعة التقليدية، لكنها تتقاطع معها في الكثير من نقاط الالتقاء، مثل أن يكون المنتج مصنوعا من طرف ما ويستهلكه آخر في المقابل، وكونه معتمداً على الأداء الصوتي بشروطه ومهاراته الاتصالية التي تحتفظ بها الإذاعة، في توظيف خامة الصوت وقدح خيال المستمع، فضلا عن المؤثرات المصاحبة والرهان على استمالة الأذن.
يحدث هذا مترافقاً مع الأعراض غير الحميدة للتقنيات الحديثة، التي تفضلت على الإذاعة بثوب جديد اسمه البودكاست، مع حرمانها من أدبياتها التقليدية، فالبودكاست تكرّس عزلة الفرد في استهلاك مواده الصوتية، فيما كانت الإذاعة فعلا تشاركيا، ارتبط تقليدياً باجتماع العائلة أو أبناء الحي أو زاوية المهنيين لمتابعة ساعاتهم المفضلة من دورة البرامج.
في المقابل تعطي البودكاست مرونة أكبر في التوقيت وخيارات الموضوعات، ودرجة أفضل من التفاعل المتبادل عبر وسائل التواصل الحديث، فيما كان مسيرو الإذاعة يملكون الحق المطلق في تشكيل هوية البرامج وضبط ذائقة المستمعين.
تماماً كما هو الفرق الذي يحدث بين التلفزيون ويوتيوب، وبين صالات السينما ونتفليكس وسواها. يحدث الأمر نفسه للصحافة اليوم التي تعاني من تقلّص حضورها في واقع الناس أمام البدائل الأكثر رشاقة لكن الأقل رصانة، لقد نفذ التحول الرقمي إلى كل الأشياء، ترك أثره في كل نشاطات الإنسان، وأحدث تغييراً في أشكال التعليم والطبابة والنقل والتسوق والاستثمار، ويبدو لي أن الصحافة بوصفها فعلاً لتقصي الأخبار وتحليلها وإذاعتها لجمهور الناس كانت هي الأبطأ في التعاطي مع هذا التحول.
لم يعد السؤال القائم اليوم هو ما إذا كان الورق سيصمد أم لا؟ إذ أن الإجابة الآن أصبحت قاطعة بما لا يستدعي التوقف عند سؤال من هذا النوع، بل السؤال عن مستقبل العالم بلا فعل صحافي رصين، أصبحت الحاجة إليه ملحة أكثر من أي وقت سبق، أمام طوفان التضليل وتزييف الحقائق وسيل الأخبار الكاذبة الذي أصبح يهدد استقرار الناس وأمنهم في خاصة أمورهم وعامها.
الحاجة إلى الصحافة ستبقى قائمة، ويزداد الإلحاح لتطويرها على ضوء الآليات التي تتيحها التقنيات الحديثة
ستبقى الحاجة إلى الصحافة قائمة، ويزداد الإلحاح لتطويرها على ضوء الآليات التي تتيحها التقنيات الحديثة، بحيث تستعيد دورها منبراً ومصدراً لمعونة الوعي العمومي، وتمويل الناس بالحقائق الضرورية لبناء أحكامهم في شؤونهم العامة والخاصة.
ورغم الإحباط الذي يشلّ القدرة على التنبؤ بمستقبل الصحافة، ويجثم على صدور العاملين في هذا الحقل، توفر عمليات التحول المبشّرة لأنواع مشابهة من التدوين الصوتي، وآليات التراسل الفيديوي والكتابي، والبث التلفزيوني والتسجيلي، آفاقا لتأمل متفائل بشأن الصحافة، وأنها ستحصل على طريقها للخروج من هذا النفق المظلم.
 وقد استصحبت خطتها الآمنة والفاعلة لإعادة تموضعها في وجدان الناس وواقعهم، ليس فقط مجرد انتقالها من صفحات الورق إلى أي شكل آخر، بل مستدخلاً ما تفرضه لغة التقنية المعاصرة، من توفير خيارات التعاطي والتناول المتعددة، وزيادة مساحة الخصوصية الفردية في تصميم الأداة، وبناء المحتوى المتخصص والمنفرد، وتخفيف الأعباء الهيكلية في طريقة العمل وصناعة العملية الصحافية، بحيث تكون شكلاً أكثر فردانية.

الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...