التخطي إلى المحتوى الرئيسي

لماذا تضخّم الاهتمام بالرياضة ؟



الأندية – عمر البدوي
اختمر لدي هذا السؤال منذ فترة ليست بالوجيزة ، ولكنه انفجر إلى ملأ ذهني في لحظة خسارة المنتخب السعودي لكرة القدم في بطولة الخليج ، تحول ذلك المساء إلى وطن من عزاء ، تكاد شاشات التلفزيون تقطر دمع الأسى وتعصر قلوب المواطنين فتهطل فيضاناً من دماء الغيظ تجرف البنيان والإنسان إلى هاوية الحسرة السحيقة .
ولأن فيضان الأسى وقف عند بابنا وكاد يهلكنا غردت في تويتر هكذا ” مساء نلملم فيه خيباتنا الوطنية ، ثرثراتنا التي انتثرت في الإعلام خنقها الميدان الأخضر ، كل المنتخبات تناقش كيف تفوز ؟ ونحن لماذا نخسر ؟ ” لعل الطائر الأزرق اللطيف يطير بي إلى موقع آمن وأكون بمفازة من هذا الكرنفال الدامع .
في كل الملاعب التي تستضيف مباريات المنتخب السعودي يشعر عاملوا النظافة فيها بالضيق ، لأنهم يكنسون المشاغبات والمهاترات التي ينحدر مستواها أحياناً إلى دركات مسفّة ، ملاحم كلامية تنتهي بالمنتخب إلى نتائج مؤسفة تغذي مسارح الشغب الإعلامي بمادة جديدة للكلام وطاقة للعمل الشفاهي الذي لا يسمن فوزاً ولا يغني بطولة .
انسحبت الأضواء في السعودية من الملاعب وسلطت على طاولات الحوار التلفزيوني ، استعاضت بعض الأندية المحلية خيباتها في الميدان بالانتصارات المجلجلة في الفضاء الستلايتي ، تضيق أعطانهم عن الاحتفال بالمشروع الوطني واللون الواحد وتنفسح بمنطق الأرقام وتندلق ألسنتهم الفصيحة بلون الفريق الخاص .
بعد ساعات من شخوص بصرك في ( المستطيل التلفزيوني ) تنكس رأسك على صخب شبكات التواصل الاجتماعي ، وفي الصباح التالي تتناول وجبة الصحف التي طبخت على نار هادئة ، ثم تتجه إلى مجالس الحي لاستمرار النقاش ، ناهيك عن موائد الطعام التي تجمعك بإخوتك ونقاشهم الذي لا يهدأ ، وفي فصول الدراسة التي تتعطل فيها الدراسة لأن طالباً مشاغباً لا يتفق مع معلمه الفاضل المناضل في هوية الفريق المحلي ، وتنتهي بزوجتك التي تغالبك في استحقاق فريقها بالتشجيع حتى يفوت المساء دون إحراز أهداف ويطلع فجر الدوام الكريه .
لم يخلق الله في جوف رجل من قلبين ، والعقل لا يشتغل على فكرتين متناقضتين ، إما البناء أو الهدم ، إما التقدم أو التراجع ، إما العمل أو الكلام ، ويبدو أننا نحب الخيار الثاني دائماً في رياضتنا المحلية ، حتى يكاد عدد البرامج التلفزيونية والمواقع العنكبوتية والخدمات الإلكترونية والصحف الورقية يتجاوز حجم الاستحقاق الجماهيري .
لقد دمغت الاهتمامات والمواهب في خيار الرياضة ببريقها وشهرتها ، حتى ازدحمت على شارع الرياضة فانخرط فيها القاصي والداني والخبير ومن ليس بجدير ، إذا انفتحت الخيارات أمام الشباب وأهل الخبرة في مجالات شتى ومتعددة ربما تتنفس رياضتنا الصعداء ويتولى أمرها من هو حقيق بها ، أما وأن الرياضة باقية متنفساً وحيداً للناس وخياراً مفضوضاً للجميع وحمى مستباحاً للصغير والكبير فإنها ستتعثر طويلاً وستبقى في وهدة التخلف ما دام هذا التضييق والتقتير على الخيارات الأخرى .
يذكرني هذا كثيراً بالوضع الفوضوي في مصر الشقيقة ، عندما انخفض الأداء السياسي ارتفع عويل الصخب الإعلامي ، بدأت الأقطاب تتناحر على حصصها من طاولات الحوار ، والمنافسات نسيت همها الأول ( المواطن الغلبان ) واشتغلت على اكتساب الأنصار الحقيقيين والافتراضيين في أصقاع الشبكات العنكبوتية ، بدأت تضيق الرحباء بالمكسب الديمقراطي العام لصالح النوايا الحزبية الضيقة .
نحن في حاجة إلى تفكيك تركيبة الثرثرة التي تتفشى في جسد الرياضة الوطنية ، أن نعطي الفضاء من يستحقه ليبث مشاريع بناءه ، الضوء الأخضر الموشى بالحرية لا يعني مطلقاً في الأدبيات المتحضرة أن تستفز النفوس على نحو هستيري يغيّب النظر السليم للأمور ويعمي الأبصار عن حقائق الموقف بدجل الصخب والمشاغبات الصبيانية .
صديقي علي رجل رياضي ناضج ، كان يتقدمني بخطوات في فهم أسرار الرياضة ونواميس اللعبة ، اليوم ما عادت تستهويه المباريات ويكتفي منها ( بلذة ) متابعة البرامج الرياضية التلفزيونية بإيقاعها المتسارع وعبثيتها الصاخبة ، بدأت قدرات صديقي تنخفض في الإحاطة بشروط الفوز والهزيمة في الميدان ، بلغ درجة من التسطيح تنوء بتهمتها هذه البروبغاندا البصرية .
ليست الضوضاء الإعلامية مسؤولة بالضرورة عن خيبات الرياضة السعودية ، لكنها شريك في حجم المسؤولية التى تتوزعها عدد من الجهات ليس أقلها الإدارة العليا للرياضة في بلادنا ، ولكن عندما تعطّل فلاشات الشهرة لاعباً متمكناً وبارعاً لأنه ( يريد أو تريد ) أن تلاحقه في أخص شؤونه وأدق خصوصياته حتى لو اشترى بيتاً في بلدة تعافت من صحراويتها ، فإن مسؤولية الإعلام تتضاعف ، والسلام .

الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...