التخطي إلى المحتوى الرئيسي

تصادم السرعات




«الإمارات مثل (بيضة كندر): كل يوم مفاجأة، واحنا مثل بسكوت (أبو ولد) صامد سنين، حتى الكرتون ما تغير..... التشبيه يقتل» رسالة بلاك بيري.
كان يوماً سعيداً لا يتكرر عندما ارتفع رنين الهاتف مجلجلا في منزلنا، كان عمال شركة الاتصالات يعملون بدأب في شوارع قريتي الجنوبية لتمديد أسلاك الهاتف إلى المنازل، كان الأهالي يشعرون بنشوة التحضر، يشكرون هذه الخطوة التنموية المتقدمة، كانوا يحتفلون كثيرا بعمال الاتصالات ويوزعون عليهم أكواب الماء وربما فتحوا لهم الأبواب لتناول الغداء سوية.
للمرة الأولى أعرف أن للهاتف (حرارة) تسري في عروقه وكيابله لتمد هذا الجهاز العجيب بالحياة وتغذيه بأسباب العمل،
يا الله، إنه بوابتك إلى العالم، وصلتك بالخارج، اليوم أصبح متاحا أن أهاتف أصدقائي في كل وقت، أن أتحدث إلى إخوتي المغتربين لأغراض العمل، أن أتحسس وجودهم بقربي عبر أثير الهاتف.
ها هو أخي (محمد) يدخل المنزل وهو يحمل قطع جهاز الكمبيوتر المكتبي، سمعت أنه هدية من صديقه (مشعل) الذي أصبح دكتورا فيما بعد، لا يهم، الآن سنجرب الاحتكاك بالانترنت، وسنتعرف على هذه الشبكة العجيبة، سنمتلك فرصة للتميز على أقراننا، سيتسنى لي أن أملك (سوالف) جديدة كل يوم لزملاء الدراسة من وحي هذا العالم الافتراضي.
استعمل أخي محمد عاملا سودانيا لتعليمنا مهارات العمل على الكمبيوتر، كُتبت وثيقة السلوك والشرف ووضعت محاذير الاستخدام حسب تقاليد العائلة، ووزعت حصص الوقت على عدد الشباب مع استبعاد عنصري غير مقبول للبنات.
ها هو نعيق الاتصال بالانترنت يستصرخ من جهاز العمليات الحاسوبية، لحظات انتظار ثقيلة حتى تفصح الشاشة عن حالة الاتصال بالانترنت، التصفح ثقيل ومرهق ولكنه ممتع، لم يبلغ في ذهني أن السرعات ستتطور إلى هذه الدرجة الجنونية، المدهش أن حياة الافتراضيين نفسها تبدلت إلى حركة متسارعة وموارة تتململ كثيرا من تقاليد الانترنت العتيقة.
المجتمع نفسه في ظل هذا التسارع لم يعد يرضى بالبطء الشديد في المؤسسات، وسائل الإعلام التي تخضع لبروتوكولات التراتبية ليست ذات قيمة أمام المعلومة الخبرية التي تتقافز في شبكات التواصل، وعود التنمية المتعثرة تخسر الرهان أمام عوالم محيطة متغيرة وتتنافس على الجزء اليسير من الثانية، البيروقراطية المقيتة في الإجراءات الإدارية والحكومية تتضاءل خجلاً أمام مشاريع الحكومات الالكترونية العملاقة، احتكار العمل الوطني شيخوخة أمام نظارة الشباب المتحول إلى الشراكة المنتجة، الغموض والضبابية والتسطيح أصبحت عملاً مستفزاً في زمن يتطارح الناس مطالبهم وحاجاتهم بكل وضوح وشفافية ومباشرة.
التغيير يزحف بسرعة مذهلة في وسط هذا العالم، وتقنيات الاتصال الحديث تؤجج الرغبة في الامتثال لدواعي العصر والاستجابة لضغوط الواقع الحديث، والبطء المقصود أو العفوي يضرم تصادما بين السرعات، ويحدث فجوة عملاقة بين إلحاح العصر والاستجابة المناسبة، يشق عصا التوافق بين الحكومات والشعوب.
لوحات مدد المشاريع التي توضع في واجهة البنايات الجديدة أو الطرق والجسور المستحدثة مجرد مشابهة شكلية للعالم المتقدم، أحيانا ترفع هذه اللوحات أو يتوقف عدادها الرقمي استجابة للتوقيت الموضوع، بينما لا يزال المشروع في مراحله الطفولية وربما توقفت نبضات قلبه لخطأ طبي أو عارض طبيعي مبهم.
يتبادل المستخدمون في العالم العربي مقطع فيديو لعمال صينيين ينجزون مشروع بناء ضخم في ساعات معدودة، وكأنه نوع من التعبير عن العطش لهذا التوافق الزمني.
في السعودية دعا وزير العمل جموع المغردين إلى وليمة عشاء لتوضيح موقفه من قرار رفع تكاليف اليد العاملة الأجنبية، تويتر استشاط غضبا على هذا القرار مما دعا وزير العمل للتحرك سريعا وإحاطة المغردين بداوعي القرار، في الإمارات تحولت تغريدة نصح للسعودي (هاني سندي) إلى فكرة واقعة على أرض الحقيقة خلال 57 يوما فقط حول خدمات النقل العام في دبي.
البرنامج اليوتيوبي المعروف (ايش صار في تويتر؟) دعا في نهاية الحلقة الثانية إلى متابعة - وهذا تقليد تويتري - وزير التجارة السعودي توفيق الربيعة وذاك لأنه مهتم بمتابعة حسابه شخصيا وسرعة الرد والتفاعل والتوضيح مع متابعيه، بالتأكيد هناك تغيير كبير في المشهد، ومن الذكاء مواكبته.
هذا الانفتاح الذي تحقق بفضل شبكات التواصل البديلة وسع من مدارك الشعوب، عرّض المشاريع المحلية إلى المقارنات الدولية، عمّم التجارب الناجحة، وصدّر آليات التغيير والمحاسبة إلى خارج حدودها وهذا يضيف من أعباء التثاقل ويضاعف آثار البطء السلبية.
أصبح واضحا أن العالم الحديث يدار بعقليات تجاوزت الأسلاك التي لم تزل مسجاة في تراب قريتي، المجتمعات تتضور جوعا للانفتاح على بعضها، والعولمة تضرب بقوة في جسد المجتمعات التقليدية، والتراخي المزمن لبعض الحكومات قد يضاعف المخاطر، إذ الاستجابة غدت ملحة وضرورية حتى لا يكتشف البعض أنه ما زال منغلقا في كرتونه.


الرابط :

http://www.makkahnewspaper.com/makkahNews/blogs/91604.html#.VHMC5ousVdM

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...