كل شيء حولي يصيب بالكآبة وينقل لك جرثومة آثمة أنهكت جسد مجتمعنا النحيل الموجع بالوخزات المتتابعة من الأخطاء والانحرافات ، حتى لا يكاد يفيق من سباته الطويل ولا يصح من سقمه الموهن .
طموحات أبنائنا لا تتجاوز منابت شعورهم ، لا أعرف ربما كانت هممهم أضعف من ذلك ونفوسهم تقاصرت دون بلوغ المعالي ولا تفتئ ترسف في وحل الرجعية والتخلف والدونية .
حتى مستوى تفكيرهم ، لا تكاد تجد رجلاً صاحب عمق وبصر نافذ لرؤية الأشياء فما إن تتثاقف معه شيئاً من القضايا والأمور حتى تصطدم بسطحية في الفهم وجهل مطبق لا تكاد تعرف منه أي وجهة يقصدها أو باب يطرقه .
كل شيء يصيب بالإحباط حتى صغارنا أصبحت لغتهم نائية عن الفضائل والرشد وغلبت عليها المحسنات السخيفة والسجع الرخيص الذي أستعظم ذكره في هذا المكان وبدأت تغزوهم كثير من الأفكار الرديئة والبالية أو بالأصح الجنسية وعفواً على ذلك .
كل شيء اعتراه التشويه ولحقته الأيدي الآثمة التي تلطخت بالدماء البريئة ورزحت فيها بقايا أنفاس الفضيلة والرفعة والحشمة ، حتى الحب هذا الكائن الجميل الراقي الذي يطير بالحياة ويرنو بها إلى حيث السلام النفسي والتسامح الوجداني ، أصبح مشيناً أن يحمله الرجل في صدره أو يعلنه لإنسان .
معاني البطولة اختلفت كثيراً هذه الأيام ، فمنذ فترة بعيدة كان صاحب الجسم المفتول والأكتاف السمينة والكف المبسوط التي يثرف بها الخمير والفطير والسمن والزوم هو الصورة الأجود والفضلى للشباب .
اليوم أصبح ذلك الناعم الذي يرسم ملامح جسده بالبنطال الضيّق والذي يتحدث بهدوء رومانسي جذّاب ولغة رقيقة وصوت رخيم ووجه مصبح بشوش ورائحة الفروالة المثيرة ، تلك هي صورة الشاب الذي يسترق أنظار الناس ويستحوذ اهتمامهم .
ولو تتبعت كل مظاهر العيوب والنقص لأدماكم الألم كما أبكاني وألقى بكم في وحل اليأس والخيبة التي أرتع فيها الآن ، إنه شعور بائس يزلزل الكيان ويهزّ الأركان ، ولا أزكي نفسي ولا أدّعي الحرص البالغ لكنه الأذى الذي يزكم الأنوف ويعفن الأرجاء وينوبك منه بعض أذى لا شك .
إنها الحقيقة يا صحب ، كل شيء حولي يؤلمني بقوة وينكأ الجراح في صدري ويحطم كل معاني الفأل في مستقبل فاضل ومجتمع يقبل على التقدم والمدنية والروعة ، يحطم كل المعاني الخائرة التي تسربت بصعوبة وسط كل هذا الركام المهول من المعائب .
كنت أعتقد أن مجتمعنا مقبل إلى الأمام ، لكنني أكتشف مع كل وهلة أسبر فيها غوره أجد من النقائص والتشوّه في تركيبته ما يزلزل كل هذا الاعتقاد ويوهنه .
حتى توجهات الإصلاح والدعوة والتنوير التي يقوم بها بعض أشخاص هنا وهناك ، لا أجد لها أثراً واضحاً يستحق أن تعبأ به وتتلمسه وربما غرقت في طوفان الشر والبؤس والفساد .
أو ثمة عيب يلاحق كل تلك الجهود المشتتة التي تخوض عراك ضد جيش جرار من الإفساد والتجهيل والخيبة ، جيش مدجج بأعتى الأسلحة وأقوى التجهيزات الفنية والتكتيكية ويتلقى مجتمعنا ضرباته دون وعي .
لقد أصبحت أخشى على نفسي البقاء طويلاً في الشارع ومخالطة البشر خارج حدود تفكيري وصدري ، فلعلي لا أسلم من كل هذا الطوفان الهادر الذي يأتي على القيم والمبادئ ولا يدع لها فرصة للعيش سانحة واحدة .
وكل النوايا التي تطل من صدور الغيورين من أجل استصلاح المجتمع وتطهيره من كل هذا الركام الآثم الذي تروج منه رائحة الفساد والخنا والغيّ ، تتهددها فيروسات فتّاكة لتقضي عليها وتقبرها في صدر ذلك المسكين الذي يظن أنه أقوى من هذا كله .
أعرف أن بعضاً ممن يقرأ هذه الكلمات ربما ينقم عليّ أو يحمّلني مسؤولية تشويه صورة المجتمع الفاضل الذي يعيش فيه ، لكنه إنما يكذب على نفسه ويزيّن له موقف المتفرج دون أن يعترف بالحق ويكشف الحقيقة .
لا أتحدث من برج عاجي ولا أستعدي مجتمعي المسكين فلعل هذا التجني عليه جزء من هذا العضال العام والداهية التي حلّت به ونزلت بساحته ، والله المستعان .
أعرف أن أصحاب مشاريع الإصلاح في المجتمع يشعرون ببعض الهدوء لأنهم يعرفون أنه يقابل هذا الفساد والشر بعض من الخير والفضيلة التي تتبدى من مشاريعهم وبرامج غيرهم ، لكنني أضعهم أمام هذا السؤال الكبير !! هل تقوى أن تعيش مشاريعهم أكثر وأبقى وأقوى من عيش تلك الأخرى التي تعشش في قلوب الناس وترتع في صدورهم ؟
ليس الشأن ضعف مثل تلك المشاريع التطوعية أو المؤسسات المدنية التي تؤدي بعضاً من دورها وتعاني شيئاً من النقص ، لكن القضية تتعلق بكل المحاضن التي تحتوي أبنائنا بدءاً بالأسرة وانتهاءاً بمكان عمله ، كل هذه مسؤولة عن ولادة هذه الإشكالات وعن وأد الخيرية والفضيلة في مقبرة الأخطاء والمعائب .
إننا في حاجة أن نضفي شيئاً من النوعية والجدّة إلى تلك البيئات المختلفة حتى تصيب خصومها في مقتل ، وأن نقود حملات تصحيح وتقويم وتجديد داخل مثل هذه المعسكرات التي تجنّد أبنائنا للشياطين ومشاريعه الخسيسة .
تعليقات
إرسال تعليق