كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع.
أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط.
لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغامرات السياسية والعسكرية التي أنهكته وأرهقته.
- غير أن الالتحام الدرامي لصدام حسين مع الغطرسة الأمريكية صنعت منه رمزًا متخيلًا، الولايات المتحدة التي لا تجد قبولًا في الذهنية العربية لقاء سلسلة من المناسبات التي تختصم من حقوق الشعوب العربية في مستقبل آمن وواقع جيد، فالولايات المتحدة الأمريكية تجاهر برعاية ربيبتها الصهيونية في قلب العالم العربي وتقدم خدماتها الدبلوماسية واللوجيستية للحكومات العربية المستبدة، بالإضافة إلى بؤر التشابك المباشرة بين الهيمنة الأمريكية وجماعات الممانعة الإسلامية والعربية، كل ذلك وضع في كفة الرئيس العراقي الذي اصطف العالم العربي على المستوى الشعبي وراءه في لحظة تاريخية فاصلة، وكلما زادت حالة الصدام الدرامي ازدادت شعبيته أكثر فأكثر في معادلة طردية مثيرة للانتباه، وهذا يشبه ما يجده قائد تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن من شعبية طاغية وقبول يتجاوز التحفظات الشرعية والسياسية على منهجه وسيرته.
- كما أن التمدد السياسي الشيعي الذي ينطلق من العاصمة الإيرانية إلى مناطق متناثرة من الشرق الأوسط حتى تكاد تشتمله وتحيط به في ظل غياب صارخ لمشروع عربي مضاد؛ يذكر بالدور الذي كان يتصور أن صدام حسين يقوم به لحماية المنطقة عبر بوابة الالتقاء الحدودي بين إيران والعراق، سيما بعد ثماني سنوات من الحرب الماحقة المباشرة بينهما، لتشتغل الآلة الشعبية على إنتاج أيقونة سنية مستأسدة تضاف إلى المزايا والوظائف المتخيلة للرئيس العراقي.
- ويبدو أن ضعف الإشباع السياسي الذي يعانيه الفرد العربي نتيجة غياب مشروع سياسي واضح بعد أفول النجوم السياسية التقليدية بوفاة الحاكم المصري القومي جمال عبد الناصر؛ يشير إلى جانب من الشعبية التي يجدها الرئيس العراقي بين الشباب العربي، متجاوزين كل المآخذ التي يمكن أن تذيب تلك الرمزية الجارفة التي تفقد مبررها المنطقي، وهو يفسر تقريبًا الشعبية التي تنمو بإطراد للرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان كرد فعل على عدد من المواقف البطولية الشكلانية التي تأتي في صورة مناصرة للقضايا العربية والإسلامية دون إحراز تقدم عملي على صعيد الواقع.
- ولعل الشعبية التي يلقاها صدام حسين يؤيد فكرة الذاكرة الضعيفة للشعوب التي تتجاهل الأخطاء الجوهرية وتتعلق بأسمال مواقف عابرة لا تشكل قيمة واقعية وجدوى حقيقية، وهو توافق تاريخي مع العقلية العربية التي تعيش حالة من البداوة والقدامة العصرية، وتنشط لأشكال من العصبية والقوة الباطشة، ويبدو ذلك واضحًا بالنظر إلى المكانة الأثيرة للشخصية التاريخية الإسلامية الحجاج بن يوسف الثقفي الذي يجد له تمجيدًا من نوع خاص وكأنه انتصار لنفس مجبولة على البغي والبطش، رغم أن تاريخه الشخصي مليء بالمثالب التي تعتبر تجاوزًا في الاعتبار الحضاري لإنسان هذا الزمان وفي الاعتبار الشرعي للفرد المسلم، والشعبية التي يجدها هو وغيره تكشف عن استمرار منطق الشخوصية المفرطة وتقديس الأفراد وتقديمهم على القيم والمبادئ والمعاني كواحدة من أمراض الثقافة المتخلفة لشعوب العالم الثالث، وذلك خير تمهيد تجده الديكتاتورية لتمد ظلها على الشعوب المستضعفة.
- كما أن الفشل الذي منيت به العملية السياسية في العراق بعد محاولة عسكرية أمريكية لإحلال الديمقراطية في بغداد على ركام من الويلات الاجتماعية والثقافية؛ يذكر بأيام عمرو، والفوضى الدامية التي خضبت أرض العراق وفتكت بشعبها المنهك من الحروب والصدامات يخلق حنينًا للاستبداد الآمن الذي مكّن صدام حسين من فرض نظام حكم صارم وحالة من الاستقرار النسبي التي يفتقدها العراقيون الآن، مما يمنحه مبررًا آخر لمصداقيته وتلميع صورته.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق