التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الأدب في مقابل لقمة العيش

قد لا يكون من اللائق أن أسمي الأدب في مقابل لقمة العيش لأنها مطلب البسطاء والمعدمين وسؤل الدهماء القانعين بينما يظل الأدب بغية النابغين والطبقة المثقفة الألمعية التي تتصدر مجتمعاتها وتضيء لهم الطريق نحو التمدن والحضارة والرقي .

ومما يؤسف له في عالمنا العربي - ومصر تقودنا في ذلك - أن الأدب لم يعد مهنة لأحد ولا مطلباً لمخلوق - من أي الطبقات انحدر - في ظل لهث الشعوب العربية وراء لقمة العيش في كل زاوية من الحياة حتى في " صكوع الحجران " كما يقول أهالي قريتي البسيطة .

في القرن الفائت انتشرت مهنة الصحافة وأصبحت مكاناً حصيناً وأماناً وظيفياً تنيل صاحبها ثروة كبيرة ناهيك عن تموقعه الاجتماعي المرموق والإشارة إليه ببنان التقدير والإعجاب وهذا ما جعل من الصحافة محضناً للأدب الراقي وبياناً للحالة الثقافية والأدبية التي كان يعيشها المجتمع ذانك الحين على خلاف زمننا هذا الذي استخفت فيه الصحافة بالأدب وأصبحت تجري وراء القصص المبتذلة وربما المختلقة حتى ترضي ذائقة الجمهور التي نزلت إلى أسفل سافلين ، وقراءة لعدد واحد من صحيفة الرسالة يثري لغتك ويروي غليلك ويغني ذائقتك عن مئات الصفحات من صحف اليوم التني تنزل بتفكيرك إلى المجاري والسكك والبلديات والشؤون القروية .

ولأن الصحافة حاضنة الأدب في الزمن المنصرم كانت الطريق للثروة والشهرة والإبداع حينها يمّم الأدباء الكبار وفطاحلة اللغة والتاريخ والفن وجوههم قبالة الصحافة واستزادوا من مهاراتها وتملكوا أدواتها ورفعوا من حصيلتهم الثقافية وذخريتهم اللغوية في تنافس محموم لنيل استحقاق قراءة الجمهور وكسب المؤيدين للمنهج الذي يسلك الأديب والمدرسة التي يدعو لها من تقليدية أو تجديديه ، من توجه تغريبي أو محافظ أو بين بين كما الإصلاحي التنويري .

ومما يؤسف له - وما زلنا في مصر قائدة العروبة - أن لقمة العيش ظلت طريقها بفعل الاستبداد السياسي الظالم ليجدها المواطن المعدوم في المهن الساقطة وتضطره الحكومات الفاسدة إلى أضيق المسالك وأحط الطرق لينال لقمة عيشه مع غصّة خانقة متناسياً وراءه الأدب وهمّ الثقافة وشأن اللغة وراءه لأنه لم يعد من صنوف الوظائف التي تأتي بـ" لقمة العيش " .

لن يصبح الأدب مهنة عظيمة ولن يأخذ حقه من صدارة فنون الشعوب العربية إذا بقيت الحال على هذه في لقمة عيشهم ، لأن الأدب يزدهر في الطبقات الوسطى التي تضيق دائرتها في عالمنا العربي كل لحظة بفعل الحكومات الفاسدة والبائدة .

الطبقات الوسطى التي تأخذ بحقوقها الضروية وتعيش دون حد " الكماليات " لتتفرغ بذهن شبه صافي ونفس أقرب ما تكون إلى القريرة والمستقرة إلى الأدب وشؤونه وربما تخرّج هذه الطبقة المجتمعية النشطة رجالات الأدب المتمكن والثقافة القديرين على تناول قضاياه وإنتاج أطروحات تجديدية تعيد إلى الأدب هيبته وتلميع صورته وتأطيره ضمن ملامح المجتمع المتحضر والمتطلع إلى التقدم .

لا يموت الأدب أو تكسد سوقه ويتوقف حراكه إذا فقدنا الأدباء الناضجين والمتمكنين من أدواته وإمكاناته - فلا يحدث هذا إلا إذا طويت الأرض - ولكنه يتعرض لغيبوبة طويلة إذا فقد من يقرأ له ويتابع جديده ويتفاعل مع دسمه وثمينه ويطوّر غثّه وضعيفه .

والشعوب التي تذهب أعمارها في استجداء لقمة العيش وقد تموت في سبيل ذلك لن تتفرغ لأدب ولن تقوم بحقه من الإنتاج والتطوير والطرح وقد يصبح فيما بعد واحداً من أشكال التعفن والفساد الذي يطرأ بالمجتعات المسحوقة ليصبح مهنة المتزلفين والمنافقين مما يزيد من الأعباء على كاهل مجتمعه ويكرس للتخلف والتراجع ويغذي استبداد الحكام وظلم الفاسدين .

ليس الشأن أن ننزل بالأدب إلى المجتمعات ونتجنب استخدام اللغة النخبوية والمتقعّرة ولكن الشأن أن نرتقي بالمجتمع إلى الأعلى وننشئ مجتمعات تجد لقمة عيشها بكرامة وتنال استحقاقاتها وتتشارك في رسم سياسة حكوماتها وتشارك في " الشأن العام " وهو مسرح الأدب والغذاء الذي يقتات عليه هذا الفن الراقي والإكسير الذي يمنحه الديمويمة والعيش .

في مجتمعات المعرفة التي وصل إليها الغرب بعد تجاوز مجتمعات الزراعة والصناعة يتم تخريج الطلاب ليتناسبوا مع سوق العمل الذي يقوم على استهلاك الثقافة ، والكفاءة مبنية على قدْر المعرفة ، والمخرجات معرفية وثقافية وفكرية من الطراز الأول ، ونحن لا نريد أن نرحّل مجتمعاتنا إلى هذه المرحلة لأن في ذلك حرق للمراحل قد لا ينذر بالخير ولكننا نريد أن نجعل من الأدب والثقافة وظيفة مرموقة ومهنة شريفة وشيء يتعلق بموقعك من المجتمع وحظك من التقدير والتوظيف والصدارة .

نحن ما زلنا في طريق بحثنا عن المخرج من - مصر - حيث نقف وسط حشود المتظاهرين في ميدان التحرير المطالبين بحقهم في بناء مستقبلهم والعيش بكرامة وحرية وإعادة الحياة إلى الأدب الذي سلبته لقمة
العيش وطحنته وكادت تفتك به .

ثمة نور !

عمر علي البدوي
الإثنين 27 / 6 / 1432 هـــ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...