ها قد أقبلت علينا إجازة هذا العام بغضها وغضيضها ، وبدأ الناس في حزم الأمتعة ومدّ الأشرعة للسفر وقضاء الإجازة بعد عام كامل من العمل والبذل .
انطلاقة عائلتنا بخير ما يبدأ به " مكة المكرمة " بيت الله الحرام ومسقط نبينا الكريم – صلى الله عليه وسلم - .
أربع مئة كيلاً كانت الفاصل عن تلك المحطة الإيمانية نحط بها رحالنا ونرخي سدولنا ونترجل عن ظهر فرس الأيام الذي يشق سنوات عمرنا نحو الأمام حيث الوعود الموعود واليوم المشهود .
محطة تستوقفنا لنتزود منها بوقود العبادة وإكسير الإيمان لنقضي به ما بقي من أعمارنا التي تحترق أمام أعيننا .
وهناك .. حيث وصلنا مشاهد إيمانية تحف المكان ورهبة المحبة والرجاء تعج في آفاق النفوس وبواطنها ، أكوام الناس تتدافع مقبلة على الله ، ودموع المذنبين والمخطئين تنهمر عسى أن تغسل دنس الليالي وخبث الأيام .
وأصوات الهاجعين في الأسحار والمتعبدين بالنهار تتداعى إلى الآذان كضجيج النحل المقبل على ملكته يحفها بحبه ويتوسدها بالطاعة والولاء وأدنى ما يرجو رضاها عنه وقربه منها .
وما إن انتهت أيام النزول في مكة – حسب ما جاء في الخطة – غفلنا راجعين وقلوبنا يملؤها الأسى والحزن على مفارقة أطهر بقعة وأقدس مكان وقد لحقنا من خيرها ونالنا من طيبها الكثير .
****
وغير بعيد عن تلك المدينة العفيفة حيث أقلتنا المركبة إلى هناك ، المدينة النائمة على فراش الماء الممتد على طولها وقد لفها الليل بدثاره الحالك إيذانا بدنو موعد الأنس ولحظات المتعة والفرح .
وفي إحدى منتجعات المدينة الراقية كان توجهنا ، بالقرب من أمواج البحر الناعمة التي تترامى على الشاطئ بهدوء ساحر .
وما إن دلفنا إلى عمق المكان وغوره حتى رأينا العجاب !! صوت الموسيقى الصاخب يتردد في المكان ، وأجساد الفتية والنسوة توشحت بأردية لا تحمل من ثقافتنا وديننا أدنى علامة أو دليل .
وجوه شاحبة ارتسمت عليها ابتسامة صفراء مزيفة وخلفها قلب متضجر وصدر محبط ، ظاهرها فيه الفرحة وباطنها من قبله النكال .
الفتاة هنا أسبق للرجل منه لبدء علاقة شرعية تنتهي بمأساة لا شك ، وللأسف أعنت أحدهم – دون علم – بمنحه قلمي ليكتب رقم محموله كخطوة أولى للعلاقة المحرمة .
بينا عيناي شاخصة في هذا المزيج المتعفن إذ بطاولة وقد اجتمع حولها لفيف من الإخوة نساء ورجالا يتبادولن فيما بينهم أعواد الدخان ، وبقايا من الحياء تتبخر مع دخان النرجيلة المتصاعد .
ها قد وأدت " الحضارة الزائفة " شخصيتهم ومسخت قيمهم حتى غدوا أجساداً بلا أرواح وجثثاً هامدة يحركها ما بقي في أصلابها من الغيرة ، وهو غير كثير .
لم يسغ لي الجلوس في المكان خشية أن تبلغني أنياب هذا الذئب الضاري لينقض عليّ ويرديني قتيلاً في ساحة المهووسين بالحضارة الجوفاء والمدنية الشاحبة .
وشتان بين بقعة تصيبك بخيرها وتجدد في قلبك الإيمان وتدفع عجلات ذاتك نحو الفأل والإنطلاق .
وبين أخرى تقذيك بنتنها وتؤذيك بعفنها ، غير أن هناك حضارة تمد لك يد التغيير نحو الأفضل والعمل من أجل الإصلاح ومدنية تختصر لك طريق النجاح دون غربنة عمياء وتشبه أحمق .
تعليقات
إرسال تعليق