التخطي إلى المحتوى الرئيسي

أمي متوفية .. هل تعرف كم تساوي ؟

أصبحت الآن طالباً جامعياً حيث يوم الجمعة الموعد المعتمد لمغادرة القرية إلى حيث جدة لاستئناف الدراسة مطلع كل أسبوع أو على رأس كل عام دراسي جديد ، واعتدت أن يربو غيابي عن " الديرة " على الشهر وما إن يحين موعد زيارة القرية حتى تبدو أسارير وجهي ويجري هرمون السعادة والانبساط في داخلي .
وصلت إلى القرية تلك الوجوه المألوفة التي تتوزع على جنبات الطريق المؤدي إلى بيتنا ، وألئك الثلة التي تتحلق في متجر " بلقاسم " التجاري وسط حارتنا العتيقة .
في ميمتني حقيبتي المثقلة وميسرتي جهازي " اللاب توب " وثلاث دقات على صفحة باب بيتنا الذي بدى وكأنه يغني سعادة بمجيئي ، في الداخل ينتظرني أخواتي الوادعات وأنا أوزع القبلات الحارة في كل اتجاه تعبيراً عن شوقي وفرحتي بهذا اللقاء الأسري الذي يتكرر نهاية كل شهر على امتداد العام الدراسي .
أحمد صديقي ، عفواً .. أخي يلون هذه اللحظات بترحيبه الحار وكلماته المشبعة بالحب ( حي الله أبو ملاك ) ، ابتسامته الصافية التي تسع كل معاني الجمال والرقة تطيب لها نفسي التي اشتقاقت كثيراً لها .
ضناني الشوق وازدادت شجوني *** وكثر الهم حرق لي جفوني
ثمة فقد أشعر به ، وآخرون لم تحن ساعة لقائي بهم ، أجول بناظري في صفحة وجوه إخوتي من الذكور والإناث وأعيد تقليب النظر مرات وكرات ولا أكاد أجد تفسير هذا الشعور الغريب .
أجلس في غرفة المعيشة التي تتوسط منزلنا وأكواب الماء البارد وكاسات الشاي تتوافد كل حين احتفاءاً بقدومي ، وعيني تقفز إلى كل قادم جديد وأذني تسترق سمع صوت الأقدام المقبلة إلى الغرفة .
كل ذلك من أجل إيجاد إجابة لسؤالي وراءاً لظمأي ، بعد برهة من الوقت أن ذلك مجرد وهم لا طائل منه وأبرّ حرارة السؤال بإجابة كريهة : تلك روح أمك التي غادرت الحياة يا عمر !!
لم يعد للحياة معنى حقيقي ، إن كل النجاحات التي أنالها والإنجازات التي أحصّلها لا تكتمل فرحتها ولا ينتظم عقد سعادتها دون تلك المخلوقة العظيمة .
ربما لم يمنحني القدر الفرصة الكافية للعيش في كنف والدي الحازم كما سمعت عنه ، لكنني عشت في حضن امرأة كانت الأم والأب والأخ والصديق ، تلك العجوز وليست بعجوز فروحها الشابة ما زالت تتوثب في أعماقنا وتتنفس بكل قوة في كينونتنا .
إن الصف الثاني من هذه العائلة الذين يبدؤون بنايف – المثقف الموسوعي – إلى الابنة الطائعة التي تعقبني ، ذلك الصف الذي شذّبت تلك المرأة نفوسهم وربّت فيهم كل معنى رائع نافع .
( أمي عظيمة ) تلك كلمة يسهل أن تجري على كل لسان ويحلو لكل امرئ أن يقولها بملء فيه ولا أعرف إن كان قد أدى حقها ، لكن صدقوني ( أمي عظيمة !! ) أقولها وكل حرف يعنيني شيئاً وتزكيه مواقف تترى تجلت فيها التضحية وتجسدت الأمانة والمسؤولية في أبهى صورها وأنصع أشكالها من أم تجاه أبنائها .
لله درها ، كيف كانت صلبة جلدة في مواقف كانت لتهتز منها الجبال وتخور بالرجال ، ذلك يوم صدمت بخبر وفاة ابنها البكر الذي خرج قبل ساعات من يديها حياً يرزق وعاد محمولاً على الأكتاف .
الوادع الأخير الذي جمعها به انكبت تقبله وتودعه وكأنها تهمس في أذنه شيئاً ما ووعدته أنه لن يطول بها المقام على وجه الأرض حتى تنظم إليه بعد عام واحد فقط من وفاته ، يبدو أن الحياة لم تعد تعنيها شيئاً بعد مغادرة ابنها الأكبر الذي عقدت عليه آمالها وكان الوجه المشرف لحياتها التي طالما كانت عابسة مؤلمة ، ابنها الأكبر الذي شاركها مؤنة تربية أبنائها وقد توفي عائلهم ولم يطرّ الشارب في وجوههم بعد .
لا تعرفون كم تساوي كلمة مثل قولي : أمي متوفية ، لا يمكنك أن تقول هذه الكلمات قبل أن تسبقها غصة حادة تخنق أنفاسك وتدغدغ مشاعر الألم في داخلك فتسح عينيك دمعاً ودماً .
ذلك عندما يسألني أحدهم ممن لا يلم بكثير معرفة بعائلتي عن أحوال والدتي ، فأجيبه بكل ألم وعينين محملتين بالبكاء وتنهيدة حارة من أعماق الصدر كانت اللحن الحزين لضرب السؤال على أوتار القلب المكلوم .
إن وداع أمي الدمعة التي لم تجف بعد ، والفاقة التي لم تشبع ولكن إلى الله المصير والمرجع .

إلى صلاة الفجر

الله ما أجمل ذلك الصباح ، كنت حينها صغيراً لم أبلغ سن التكليف وعنّ لي أن أصلي الفجر في المسجد لم أكن أعرف أن أمي لن تسفّه طلبي ولن ترد سؤلي .
كان الطريق خالياً من أي ماشٍ أو قاصد للمسجد وإخوتي من الذكور لم يبيتوا في المنزل ليلتها ولم تجد من يصطحبني إلى المسجد ، عندها تدثرت بعبائتها و " طرفتني " حتى منتصف الطريق حيث وجدنا رجلاً أكملت معه بقية الطريق .
حال عودتي من المسجد كنت مطمئناً لا حاجة لمن يرافقني في طريق العودة ، لكن والدتي – رحمها الله – لم يقر لها قرار حتى التقتني في منتصف الطريق وعدنا معاً وأنا أحتفل مع نفسي مسروراً بما صنعت .
فصلاة الفجر لا يقوم لها إلا الرجال .

مباراة أحمد
لم يكن ذلك المشهد الأول الذي يستدعي الاهتمام ، فسؤال أمي عن أدق تفاصيل أبنائها ليس بجديد حتى تلك الاهتمام الساذجة التي كان يتناولها الصغار كانت تشكل اهتماماً واسعاً لتلك الأم الرؤوم .
أحمد .. الأخ الصديق صاحب الاهتمامات الرياضية يستعد وقت الظهيرة لمباراة مهمة لفريق الحارة مع خصم عنيد عتيد ، استدر دعاء كل أفراد عائلتنا سيما أمي ، فلكم سمع أخي أحمد عن فضل دعاء الأم .
غادر أحمد المنزل مع أذان صلاة العصر الذي رفع قبل قليل محفوفاً بدعاء أمي البسيطة ، ولأني لا أهتم كثيراً بأمر الكرة لم أحتج حينها لمتابعة المباراة .
مع قرب انتهاء المباراة وحسم النتيجة وصوت زقزقة العصافير المتداعية إلى الأسماع قبل حلول المغرب ، أمي تقف خلف باب المنزل تلتقط الأخبار وأنا أتصيد هذا الموقف بذهول وإعجاب كبيرين .
ها هي جموع الفريق الذي يديره أخي أحمد ترتفع هتافاتهم جذلين بالفوز وما إن وقر في صدر أمي المسكينة فوزهم حتى أضاء وجه أمي فرحاً بذلك .
وعادت إلى سجادتها الممتدة في وسط الباحة المنزلية وانخرطت في صلاتها الفياضة بالإيمان والاطمئنان .

يوم كئيب
كان ذلك يوم السبت ، طلع الأسبوع الجديد لم يكن ذلك اليوم عادياً فالشعور بضيق الصدر والكآبة ظهر منذ الصباح الباكر .
كان الأسبوع الماضي كله حزيناً بائساً ، لقد كان الأسبوع الأول في حياتي القصيرة الذي تنام فيه والدتي خارج المنزل حيث المستشفى ، مسجاة بذلك الرداء الأبيض الكريه .
إنها تغط في غيبوبة عميقة فلقد اشتد بها المرض كثيراً ، ولم تعد تملك المرأة القوية التي توحي لأبنائها بالصبر والجلادة والإصرار في وجه مصاعب الحياة .
تلك المرأة الصابرة المكافحة التي ربت بيديها وصبرها وجلدها عشرة أبناء دون حاجة إلى رجل ، أصبحت اليوم لا تقوى على الوقوف وقد تمكن مها المرض حتى ألقاها على السرير الأبيض لا تقوى على حراك ولا تسمع لها ركزاً .
في طريقي إلى المدرسة بمفردي حيث أخذت مكاناً متنحياً في الطريق رغم جموع الطلاب المتوجهين للمدرسة زرافات ووحداناً ولكن ضيق الصدر لا يؤهل لحديث باكر أو حتى عابر مع أحد .
مرّت عليّ الدقائق داخل الفصل كأثقل ما تكون ، النظر شاخص إلى السماء والذهن شارد لا يكاد يقف على صورة أو حال ، والصدر بالكاد يتنفس ويرسل شهيقه وزفيره بصعوبة .
ذلك كان حالي أنا ، فكيف هو الحال بتلك المسكينة التي تكاد المرض ، لا شك أنه ينهش جسمها المكدود بدون رحمة ويشمت بذلك الوجه القمحي الذي يحمل كل تعابير الألم والمشقة وتسكن في تعاطيف قسماته المترهلة كل الرهق والقتر الذي نالها من طول طريق التربية والرعاية لأبنائها بمفردها .
ليت ذلك أصابني واختارني دونها وحل بي لا بها .
أستاذي الذي بدأ يتمتم بكلمات لا تسترعي اهتمامي دعاني إلى مزيد من التركيز والانتباه وقد لاحظ الشرود والتشتت عليّ بادياً .
لم يطل بي المقام كثيراً على هذه الحال حتى استدعاني الأستاذ / حسن صالح الخالدي إلى حيث سبقني أخي أحمد ، ولم يطل بي التفكير إلى أبعد مما ينتظرني فدعوة أحد المدرسين أمر اعتيادي روتيني .
هناك بدأ أبو صالح يمهد للموضوع بحديث الصبر والتحمل وبدأ يذكرنا أننا رجال لا تنحني هاماتها ولا ينثني صبرها أمام المصائب .
كنت أظن أن الأمر مجرد تطبيب للنفس وسلوة للخاطر لقاء ما تعانيه أمي المسكينة ، لم يدر في خاطري ذلك الخبر الصاعق الذي لجم بياني وأمسك لساني عن أن يفتق بكلمة واحدة .
( في الخارج أخوكم ينتظركم !! ) هكذا قالها الأستاذ ونحن نخرج من الغرفة وقد بدت أطرافنا تتراخى وأذهاننا تتشتت لهول الخبر والفاجعة .
هكذا بين ليلة وضحاها ، لم يعد لأمك وجود على وجه البسيطة !!
فور وصولنا للمنزل لم يزل الخبر قيد التأكيد والاحتياط فلا يمكن لعقل طالما تمنى أن ترافقه في كل تفاصيل حياته أن يفقدها بكل هذه السهولة .
المنزل مكتظ بالنساء اللاتي يبكون ويعوّلون لا أعرف إن كانت تلك الدموع صادقة ومحترقة كما هو الحال لدموعي ، أو حال أخي الذي سقط مصدوماً بين يدي امرأة غريبة لأول مرة ألتقيها .
لم يكن في المنزل حينها أي رجل غيري وأخي أحمد ، وبيننا نحن في إحدى غرف المنزل وإذ بوفود النساء تقبل علينا وتحتضننا وترتب على أكتافنا وتواسينا ، هكذا اللحظات المؤلمة التي تتملكك فيها الصدمة يختلط المحظور وغير المعهود بكل شيء .
وحتى عمتي المسكينة ( مريم ) ربما هدّأت من وطأة الخبر علينا ثم شاركتنا البكاء فتثير في شجوني نقع الألم وتستدعيني للبكاء .
ما ألظى فقد الأم وما أمرّ فراقها ، وصور الذكريات تنداح في مخيلتي كل حين ومع كل دمعة تتدحرج على خدي تنثال معها همسات أمي ويدها الدافئة التي طالما هدأت روعي ورافقتني في فرحتي وشقوتي .

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...

ماذا يخطر في بالك ( 5 ) ؟

هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) . راجياً لكم النفع والفائدة  . ضعف التقدير يقود إلى سوء التقرير . .................. كلما كان واقعك ثرياً وغنياً ، بارت بضاعة خيالك الواهم . …………… إذا أحببت شيئاً ثم التقيت به بعد غياب فكأن الروح ردت إليك بعد غيبة الموت ، أو العقل عاد بعد جنون ، أو الذاكرة استفاقت بعد غيبة . كل الأشياء الرمادية تسترجع ألوانها الزاهية ، والروائح الزاكية تستجرّ عنفوانها ، والمشاعر اللذيذة تستعيد عافيتها . ما يفعله الشوق بك من ذهاب العقل وغيبة الذاكرة وموات الروح ، يفعل بك الوصل أضعافه من الفرح والطرب والنشوة . لقد جُبل هذا القلب على الإلف بما يحبه والتعلق به حتى يكون بمثابة الطاقة الموصولة بألياف الكهرباء ، أو الزيت الذي يقدح النور ، والجمر الذي يستفز أعواد البخور . وإذا غاب المحبوب واستبد بك الشوق انطفأ نور الوجه وضاقت النفس وذهب الفرح حتى يعرف ذلك في حدة طبعك وانغلاق عقلك وعبوس وجهك ، فإذا التقى المحبوبان والتأم القلب عادت المياه لمجاريها وشعشع الوجه واتسع الثغر وانفرجت الأسارير . سبحان من خلق . ……………… إذا كنت...