شاب قادم من المجهول يبدو في مظهر جميل ويكتسي حلة أنيقة فاخرة ، النظارة والبشاشة تنطلق من وجهه المشرق بالحياة والوضاءة مسكوبة في ملامحه الدقيقة يمشي في طريق محفوف ببساط أخضر مد البصر تتخلله زهراوات مائسات وأسراب النحل تداعب أوراقها الملونة ، الشمس على الجانب الشرقي تتواطئ مع وقع قدمي هذا الشاب الذي يمشي في تبختر وجموح ويمضي في عنفوان وانطلاقة والصحة تظهر في متانة منكبية وضخامة جسمه .
وشيئاً فشيئاً ..! حتى يبدو له أحدهم قادم يغطي جسمه برداء متسخ مهترأ والطريق تضيق والبساط الأخضر يتبدل إلى صحراء مقفرة والأزهار إلى أشواك كادات وغصون يابسات وأسراب النحل المختالة إلى لفحات رياح ملتهبة .
ذلك القادم يقترب ..! إذ به شيخ وقور ملئ الشيب وجهه وانحنى ظهره من طول العمر والأوهان تكبل أطرافه وتثقل حركته وتبدو خلفه منازل مهدمة ومبانٍ خربة والدخان يملئ السماء والدماء تعصف بالمكان والجثث ملقاة في كل مكان ، يستوقفه الشاب والغرابة تعتريه :
- ما بالك يا شيخ ؟
- هيه .. لا تسألني يا فتى عندما كنت في مبتدأ العمر وعلى هذه الطريق مرّ بي هذا الموقف كأنني به اللحظة ، واليوم كما تراني انتهت مهمتي وحان أجلي وآن لي أن أصفد بكفن النهاية وأبقى حبيس الذكريات .
- وما هذا الدم الذي ينزف من كتفك الأيمن ؟
- إنه جرح غائر في جسد الأمة يربو عمره على الخمسين عاماً وأكثر ولم يندمل بعد !! لقد عاث العدو في أرضها فساداً وأنزل بأهلها نكالاً ولم تتحرك اليد اليسرى لتجفف الدماء وتوقف النزيف وتطبب الجرح .
- وما خبر تيك الديار التي تبدو خلفك ؟
إنها بغداد خبرها مثير وفزعها كبير ، ألم تسمع ببغداد منذ قبل ؟ إنها حاضرة الرشيد وحاضنة التاريخ وأرض الخلافات وموطن الحضارات بلد عتيق وإرث تاريخي عظيم لم يبق منه شيء ، تعاقب على حكمها الجبابرة والطغاة فجاءهم من أطغى منهم وأكبر من جبروتهم فحولها إلى بئر فساد وبرك دماء وهي تنتظر فرج الجبار العظيم .
انزعج الشيخ من الشاب فأعرض عنه وهمّ بمواصلة طريقه وهو يمشي على ثقل وقدميه لا تكاد تقوى على حمل ذلك الجسد المجهد ، بينما الشاب يقلب ناظريه في تقاسيم وجه الشيخ وهو يتمتم بكلمات غير مفهومة ليستوقفه الشاب لحظة ليسأله بماذا يتمتم :
- إني أقول يا هذا : إلا رسول الله !!
- وماذا تعني بهذا ؟
إنه محمد – صلى الله عليه وسلم – رسول الله الكريم أخطأ في حقه الكفار ونال من عرضه الفجّار واكتفى العرب بالمقاطعة رداً للثأر ، وما لبثت أن هدأت تلك الغضبة وسكنت تلك الحركة وكأن شيئاً لم يكن .
- أيها الشيخ المسكين أعرني هذا الرداء لعله يكون لي كساءً عندما أغدو بمثل سنك هذا .
- تعال يا فتى ، انزعه من على جسدي .
يأخذ الشاب الرداء ويضعه على كتفه وتحجب عنه سحب الدخان السوداء بينما الشيخ يواصل طريقه ليقف لحظة فيمسح دموعه ولحظة يمضي إلى ...... المجهول .
عمر علي البدوي
4 / 1 / 1428 هـ
تعليقات
إرسال تعليق