انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة

استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان .

إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح .

كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة .

وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وسيدفع ثمن هذا التفكير السطحي والتصرف الساذج .

كانت الجزيرة العربية تتمتع بتنوع فقهي ثريّ تبعاً لطبيعة التدين السني الذي استقر في الأشهر على أربعة مذاهب .

وتأتي ” الخارطة الدينية /المذهبية في المملكة متوائمة مع الخارطة السياسية المناطقية ، وبهذا الاعتبار يمكن النظر إلي مجتمع المملكة كـ”مجتمع أقليات” لا يحوز أي منها ما نسبته ثلث عدد السكان. فالمملكة تتشكل من أربع مناطق رئيسية:

المنطقة الوسطى (نجد) حيث يغلب عليها المذهب الحنبلي بقراءته السلفية الوهابية. وعلماء المذهب هنا هم عماد المؤسسة الدينية الرسمية وهم من يسيطر على كل الحقول الدينية والقضائية والتعليم والتوجيه الديني والمساجد والأوقاف وغيرها. المنطقة الغربية (الحجاز) ويغلب عليها المذهب المالكي والشافعي إضافة إلى وجود مجموعات دينية أخرى صغيرة من المذاهب الإسلامية الأخرى، بما فيها الزيدية والشيعة الجعفرية في المدينة المنورة، والشيعة الكيسانية في ينبع والفرق الصوفية. والحجازيون لهم مرجعية دينية خاصة بهم، ورموزاً دينية مثل السيد محمد علوي المالكي، ويميلون إلى المدرسة الدينية الأزهرية في مصر، ولهم تواصل مع شخصيات دينية عديدة في الخليج (الإمارات) وسوريا وغيرهما.

المنطقة الجنوبية (عسير وجيزان ونجران) وهي منطقة فسيفسائية من حيث النسيج القبلي والمذهبي. فكل المذاهب الإسلامية توجد في تلك المنطقة بما فيها المذهب الرسمي الذي حقق بعض الانتشار هناك نتيجة خلوّ المنطقة من المدارس الفكرية الفاعلة. ويوجد في المنطقة الجنوبية المذهب الشافعي والمالكي إضافة إلى الزيدي، وتقطن نجران أغلبية ساحقة تنتمي إلى المذهب الإسماعيلي وله مرجعيته المحلية الخاصة به (المكارمة).

المنطقة الشرقية (القطيف والأحساء) حيث تقطنها أكثرية شيعية، ولكن هذه المنطقة التي تبلغ مساحتها 31.28% من مساحة المملكة ويبلغ تعداد سكانها حسب الإحصاء الرسمي ما نسبته 14.67% من مجموع السكان، هذه المنطقة حوت منذ قرون بعيدة مدارس دينية عديدة كانت قويّة وحاضرة حتى منتصف القرن الماضي كالمالكية والشافعية والأحناف والحنابلة الذين تعرضوا للإضعاف ” ( 1 ) .

وكانت القنفذة وضواحيها تنتمي في غالبها إلى المذهب الشافعي المنتشر على امتداد الجنوب وأجزاء من المذهب المالكي الذي ينطلق من الحجاز المجاور .

ويمكن أن تلمس تجذر المذهب الشافعي في أراضي القنفذة بالقراءة في تاريخ واحد من الرموز الدينية التاريخية التي عاشت في المنطقة وهو” أبو الحسن علي بن عبدالله الطواشي حجة عصره واحد ائمة الشافعية عاش في الفترة الزمنية الواقعة بين عامي675 و748هـ في مدينة حلي بن يعقوب كان اماما عالما زاهدا تقيا ورعا عارف بالفقه واصوله وبعلوم الطب والادب والتربية وكثير من المعارف والعلوم المادية وفي شهد عصره نهضة في العلوم المختلفة في سائر بقاع العالم الاسلامي حيث ظهر العديد من رجال العلم والفكر والدين حيث كان لهؤلا العلماء الاثر البالغ في شتى بقاع العالم الاسلامي.

كان للتنوع السكاني والموقع الجغرافي المميز في حلي والاستقرار بسبب وجود أهم المصادر للبقاء البشري وهما الماء والزراعة وكذلك الموقع المميز على طريق الحجيج الاثر الكبير في تنوع المذاهب الدينية في حلي فكما كان المذهب الشافعي هو السائد إلا ان للتصوف الاصيل كانت مكانة لا يستهان بها وللزيدية ايضا أتباع في تلك الفترة كما ان هناك من هم على المذهب المالكي ” ( 2 ) .

يتمتع المذهب الشافعي بتسامح أكبر وتقدير أوسع للظروف البيئية وشروط الواقع وهذا انعكس على التسامح الذي كان في ماضي الجنوب إذ جعل منه مجتمعاً منفتحاً ومنتجاً وعلى قدر كبير من التسامح الإجتماعي والديني الذي تمتع به مجتمع أسلافنا فأصبح مجتمعاً أكثر رقياً واستقراراً وانسجاماً مما نحن عليه اليوم .

وهذا الانسجام الذي ينعكس على طبيعة المجتمع وإنتاجيته وفاعليته الثقافية تنتجه ظروف وعوامل متشابكة ، وتأتي الاستجابة الدينية في صورتها المذهبية واحدة من الأسباب الرئيسة في خلق الانسجام الاجتماعي .

ولكن حصل تبدل في التركيبة الدينية للمجتمع السعودي ككل ، ومن بينها مناطق الجنوب ، وخضعت للدعوة الوهابية ذات الجذور السلفية الحنبلية مع تأجيل حضور بقية المذاهب ، ورغم أن بعض المناطق حافظت على طبيعتها الدينية الأصيلة وتمسكت ببقايا ما زالت حية من مذاهبها القديمة ولكنها لا تذكر في مقابل المذهب الحنبلي الأطغى حضوراً مع تهميش الإلحاح الجغرافي والطبائع الاجتماعية المتنوعة .

وحسب التاريخ فقد تم ” الانضواء السياسي النهائي لسراة عسير تحت راية الدولة السعودية الأولى، في الفترة من 1213هـ إلى 1215هـ ، بعد أن تأثر إقليم عسير بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية التي مهدت الطريق لدخول هذا الإقليم تحت راية الدولة السعودية الأولى .

عرفت قبائل إقليم عسير بأمر الدعوة الإصلاحية تباعاً. فظهرت الدعوة في قبائل خثعم وبني تغلب في عام 1196هـ/ 1781م. وعرف بعض آل الحفظي في رجال ألمع خبر هذه الدعوة في عام 1205هـ. وغزا أمراء الدعوة قبائل بيشة في عام 1209هـ/1794م، وقبائل قحطان في عام 1210هـ/1795م، وقبائل شهران في عام 1211هـ/1797م. وقبلت قبيلة وادعة الدعوة في عام 1212هـ/1797م. كما عرفت قبائل غامد أمر الدعوة في عام 1212هـ /1797م. وعرفت قبائل بارق والريش وحلي بتهامة عسير أمر الدعوة في عام 1214هـ/1799م أو عام 1215هـ/1800م. وظهرت الدعوة السلفية في بني شهر عام 1215هـ. ودخلت قبائل العجمان وآل مرة في الدعوة في عام 1215هـ. وظهرت الدعوة في مدن المخلاف السليماني في عام 1215هـ ” ( 3 ) .

يبدو أن الأجيال المتأخرة من أبناء المناطق الجنوبية للمملكة السعودية لم يبلغ أسماعهم سوى المذهب الأوحد برموزه واختياراته الفقهية ومساراته العقدية التي طبعت كهوية وطنية موحدة لأغراض سياسية ترسخت في الأيام الأولى من قيام هذا الكيان الموحد وهذا المشروع التأليفي .

ولكن هذا الهوية استنفذت أغراضها وبدأت الهويات الضمنية تطفو على السطح وبدأت تعبر عن حاجاتها العميقة وطبيعتها الدفينة .

القنفذة مثل بقية مناطق الجنوب السعودي تتمتع بطبيعة اجتماعية انبساطية ومرحة ولها ظروفها التاريخية والبيئية التي أسهمت في التكوين الثقافي والذهني ولذا جاء المذهب الديني تعبيراً عن الانسجام وبعيداً عن الصدام ، واستطاع المذهب استيعاب الحاجات الملحّة التي فرضتها طبيعة التكوين النفسي والبيئي لأهل المنطقة .

ولمن لا يلمس الأثر الذي تعكسه قيمة المذهب في الترتيب الهادئ مع الواقع ، يجد ذلك بوضوح صارخ في مرحلة الصحوة الدينية خلال السبعينات والثمانينات التي استمدت قواعدها الأصلية من المذهب الحنبلي بحرفيته الشديدة وتأثير ذلك في طبيعة المجتمع وتوتير علاقته مع الدين وفرض نمط اجتماعي لا يوافق الفطرة الذهنية ولا يوائم التوزيع البشري المتنوع في السعودية .

الصحوة باعتبارها التطبيق الاجتماعي للتعاليم الدينية ، كانت قاسية في تعاملها مع الطبيعة الاجتماعية للتنوعات الثقافية في السعودية .

بإمكانك أن ترى أثر المذهب في صياغة الخطاب الوسيط وهو خطاب الدعوة الجماهيري ، ودرجة حدته ومستوى لغته وفي اختياراته الفقهية وفي تطبيقه العملي ، بإمكانك رؤية الأثر في إنتاج المحتسبين ورجال التوجيه الديني في المدارس والأسواق والمناسبات ، بإمكانك أن تلمس عمق المذهب في صياغة التطبيقات وخلق المقاربات وإنتاج الحلول ومعالجة المستجدات التي تختلف طبيعتها بين مجتمع وآخر طبقاً لتراثه وثقافته وتكوينه .

وهذا يتضح في الواقع الحجازي الذي حافظ على جزء من هويته الدينية المتمايزة رغم عوامل الزمان ولذا انسجم في صيرورة منفتحة وكيان متسامح ، وبعض من أطراف الجنوب التي تمسكت بتقليدها الديني والاجتماعي التاريخي وحافظت على أصالتها وطبيعتها الأريحية والمنسجمة .

وحسب التاريخ الديني للقنفذة وضواحيها فإن تجفيف المذاهب التقليدية التي كانت منتشرة ومتجذرة ربما ترك أثراً في فعالية انتشار الدين ودرجة التمسك به ، فإن التصوف على الطريقة السنية كان له وجود ، والتصوف يعود له بعض الفضل في رفع قيمة التدين الشخصي والالتجاء إلى الله في الملمات والمدلهمات وهذا ينسجم مع التكوين النفسي الفرائحي الذي يتسم به أهالي الجنوب .

كما أن الرخص الدينية التي توفرها المذاهب الأخرى بخلاف الحنابلة تعطي الدين وجاهة وقوة في امتصاص الواقع وتجذيراً لحضوره النفساني والبيئي وعقلنة في تشريعاته وتوسيعاً لقاعدته بالنظر إلى ثراءه ومرونته وسعته التي ضمنت البدائل الشرعية المتوافرة .

المذهب هو العمق الاستراتيجي الديني لإمداد رجاله ودعاته والقائمين عليه ، هو الإطار الذي تنظم داخله شؤون الدين والدنيا ، هو العقلية الدينية بانعطافاتها وما طبعت فيه الجغرافيا والبيئة والتاريخ من أثر ، وكلما كان المذهب أقرب إلى اختيار الناس كان ألطف بهم ، وكلما كان وافداً من خارج جغرافيتهم وإطارهم الثقافي أوقعهم في العنت والحرج وكلفهم فوق ما يطيقون .

اليوم بدأت بوادر إيجابية لاستجابة رسمية للهويات الاجتماعية المتنوعة في السعودية إذ ” جاء قرار خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بإعادة تشكيل هيئة كبار العلماء ليضخ دماء جديدة من أهل المذاهب الأربعة السنية الشهيرة وهي المذهب الحنفي، المذهب الشافعي، المذهب المالكي والمذهب الحنبلي ” ( 4 ) .

كما أنها دعوة مباشرة وصريحة لبعض المهتمين بالعلم الشرعي في محافظة القنفذة وسواها من الجوار الجنوبي أن يصرف بعض جهده واهتمامه في دراسة المذاهب الأخرى سيما ومن كان لها جذور تاريخية في المنطقة ، لأن الجغرافيا التي تشربت الإنسان القديم فيها من الوفاء ما يكفي لاستنباته من جديد واستفزاز حاجاته وظروفه التقليدية ، كما أن الطبيعة قوية وخالدة ومتجذرة مما يستلزم أن نستجيب لها ونتفاوض مع قواها الزمانية والمكانية الخارقة في دورة من الاتصال الكوني الذي يلعب فيه الإنسان دور الفاعل والمفعول بنفس الدرجة من الأهمية والتأثير .

كما أن ضعف الاستجابة من إنسان هذا المكان والزمان هو تعبير صريح عن ضعفه وقلة حيلته واستسلامه عن القيام بدوره الاستخلافي الدفين في أصل تكوينه وخلقته .

كما أن احترام هذا التنوع الاجتماعي والثقافي حماية لهذا الكيان السياسي وفعالية مجدية للإنسان وصيانة لراية الدين وحياض العقيدة وهو من التقلب في نعم الله الكريم الذي أسكن في الأرض ناموس التنوع والثراء وأودع في الدين قوة الأصل وثبات الحق ومرونة التشريع ورحمة الاختلاف .

الرابط :

http://www.albndar.com/6415