التخطي إلى المحتوى الرئيسي

موهبة مقبورة

إبراهيم صاحب موهبة كتابية واعدة وقلم يمطر بقدرة تعبيرية فائقة وملامح مستقبله المشرق تبدو أكثر وضوحاً من أي ملمح آخر .
في كل مرة يستمتع في معانقة أوراقه البيضاء بقلمه الغضّ ليحولها إلى قطع أدبية سبقت سنه واشرأبت إلى مشروع أديب بارع في المستقبل .
توجه إلى والديه ليعرض بعضاً من نثار موهبته لعله يلقى شيئاً من كلمات التشجيع التي تبني الثقة في نفسه وتؤكد له جدارته بمستقبل مميز .
لكن يبدو أن والدته منهمكة في العناية بعلاقاتها الواسعة وآخذة في رعاية صديقاتها اللاتي يأخذن جلّ وقتها ، كيف لا وهي تستغرق في مهاتفاتها كل الوقت وتلتهم معها أبسط حقوق أبنائها .
أما والده الغارق في تسمين جيبه والاهتمام بمظهره أمام أصدقائه الذين يجتمعون حوله في قهوة القرية ويستمعون إلى مغامراته الشقية وانتصاراته العاطفية فلا وقت لديه ليسمع ولو كلمة واحدة من عبث ابنه الأديب .
لم يعد أمامه إلا أستاذ اللغة العربية في مدرسته ، ليسابق جرس الطابور ويستقبله في رواق مكتب المعلمين ويفرش أمامه ورقته البيضاء وقد ارتصفت فيها كلماته الأولى التي تنذر بمستقبله القادم .
معلم المادة يعبث بجواله الـببي ويراعي ( كشخته ) حتى لا تفسد بينما إبراهيم يتلو عليه ما أورده في الورقة في نشوة عجيبة لأنه سيسمع كلمات التشجيع من معلمه بعدها مباشرة .
ولكن يبدو أن الخيبة لحقت بظن إبراهيم عندما انصرف المعلم بمجرد مناداة زميله محضر المختبر له ولم يطرق في أذن الموهوب سوى كلمات " خليها بعدين يا ابراهيم ، أنا مشغول شوي !! " .
لقد وجدها إبراهيم هذه المرة ، إنهم جلساؤه وزملاء فصله سوف يقف أمامهم ويلقي كلماته التي انتظمت في مقالة واحدة وبالتأكيد سيرتفع صوت التصفيق الحار بمجرد انتهائه من قراءتها .
ولكن يبدو أن أصوات التهكم كانت أعلى هذه المرة عندما بدأ زملاؤه يسخرون منه ومما يقول سيما وهم لم يفهموا كلمة واحدة ليس لأن إبراهيم لم يوفق في اختيار الكلمات ولكن الطلاب لا يعرفون أكثر من ثقافة الملاعب وأسماء نجومها والعبارات التي يستخدمونها في شجاراتهم التي لا تهدأ .
كيف انتهى الحال بإبراهيم ؟ وإلي أين اتجه بورقته ؟
بينما هو في طريق العودة إلى بيته رمق بعينيه المحملتين بدموع اليأس حظيرة أغنام جارهم نافع ، تسلق إبراهيم الحائط وتوسط الأغنام وبدأ يرفع صوته بالقراءة وبينما هو في منتصف الورقة وإذ بألم قوي في بطنه ولم يشعر إلا وهو ملقى على الأرض .
لقد نطحه واحد من تيوس نافع !

11 / 7 / 1432هـ

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...