التخطي إلى المحتوى الرئيسي

مبادرات حكومية وأهلية لإحياء «القرى التراثية» السعودية



آخر تحديث: الخميس، ١٢ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش)جدة - عمر البدوي 


في ظل التمدد العمراني الكبير للمدن السعودية، حيث تستحوذ المدينة تبعاً لذلك على فرص الحياة والمعيشة السهلة والسريعة كلها، يضطر سكان القرى والأرياف لمواصلة الهجرة والزحف في اتجاه المدن ما يجعلها عرضة للزيادة السكانية غير المحسوبة ونمو التضخم، في مقابل إفراغ القرى الأرياف وهجرها، التي تخسر حتى تقاليدها وأعرافها لمصلحة تقنيات العيش المدني وطبائعه المختلفة تماماً.
وتعددت الهجرات من القرى والأرياف وفق الزمان والمكان، وتكرر الرحيل عنها مرات عدة، إذ كلما زاد تمدّن المجتمع تضاعفت الهجرات، وزاد البعد بين قيم المدينة وتقاليد القرية ما قد يتسبّب في خلق فجوة وربما يترك أثراً في تماسك الهوية وانضباط الخلفية الاجتماعية والثقافية للبلاد.
يحاول بعضهم أن يحافظ على خط وصل ثقافي بين القرية والمدينة، سواء عبر ترميم تلك القرى بجهد شخصي أو عبر برنامج حكومي يهدف إلى حمايتها ليجعل منها مصدراً تاريخياً ومرجعية ثقافية تؤول إليها المجتمعات المتحضرة وتتصل بماضيها.
وكان مجلس الوزراء السعودي دعا إلى الحفاظ على التراث العمراني، وتمويل مشاريع القرى التراثية، بما يعزز المردود الاقتصادي لصناعة السياحة في المملكة. وهذا القرار الذي يُجرى تطبيقه بواسطة البنك السعودي للتسليف والإدخار، بإشراف الهيئة العامة للسياحة والآثار ومتابعتها في جانب تمويل القرى والبلدات التراثية، أطلق خطاً تمويلياً لدعم القرى والبلدات التراثية، إذ وقّع اتفاقَي تمويل لقريتي الغاط في منطقة الرياض ورجال ألمع في عسير بمبلغ 7 ملايين ريال لكل قرية، وأسهم ذلك في شكل رئيس في ضخ مزيد من الفرص الوظيفية للمجتمعات المحلية، وفي جذب مزيد من السياح وتنمية سياحة أفضل.
الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني المسؤولة عن تطوير هذه القرى والعناية بها تعتبر التراث العمراني أحد الرموز الأساسية لتطور الإنسان عبر التاريخ، وتعبيراً عن القدرات التي وصل إليها في التغلّب على بيئته المحيطة. ويعني التراث بالنسبة لها توريث حضارات السلف إلى الخلف وألا يقتصر ذلك على اللغة أو الأدب والفكر، بل يعم العناصر المادية والوجدانية للمجتمع من فكر وفلسفة ودين وعلم وفن وعمران.
وتعتبر الهيئة العمران أحد أهم العناصر الأساسية للتراث، إذ يتميز بوجوده المادي مجدداً بذلك وجود حضارات الأجيال السابقة في صورة مباشرة لا تقبل الشك أو الجدل. كما يبرز تتابع لتجارب حضارية واجتماعية ودينية وقيمها بين الأجيال.
وتبنّت الهيئة العامة للسياحة والآثار أربعة برامج، الأول لتنمية القرى التراثية وترميمها على مستوى المملكة، حيث أخذت سبع قرى من منطقة عسير وتحديداً قرية رجال ألمع وقرية في الباحة، والخبراء من القصيم وجبة من حائل والعلا في المدينة المنورة، وحي الدرع في منطقة الجوف والغاط واشيقر في الرياض، والثاني برنامج المدن بدءاً من جدة التي قدّم ملفها لمنظمة «يونيسكو»، والثالث برنامج في الدرعية، والرابع برنامج تطوير الأسواق في محايل عسير والرياض والخوبة في جازان. وتسعى الهيئة بالتعاون مع القطاع الخاص إلى أن تكون هذه البرامج مكتملة وجاهزة.
واستحدثت جمعية للحفاظ على التراث تبنتها هيئة السياحة بعد الموافقة الرسمية عليها من وزارة الشؤون الاجتماعية، وستدعم المبادرات الأهلية، وستؤسس شراكة مع المجتمع، لتسهم في تنمية التراث العمراني، عبر دور أكبر للقطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني لما تتمتع به من الرغبة والقدرة والمرونة في العمل والتفاعل مع المجتمع، وملامسة المستويات الشعبية المختلفة.
كما تسعى الهيئة من خلال تنمية القرى التراثية إلى ضمان توافر الخدمات الأساسية اللازمة فيها، مثل الطرق ومركز الزوار، وتهيئة ممرات لحركة السياح، وأماكن للجلوس، ومطاعم ومقاهٍ وتموينات، ودورات مياه، ومحال بيع المنتجات المحلية، إضافة إلى الإنارة الخارجية للمباني التراثية، ما يشجع السياح على زيارتها، ويسهم في قضاء جزء من برنامجهم السياحي داخلها، ما يعود بالفائدة الكبرى على السكان المحليين، ويشجع الأسر على إنتاج ما يطلبه السائح من مأكولات ومشروبات محلية وبيع للمنتجات الزراعية والحيوانية، والمنتجات الموسمية، ويشجع الحرفيين على العودة إلى مزاولة أعمالهم الحرفية.
ويهدف البرنامج إلى زيادة تشغيل الخدمات المساندة، مثل الفنادق والشقق المفروشة والمطاعم والنقل، والمساهمة في الحدّ من هجرة السكان المحليين إلى المدن الرئيسة، وتحقيق التوازن التنموي، وإحياء الحرف والصناعات التقليدية والتراث غير المادي الذي كان سائداً في القرى، وكذلك إشراك الأهالي في إعادة تأهيل القرى وتنميتها بما يعود عليهم بالمنفعة، إلى التشجيع على الاستثمار في هذه القرى.
وأفلحت مبادرات شخصية ومجتمعية في الحفاظ على القرى بعد أن هجرها أصحابها وسكانها الأصليون وبقيت تئن من الغياب، قبل أن تلمع الفكرة والرغبة والإرادة في نفوس متقدين بالفاعلية، وجاء الدور الحكومي مكمّلاً لتلك الجهود.
وحققت مشاريع نجاحاً منقطع النظير، وأصبحت قرى مزاراً مهماً ومكتظة بالزوار والمتطلعين إلى التعرّف إلى حياة السلف، وعادت أخرى مزهوّة بالناس بعد أن اشتاقت جدرانها وحنّت أزقتها إلى قدم تدرج فيها ونفس يتردد بين جنباتها.
فضلاً عن دور مهم وأصيل لمثل هذه القرى في دعم الحاجات العلمية والدراسات الاجتماعية في علم الاجتماع والإنسان والمسائل الثقافية التي تشكّل محط اهتمام دور ومراكز ومعاهد كثيرة، إضافة إلى الدور السياحي والتعريفي بتعدد البلاد وتنوعها، والذي يتحقق بزيارات الوفود الأجنبية التي يلفت اهتمامها ونظرها مشاريع من هذا النوع.

واتضح من خلال الدراسات التي أجرتها الهيئة العامة للسياحة والآثار أن هذه النوعية من المشاريع مجدية اقتصادياً، وتتحمّل الأخطار التي قد تتعرّض لها أثناء التشغيل، وأن عائداتها عالية نسبياً، إذ من الممكن أن تنافس الفنادق ووحدات الإقامة التقليدية، وستكون جاذبة للسائح المحلي والمقيم، إضافة إلى دورها المهم في اقتصادات المناطق.



الرابط :


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

تمجيد صدام حسين المجيد

كان يمكن للقصة الشهيرة التي تداولها عامة العرب عن صورة الرئيس العراقي الراحل صدام حسين مطبوعة في كبد القمر أن تكون مجرد مزحة عابرة تذوب مثل قطعة ثلج أو تتبخر مثل بؤرة ماء، ولكن القصة المختلقة التي شاعت عشية تنفيذ حكم الإعدام في حقه من قبل الحكومة العراقية بعد إسقاط نظامه وتفكيك الدولة العراقية نتيجة حرب خاضها حلف دولي تقوده الولايات المتحدة، تمكنت في أذهان جيل بأكمله وتطورت إلى أشكال متجذرة لترميز الرئيس العراقي المخلوع. أصبح صدام ذا شعبية أكبر لدى قطاعات واسعة من الشباب العربي، فبإمكانك أن تلاحظ حجم الصور التي تنتشر له والأقوال المختلقة في محاولة لاستنطاقه بما يتمناه الشاب العربي من خطاب مشبع بالأنفة والاعتزاز ضد غطرسة الجانب الغربي من العالم أو الطائفة الشقيقة للغالبية السنية في الشرق الأوسط. لا تبدو سيرة صدام حسين مثيرة للإعجاب في التاريخ، فهو مجرد حاكم عربي عسكري يشبه أترابه ممن يقبض على سدة حكم الجمهوريات العربية المرتبكة في تقديم هوية سياسية ونظام حكم متماسك، يضاف إليه بطش أهوج وديكتاتورية مطبوعة بنزقه الشخصي وجنون العظمة الذي أودى بمستقبل العراق وشعبه في جملة من المغا...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...