آخر تحديث: الثلاثاء، ١٧ يناير/ كانون الثاني ٢٠١٧ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش){ جدة - عمر البدوي
< بوفاة الأمير محمد بن فيصل بن عبدالعزيز السبت الماضي، تنطوي صفحة مهمة في تاريخ الصيرفة الإسلامية، التي شهدت ولا تزال تشهد تنامياً وتوسعاً كبيرين في العالم، بعد أن كسبت ثقة العملاء والمستثمرين. ففي الوقت الذي كانت فيه التجربة غير مشجعة، ومحفوفة بالمخاطر، لمح الفيصل الفرص الواسعة والواثقة من الخطو باتجاه التوسع في هذا المجال. و«بنك فيصل الإسلامي» الذي تنتشر فروعه في عدد كبير من العواصم العالمية تجسيد واضح لعقلية الفيصل، التي توسمت النجاح وكسبت الرهان في هذا المضمار.
بدأت الفكرة تتبلور منذ عام 1974، إذ ظهرت فكرة إنشاء مصرف يتوافق مع الشريعة الإسلامية، وقطع الأمير فيصل مسافات وهو يحمل حقيبة أفكاره وطموحاته لتأسيس كيان اقتصادي يعمل وفقاً لأحكام الشريعة الإسلامية، ويكون نموذجاً جديداً للصيرفة الإسلامية.
وبالفعل انطلق العمل ببنك فيصل الإسلامي المصري، الذي يُعد أول مصرف تجارى إسلامي مصري، وافتتح أبوابه للعمل رسمياً واستقبل عملاءه في الخامس من تموز (يوليو) 1979، وكان بذلك فاتحة للصيرفة الإسلامية في العالم أجمع.
كان المصرف، ومن ورائه الفيصل وبقية شركائه في المهمة، يبحث في ما هو أبعد من مجرد الربح، عن تنمية المجتمع، وعن رفع قدرته الاقتصادية بوصفها رافعة النهضة المتكاملة، عبر عدد من التقنيات المبتكرة والمطورة من عمق التقنين الاقتصادي الإسلامي، الذي يراعي الجماعة بما لا يهضم الفرد ولا يضيمه، وبذلك يكون المصرف مؤسسة اجتماعية وتنموية أكثر منه كياناً جشعاً يميل إلى مالكيه وكانزيه على حساب مجتمعهم.
وأقر المصرف منذ تأسيسه عدداً من الخدمات الاجتماعية التي طبعت طريقة عمله ومعمار كيانه، ومنها «صندوق الزكاة» الذي يعتبر أحد الأجهزة الرئيسة ببنك فيصل الإسلامي المصري وأحد سماته الحضارية، ومنها أداء الزكاة الواجبة شرعاً على أموال المصرف (المساهمين).
وفى جانب المصارف، وكما يبذل القائمون على الصندوق الجهود لتنمية موارده عاماً بعد عام، فإن جهودهم في توجيه هذه الموارد تفوق بكثير الاهتمام بتنمية الموارد، بهدف وصول أموال الزكاة إلى مستحقيها دون سواهم.
كما استحدث المصرف «نظام الحسابات الخيرية» ليكفل لجمهور المسلمين تحقق أمرين أساسيين؛ أولهما ضمان توافر دخل مستمر يوجه لأوجه البر والخير، وثانيهما إعمال أسلوب ميسر للصدقة الجارية.
ويمنح المصرف قروضاً حسنة لذوى الحاجة والذين يعانون من ظروف طارئة، وتُرد هذه القروض دون زيادة على قيمتها. ولا تقتصر أنشطة المصرف على المجالات المصرفية والمالية والجانب الاجتماعى فقط، بل تمتد تلك الأنشطة لتشمل مجالاً حيوياً آخر، ألا وهو الأنشطة الثقافية، والمصرف يعطى عناية فائقة لدعم وإثراء ونشر الفكر الاقتصادى الإسلامي بصفة عامة، والمصرفى بصفة خاصة.
وفى سبيل تحقيق هذا الهدف قام المصرف، من خلال مكتبته التي تحوي أهم الكتب والمراجع والدوريات العلمية الحديثة في مختلف فروع العلم، بنشر المعرفة بين العاملين به، فضلاً عن تقديم كل التسهيلات للباحثين والدارسين من معظم دول العالم ومن المعاهد العلمية المختلفة وذلك في مجالات الاقتصاد والمصارف الإسلامية. وتلك هي المسؤوليات الأخلاقية التي حركت في قلب الفيصل الأشواق للمضي في التأسيس لتجربة الصيرفة الإسلامية والانطلاق بها في حقل من المترددين، قبل أن تستوي على سوقها وتعجب الزراع ويتهافت الناس من بعده على تقفي أثره وتتبع السنّة التي فاز بالسبق إليها. وألهب النجاح حماسة الأمير الفيصل، وبعد أن شق الطريق الصعب في أوله بنجاح واقتدار، شرع في توسيع الفكرة ومد أثرها في كل مكان، وترجم ذلك عبر عدد من الشركات والتجارب الاقتصاديك العملاقة، وقد حملت جميعها طابعاً إسلامياً أصيلاً يشبه ذلك الإيمان الذي يغزو صدره ويستحوذ على تفكيره بنجاعة التجربة وأنها تستحق المغامرة. إذ أسس الأمير محمد الفيصل شركة دار المال الإسلامي، وهي الشركة الأم لنحو 55 مصرفاً وشركة استثمار في مختلف أنحاء العالم، ومصرف فيصل الإسلامي في البحرين، وبنك فيصل في السودان، وبنك فيصل المحدود في باكستان، والشركة الإسلامية للاستثمار الخليجي - الذراع الاستثمارية النشطة للمجموعة - وشركة سوليديرتي للتكافل بالبحرين، ولها فروع عدة في جميع أنحاء العالم.
لم يتوقف الدور الريادي للفيصل عند هذا الحد، فهو بالترامن مع نجاحاته الاقتصادية، قدم لبلده، الذي يعيش العطش مع الوقت ويهدده الجفاف، فكرته التي أصبحت تروي ظمأ البلاد وتبدد هجيرها، إذ اقترح بعد دراسته في الولايات المتحدة، إيجاد حل لمشكلة المياه المالحة في السعودية، حيث قام بزيارة بعض محطات تحلية المياه الخاصة، وعلى إثرها استورد الفكرة لينقلها إلى الداخل من خلال لجنة كونها والده الراحل الملك فيصل بن عبدالعزيز (رحمه الله) نتج منها إقرار مشروع تحلية مياه البحر.
وبالفعل تم إقرار المؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة ونصب الفيصل على رأسها وبدأت تمد المملكة بنمير الحياة، وأسهمت في توسع المدن السعودية واستيعاب حاجاتها وتنمية مواردها المائية. في حي الكنداسة بمدينة جدة - الذي نال اسمه بعد انتشال آلة تعمل بالفحم الحجري لتقطير بخار الماء من إحدى السفن المتحطمة ونصبت على شاطئ جدة وسميت «الكنداسة» اشتقاقاً من اسمها اللاتيني (condenser) وتعني المكثف.
كان يسكن الفيصل في بيت مستأجر مع والده، هناك شرب الماء أول مرة تتويجاً لفكرته وابتكاره الذي أصبح اليوم يمد المملكة يما يقارب 70 في المئة من حاجات المملكة من المياه، وتتصدّر السعودية دول العالم في موضوع تحلية المياه، إذ قامت بإنشاء 27 محطّة لتحلية المياه، وسعتها التخزينيّة وصلت الى 797 متر مكعب من الماء العذب. كما تولى الفيصل عدداً من المناصب الاستشارية والإدارية التي تصب في إطار اهتماماته واشتغالاته، ومنها رئيس الاتحاد العالمي للمدارس العربية الإسلامية الدولية، وهو منظمة عالمية تمثل المدارس التي تتولى نشر الثقافة العربية الإسلامية في داخل العالم الإسلامي وخارجه، والتي تنضم لهذا الاتحاد، لتنمية التعاون في ما بينها على أداء رسالتها السامية في نشر ثقافة الإسلام وعلومه، وتيسير أسباب تعلم اللغة العربية في جميع أنحاء العالم.
وقبل ذلك تولى عدداً من المناصب الحكومية، يعضده في ذلك تجربة عائلته التي تميز كل فرد منها في مجاله وأصبحت علامة ظاهرة في سمائه، كسعود الفيصل وزير الخارجية السعودي الأقدم، وقد رحل قبل شهور ونعاه محمد الفيصل بتفاني روحه في خدمة الوطن، وتركي الفيصل الذي عمل رئيساً للاستخبارات السعودية مدة طويلة، وإلى جانب عدد من الحقائب الدبلوماسية، وأصبح صوته الآن يشكل ثقلاً في الأوساط الغربية ومراكز الدراسات وصنع القرار العالمي، وخالد الفيصل، الذي يتولى إمارة العاصمة المقدسة وصاحب تجربة وطنية محلية مبرزة.
وللفيصل ثلاثة أبناء من زوجته ابنة عبدالرحمن عزام باشا أول أمين عام لجامعة الدول العربية، وله سجل حافل من الإنجازات الاجتماعية والمبادرات الوطنية، التي شكلت علامة فارقة في تاريخ التنمية الاجتماعية والنهضة الثقافية للبلاد ومواطنيها، إذ أنشأ الأمير «جائزة محمد الفيصل لدراسات الاقتصاد الإسلامي» برئاسة ابنه الأمير عمرو، في كلية الأمير سلطان للإدارة، التابعة لجامعة الفيصل، وخصصت الجائزة للطلاب في مراحل ما قبل الدكتوراه، كما رعى في نفس الكلية نادي الفيصل الثقافي.
مدارس تجمع بين التعليم والتربية
< أنشأ الأمير محمد الفيصل مدارس المنارات، التي تميزت بالجمع بين التعليم والتربية على أسس حديثة، مع المحافظة على الأصالة، وانتشرت المدارس في نسختيها العربية والأجنبية في مختلف أنحاء السعودية، حتى بلغ عدد طلابها 18 ألف طالب وطالبة.
وبعد وفاة والده الملك فيصل بن عبدالعزيز عام 1975، شارك الأمير محمد مع إخوانه في إقامة مؤسسة الملك فيصل الخيرية، التي يتبع لها مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية، وجامعة الفيصل، وجامعة عفت، وجائزة الملك فيصل.
وللمؤسسة التي وضع لها عند تأسيسها رأس مال يقدر ببليون ريال، عدد من المشاريع الخيرية والعلمية والتعليمية داخل وخارج البلاد.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق