جدة - عمر البدوي
كانت نعيمة المحيسن تغالب ألم الولادة ببشائر المولود الأول الذي ينزل إلى الدنيا من لحمها ودمها، في أحد مستشفيات مدينة بريدة بمنطقة القصيم السعودية (330 كيلو متراً عن الرياض).
وبينما كانت نعيمة تستشرف الفرحة وتمد من مساحات الحلم بالضيف الجديد الذي سيأخذ تاج عمرها تماماً كما أخذ بضعاً منها ليرى النور إنساناً مكتمل الأركان، إلا أن فرحتها جاءت منقوصة إلى حد ما على رغم أن الطبيب بشرها بتمام ولادتها بنجاح، إذ ولدت ابنتها الأولى هيلة بحال نادرة أثارت مخاوف العائلة واستغرابها، ولكن العجز وقلة الحيلة هي خاتمة القول في هذا الموقف بالنسبة لمن تحلق حولها من الأطباء ولوالدتها الرؤوم، التي بدأت تنظر إلى المستقبل كسيرة من الطموح المبالغ به.
ولدت هيلة من دون ذراعين، ولم تجد العائلة تفسيراً كافياً لحالتها، ولكن من المحتمل على أسرتها معايشة الوضع والاستمرار عليه، وكعادة الأمهات اختارت الوالدة خوض التحدي معتدة بالرضا ومتكئة على التفاني والإخلاص الذي يخلق خصيصاً لقلب الأمهات. أحاطت «نعيمة» ابنتها هيلة بالخوف والعناية، فهي ابنتها الأولى وفاتحة أفراحها في الدنيا، واستطاعت تجاوز صدمة الموقف الأول الذي جمعهما عند الولادة واكتشفت حجم الخطر الذي يحدق بفتاتها وقد فقدت صلتها بالأشياء.
تسمي نعيمة خوفها على ابنتها بالهستيري، وهو ليس أكثر من حرص الأم المعتاد من قلبها، وكانت تساورها المخاوف من موت ابنتها عطشاً، لأنها لا تملك أن تمد يديها إلى كوب ماء أو رشفة قارورة دانية، وهي في مهدها كانت الأم تحكم الوثاق وتشد جسد ابنتها في محلها الوثير حتى لا تفقد اتزانها، وسوى ذلك من الاحتياطات التي تحاول عبرها الأم معالجة قصور ابنتها الصاعق. لكن شيئاً ملفتاً ينمو مع الفتاة ويكاد يحلق بها، لاحظت الأم أن «نعيمة» بدأت تمسك برضاعتها بقدميها، وأخذت تلاعب والدتها كأي طفل في هذا الوجود، كانت تزحف وتجري وتلعب وتفعل ما يحلو لها، ثم بدأت بجمع الألعاب وترتيب سريرها كما لم تكن تتصور والدتها. اختارت الأم أن توسع دائرة ارتياحها تجاه مستقبل الفتاة، ولاحظت أنها كلما قلصت حدود مخاوفها اتسع العالم بعيني ابنتها هيلة كما تقول أمها: «لم تكن معاقة، بل أنا من أعاقها في البداية، أدركت أن الله سبحانه وتعالى ألطف بي على عباده، وأن ابنتي ليست إلا معجزتي الخاصة».
أمضت هيلة طفولتها كما يتفق مع براءتها، متجاهلة قصورها الخلقي الذي لم يكن عائقاً أمام استكمال أبعاد الطفولة الغارقة في العفوية والانبساط، ولكن وضعاً جديداً ينتظرها عندما تبلغ ويبدأ محك المقارنات والوعي في مواجهتها، فيما عصفت بهيلة فترات عصيبة في المرحلة المتوسطة، إذ عانت من فكرة تقبل شكلها وتضايقت كثيراً من نفسها ومن مواجهة الآخرين.
في لحظات الضيق الشديد كانت هيلة تنصرف إلى الرسم، وكان ذلك خياراً صعباً لمن هو في حالها، ولكن نداء في الداخل يدفعها إلى ذلك، وربما قضت الساعات الطوال منكبة عليه، قبل أن تكتشف بمعية والدتها أن موهبة خارقة تتبدى بمرور الوقت. ساعدتها معلمتها شعاع الدوسري التي كانت بمثابة والدتها الثانية في رعاية موهبتها والتلطف بتعليمها وتهذيب مهاراتها، وألقت في سمعها من النصائح والتوجيهات الدافئة ما أعانها على تطوير تلك الملكة القديرة في أطرافها السفلية.
أخضعت هيلة موهبتها إلى سلسلة من الدورات وجلسات التدريب المتخصصة حتى برعت في ذلك ولا تزال، في حين افتتحت حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي وتعرف الجمهور على موهبتها المميزة مجرداً من أية إشادة مشفوعة بالتعاطف والمجاملة، وزاد ذلك من انفتاحها على الآخرين وثقتها بنفسها وإصرارها على توسيع دائرة الموهبة من الهواية العابرة إلى العمل المحترف.
وذهبت هيلة بموهبتها لأبعد من ذلك عبر مشاركتها في المعارض المفتوحة ومناسبات الرسم المتاحة في البلاد، وقدمت موهبتها للجميع في أكثر من عشر معارض.
باعت هيلة هذا العام ثلاث لوحات تقريباً حتى الآن، واحدة من تلك كانت تجسد قلباً يغني بالفرح، وهو تقريباً يشير إلى تلك المضغة التي تخفق في صدرها وتهزم مشاعر اليأس والإحباط المحدقة بها، متعالية عن ظروفها القاصرة ومتطلعة إلى مستقبل خالٍ إلا من أمل. لم تبلغ هيلة حتى الآن الـ20 عاماً، وتتمنى لو استطاعت أن تمتلك مرسماً خاصاً لها تستقبل فيه الجميع لتبادل الخبرات والمعارف في الفنون المختلفة. وفي الوقت نفسه تطمع أن تكون فنانة على مستويات واسعة وتفتتح أكاديمية أو معهداً لتعليم الفنون.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق