< يرى الروائي حجي جابر أنه كان محظوظاً بدراسة المراحل الأساسية الثلاث في جدة، وتحديداً في جنوبها، هناك حيث يكون الناس حكايات تسير في الطرقات، ولكل منها عالم ينفرد بتفاصيل حكايته.
مثلهم تماماً، كان حجي حكاية تتجول في شوارع «النزلة اليمانية»، الحي الكبير الذي كان قادراً وحده على منح عشرات الجنسيات تعريفاً واحداً يكفي ويفيض، إنه من النزلة.
في «النزلة اليمانية» كان أترابه سبقوه إلى المدرسة، أو بالأحرى، تخلّف هو عن اللحاق بهم بسبب تأخر صدور أوراقه الثبوتية، وهو اللاجئ الهارب رفقة عائلته من جحيم الحرب في إريتريا على الضفة الأخرى من البحر الأحمر. لم يكن يعي بعد ما تعنيه المدرسة تحديداً، ومع هذا فكان مؤلماً ألا يكون رفيق أصحابه في مشوارهم اليومي كل صباح وظهيرة من ابتدائية سعيد بن جبير وإليها، فكان يرقبهم بحسرة من النافذة، وينتظر بنفاد صبر ذلك اليوم الذي يرافقهم فيه. تأخر ذلك اليوم، تأخر كثيراً فلم يكن من بدّ اللجوء إلى الحيلة.
أمي التي كانت رفيقة انتظاره، اشترت له ثوباً وحذاء أبيضين وحقيبة جلدية، وكان حريصاً أن تكون شبيهة بتلك التي يملكها صديقه الأقرب حينها، وملابس رياضية اشترط أن تكون خضراء، بهذه الأدوات أصبح جاهزاً للعب الدور الذي سيستمر معه بعد ذلك أربعة أعوام، قبيل الـ12 ظهراً بقليل يخرج من البيت سالكاً طريقاً جانبياً ينتهي بالبوابة الخلفية للمدرسة، ومن هناك يعود في اتجاه البيت وقد تحقق هدفه بالاختلاط بالجموع، كأي طالب غادر مدرسته للتوّ، فيقضي جانباً من الظهيرة مع الطلاب الآخرين، يضع حقيبته الفارغة جانباً ويشرع في لعب كرة القدم.
وفي الأثناء يجري نقاش حول يوميات المدرسة عن طابور الصباح والإذاعة وجدول الضرب والسبورة والاختبارات، وهنا تكبر ورطته، وهو الذي لا يملك أية فكرة عما تعنيه تلك الكلمات التي تستخدم خلف ذلك السور الكبير، فيلجأ مضطراً إلى الخيال، وهو هنا يعادل التعبير اللطيف لمفردة «كذب»، ولعلها بدايات اتجاهه للسرد، وكان يحبك الكذبة تلو الأخرى كي ينجو من انكشاف أمره.
يذكر تماماً كيف جاءت اللحظة المنتظرة، لحظة اجتيازه ذلك السور الكبير أخيراً، ووقوفه في طابور الصباح واستماعه إلى الإذاعة، ورأى جدول الضرب منقوشاً على السبورة وأجرى اختباراته، ولم يعد مضطراً إلى الكذب، فصار يخرج من بيته كل صباح يختلط بالجموع بحبور بالغ، وعند الظهيرة يعود منتشياً، يضع حقيبته جانباً، غير أنها هذه المرة تمتلئ بالكتب، ويلعب كرة القدم، ويثرثر بثقة حول يومه الدراسي.
أمه من جهتها وأمام الفراغ الذي تركه التحاقه بالمدرسة، التحقت ببرنامج محو الأمية، فأصبحا يقضيان الوقت معاً، يذاكران دروسهما ويجتازان الاختبار تلو الآخر، وحين أتم سنته السادسة، كانت أمه نالت شهادتها الابتدائية، ويذكر كيف قاما بتعليق شهادتيهما على الحائط في مواجهة الداخل إلى البيت تماماً.
من الذاكرة
> التحق بالمدرسة بعد أن أصبح عمره عشر سنوات بعد تعذر التحاقه عند السن النظامية نظراً لتعثر إتمام أوراقه النظامية والرسمية.
> قدم مع عائلته إلى السعودية نتيجة الحرب الأهلية في إريتريا، واستقر في مدينة جدة ودرس بها قبل أن ينتقل إلى دوحة قطر للعمل هناك.
> كان يمارس دور الطالب مع رفقاء الحي قبل أن يحصل على الفرصة الحقيقية لذلك بحمل حقيبة فارغة إلا من أحلامه المؤجلة.
> كان لعب كرة القدم طقساً يومياً لطلاب ذلك الجيل بعد الانتهاء من الدوام الرسمي في أزقتهم الضيقة وحاراتهم المتداخلة.
> كان مبهجاً لهما هو وأمه أن يعيدا على مسامع السائلين مرة تلو أخرى، قصة اجتيازهما الاختبار معاً!
الرابط:
تعليقات
إرسال تعليق