ما تشهده المملكة العربية السعودية من تغييرات جذرية في سلوكها المحلي والدولي يحظى باهتمام العالم أجمع تقريبا، وأغلب المناسبات الإعلامية والمنصات الحوارية وجلسات التداول والنقاش استدعت هذا الموضوع وقلّبت النظر في تفاصيله ومآلاته، إلى درجة يصح معها القول إن الموضوع أُشبعَ بحثا حتى استهلك.
لا يتوقف عراب المرحلة والمصلح السعودي الكبير ولي عهد المملكة الأمير محمد بن سلمان عن تغذية هذه النقاشات المستمرة بمواقف وتصريحات وقرارات جديدة، يصدرها سواء من مطبخ العمل السعودي في الديوان الملكي، أو عبر رحلاته المكوكية للعواصم العربية والأوروبية التي تحظى كل واحدة منها بسلة من الاتفاقيات الضخمة وعقود العمل والبناء للمستقبل.
يملك الأمير الشاب خطة عمل واضحة، تحركاته التي لا تهدأ زاخرة بالمواعيد والفرص، حيث يمكن ملاحظة حجم التغيير في الداخل السعودي بسهولة، فضلا عن تحول البلد إلى ورشة عمل مفتوحة من أجل المستقبل، والسعودية كلها مأخوذة إلى سقف الطموح الذي ارتفع كثيرا.
لا تكتسب التحولات في السعودية قيمتها من مجرد ما تزخر به من سعة الأفكار وحجم الطموح، ولا من التداول والتناول الإعلامي الكبير، ولكنْ ثمة أسباب تتصل بقيمة السعودية كدولة في محيطها، وجرأة التغييرات التي تلامس ما كان إلى وقت قريب من المحاذير شديدة الخطورة.
لا شيء في هذه المنطقة يدعو للتفاؤل والأمل، كمية الصراعات المشتعلة في بقع متعددة منها تتكاثر وتتناسل بشكل فظيع، وكأنها عدوى تستسلم لها أعضاء الجسد العربي بسهولة وبدون أقل دفاع. التحولات الضخمة في السعودية هي مثل ضوء يلمع في هذا الفضاء من الإحباط، تحويل السعودية إلى مصنع ضخم من أعمال البناء للمستقبل هو بمثابة جزيرة عائمة باستمرار في محيط الفوضى والاضطراب الذي يتأجج حولها بلا توقف.
لا شيء يدمر بلداً مثل الشعور بالإحباط والعجز وقلة الحيلة، ولا شيء في المقابل ينقذ بلداً ويحمي بيضته مثل الأمل والرغبة المستمرة في العمل للمستقبل
هذا المشهد بحد ذاته يجعل للتغيير في السعودية وقعا وجرسا يوقف الصخب الصادر عن تداعي المنطقة وعواصمها وحواضرها التي انسحبت من المشهد، فيما بقيت الرياض وحيدة عزلاء إلا من بعض جيرانها الخليجيين، وعدم استسلام الرياض لهذا الظلام الحالك مسؤولية وتحدّ كبير بحد ذاته.
كما أن وزن السعودية المعنوي والديني يجعل من كل تحول يلحق بها، مؤثراً في محيطها، يحدث الأمر في حالتيه الإيجابية والسلبية، وإذا قادت الرياض قاطرة التحولات فإن مدنا وعواصم وحواضر أخرى سينالها بعض هذا التأثير.
للسعودية قدرة إشعاعية في ظل موت العواصم العربية التقليدية التي كانت إما تحاذيها أو تنافسها، الآن انطفأت كل تلك المنارات العربية الموزعة في الشرق الأوسط، وبقيت الرياض نابضة بالرغبة والحاجة إلى التغيير ومواكبة التحديات قبل أن يضرب الطوفان أطرافها.
يتصل هذا بجانب أصيل من خارطة التحولات في السعودية، وهو ذلك المرتبط بالقيم الدينية الحاكمة فيها، والنمط الذي تختاره في نهجها بعيدا عن التشدد والانغلاق الذي وُصمت به لسنوات وأبطأ الكثير مما ينبغي أن ينجزه بلد مثل السعودية، لولا أنها استسلمت لرواية ونسخة من الإطار الديني خارج التاريخ.
سيصبح هذا جزءا من الماضي الآن، شدة العبارة التي اختارها ولي العهد السعودي لطيّ المرحلة التي انطلقت منذ العام 1979 إلى غير رجعة، تؤشر بما لا يدع مجالا للشك على أن السعودية ستنفض عنها غبار الأيام الخوالي، وتنبري لمستقبلها متخففة من أعباء التفسيرات المنغلقة والموتورة.
تحدث هذه التحولات على بعد سنوات قليلة من الانتفاضات الشعبية التي ألمّت ببعض الدول العربية، التي تمنعت عن الاستجابة والتعاطي مع حاجات شعبها وظروف المرحلة، تخشبت حتى انكسرت قوائم تلك المدن التي كانت تقف بضعف فيما تدّعي مناعتها وقوتها، حتى حلّت الكارثة.
كان التغيير مطلوبا وملحّا في تلك العواصم، لكن المكابرة والتعويل على برود نقمة الشعوب أوقعاها في شرّ حساباتها وظنونها الخائبة. لذلك فإن الاستجابة المبكرة والواعية لحاجات الشعوب واستيعاب ظروف كل مرحلة، حساسية قيادية مهمة لضمان سلامة السفينة من عواصف الزمان.
لا شيء يدمر بلداً مثل الشعور بالإحباط والعجز وقلة الحيلة، ولا شيء في المقابل ينقذ بلداً ويحمي بيضته مثل الأمل والرغبة المستمرة في العمل للمستقبل، بما يحفظ مكتسباته ويواكب تطلعات أجياله الناهضة ويستمر في مشوار التنمية وتلبية الحاجات المتجددة.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق