ذات يوم ، التقيت صديقاً وهاتفت آخر ولازمت أحد الزملاء
في مهمة عمل ، لا أعرف إذا كان لسوء الحظ أم اتفاق غير مقصود ، كان الجميع متضجراً
ذلك اليوم ، إما لظروف اقتصادية أو اجتماعية أو أخرى تافهة تماماً ، المهم أنني شعرت
في نهاية اليوم بمشاعر سلبية ضاغطة ، بالكاد استطعت جراءها التقاط أنفاسي وإعادة التوازن
إلى نفسي .
والواقع أنني لا أكترث كثيراً بحديث الآخرين عما
يزعجهم ويقلقهم ، لكن تلك الليلة كانت أشبه بلحظة القبض على قلبي ، وكأنهم تآمروا وهم
يتواطأون على بث الحزن والكآبة فيه .
حالة الانزعاج والضجر يبدو تضاعفت واتسعت الآن ،
بعض الأشخاص يستسلم لسائد حكاية الأشياء بطريقة سوداوية دون أن يكلف نفسه البحث داخلها
عن بصيص أمل ، يشعر وكأن الحديث بطريقة كئيبة يعطي قصته دراما وأهمية أكبر .
هذا يعود إلى ثقافة الحكي لدى أي مجتمع ، ثمّ مجتمعات
تستسهل الكلام بشكل سلبي ، تفضل الجمل والكلمات الانهزامية ، وهذا سلوك مدمر ، اللغة
هي التي تشكل أفكارنا ، وبالتالي سلوكنا ، طريقتنا في صوغ الكلمات واختيارها يؤثر بشكل
قوي في طبيعتنا ، نحن نكسو الحياة بكلماتنا وننفخ فيها من بعث أفكارنا ، فإما الحياة
أو الموت .
وربما يحدث هذا نتيجة المقارنة التي يتعاطاها المرء
مع بقية أقرانه ، ممن يعيش تحدياته وظروفه الخاصة التي لا تناسبه ولا تنطبق تماماً
عليه ، أو اتساع الفجوة التي يشعر بها الإنسان بين واقعه وما كان يتمنى ، وخلال هذه
المسافة الفاصلة من التوقعات ، إما يملأها بالرضى وعقد العزم على التغيير ومناولة الخطط
البديلة ، أو الاستسلام لسردية الانزعاج والتبرّم .
جانب آخر يذكي الشعور بالضيق والعنت ، وهو اختيار
أي التفاسير المتاحة ينسجم مع الوصف الدقيق للحالة التي يعيشها إنسان ما ، وهذا يعود
بطبيعة الحال إلى أنماط التفكير وطبيعة اللغة المتوخاة في التعبير .
على كل حال ، أنت مبتلى بالاحتكاك بالآخرين وهم محملون
بكل ورطاتهم النفسية والحياتية ، يسمونها ( الفضفصة ) والواقع أنهم يتخلصون من نفاياتهم
في وعائك ، ويلقون بشباك الإحباط لتلتقط فؤادك وتخيم سحابة سوداوية فوق محيطك الداخلي
.
السادة المنزعجون من كل شيء ، ومن لا شيء أحياناً
:
ربما لم تجرب شعور الحرمان من الأبناء ، الذي يقتلع
القلب من مكانه ، ولا شعور تلك الأم التي خسرت وحيدها شهيداً على الحد الجنوبي للسعودية
، ولا قائمة طويلة ممن اضطروا للإقامة في الحياة على مقاعد الانتظار في اتجاه الآخرة
، لأن حاجتهم إلى الدنيا انتهت تماماً ولا أمل فيها .
ولا شعور السوري الذي كان ممتلئاً بالثقة من استقرار
بلده ، قبل أن يذهب كل هذا بين غمضة عين وانتباهتها ، والواقع أن ما طال سوريا هزّني
بقوة أكثر مما حدث في غيرها من العواصم العربية التي شهِدت انهيارها وانكسارها في عمري
القصير ، ولكن المضرّج بمناسبات الهزيمة العربية .
لم تضطر لترك عائلتك سنوات من أجل لقمة العيش ، لم
تقطع مسافات طويلة من الغربة القاسية لإطعام أطفالك ، لم تعمل كنادل في مجتمع سيء تنتهبك
ملامح أهله وهم ينظرون إليك شزراً وباستخفاف وأنت مطالب بحفر ابتسامة صفراء على وجهك
حتى لا تخسر عملك ، لم تعمل خادماً في دورة مياه تضطر لتجهيز الحمامات للغرباء وهم
يفرغون أكوام الطعام الفائضة عن حاجاتهم ، لم تضطر واحدة من عائلتك أن تجتمع بأسرة
غريبة لتخدمها وتقوم بشأنها وتتحمل نزق أفرادها .
إذا لم تكن ضمن القائمة أعلاه ، وعشرات أسوأ حالاً
، فلك أن تبتسم بارتياح وامتنان وتواجه التحديات التافهة التي تنغّص عيشتك .
اطلب الكمال في الحياة والأشياء ، لا أحد يملك الحق
في لومك على ذلك ، لكن اطلبها من أبوابها ، ولا تستسلم لسردية الإحباط ، على الأقل
لا تسمم الآخرين المغمورين بالرضى والطمأنينة .
كان لدي صديق أيام المرحلة المتوسطة ، كان يشاهد
والده كل صباح وهو يشذّب أشجار الطريق المحاذي للمدرسة ، كانت نافذة الفصل تطل مباشرة
على ذلك الشارع الذي يجوبه رجل مسنّ يملأ الشيب الأبيض رأسه ولحيته وهو ينحني
ليجمع بقايا الأوراق التي تذروها الرياح من هامات الأشجار ، الله وحده يعلم ما حال
قلب ابنه وهو يكظم حرجه وضيقه من المشهد .
وأنا اليتيم منذ نعومة أظفاري ، توقفت عن الشعور
المعطّل باليتم وأنا أراه كسيراً يودّ لو أنه استطاع مسح العرق من جبين والده ، وعلى
أساسه اخترت طريقة أن الحياة يجب أن تعيشها على لأوائها وقبحها أحياناً .
مرّ على هذه القصة قرابة ١٥ عاماً ، رأيت ذلك المسن
مزهواً بابنه وقد أصبح موظفاً ملئ السمع والبصر ، طلب من والده ترك الوظيفة وأحسن إليه
كثيراً وأكرمه ورد بعض جميله ، هذه الحياة تستجيب للكادحين غالباَ .
الحقيقة أنني لا أنسى صاحب التاكسي الباكستاني عمران
، كان المشوار قصيراً جداً لكنه كان عظيماً ، كان يتحدث بامتنان كبير لكل ما واجهه
في الحياة ، عمل عشر سنوات في السعودية ، ثم انتقل للعمل مثلها في دبي ، وهو خلال كل
هذه السنوات كان سعيداً بكل أنواع العمل التي التحق بها ، حاولت تعكير صفو حديثه وتسلسل
كلامه ببعض ما قد ينغصه أو ينقصه ، لكنه كان حاضر الذهن ، يكسو كلماته بالشكر والتقدير
والتفهم .
كان هندامه ، وطريقة كلامه ، وابتسامته صادقة جداً
، وهي تعبير صريح وواضح لكمية السلام التي يشعر بها داخله ، وأنه مستعد لمواجهة كل
صنوف ما قد يعترضه في الحياة التي طبعت على هذا ، احتفظت بسحر تأثير فلسفته الشخصية
لأيام ، ترك ارتياحاً كبيراً في نفسي ، وأضاء داخلها قناديل الرضى الذي يعمر قلبه
.
توقف عن نشر الإحباط أرجوك ، تذكر أن هذا قد يذهب
بالنعم الصغيرة التي تغرقك وتملأ عليك دنياك ، ثم تتمنى وتلح لو عادت إليك وتكون كفايتك
ونهاية حاجاتك .
لدى الناس ما يكفيهم من المشاكل والهموم ، ساعد في
جعل هذه الحياة مستساغة ، توقفك عن هدر المزيد من كربون الإحباط ، ينشر مظلة واسعة
من الانبساط والارتياح والرضى .
الخميس ٣ / ٨ / ١٤٣٩ الشارقة – شاطئ المجاز
أزال أحد مشرفي المدونة هذا التعليق.
ردحذف