تتلاحق الخطوات التي تمضي فيها السعودية باتجاه المستقبل المأمول، في كل مرة تكشف عن مرحلة جادة وجديدة في مشوارها لتحقيق رؤيتها المنشودة، وقد تخففت من أعباء الأخطاء الماضية في ارتجال المشاريع التنموية واحتباس شروط النجاح لأسباب اجتماعية وثقافية.
وكان آخر ما كشف عنه الغطاء من ملامح السعودية الجديدة هو «برنامج جودة الحياة»، الذي يحمل في معناه ومبناه غاية ما تطمح إليه الرؤية وبرامج تحقيقها المختلفة، من الوصول بحياة الفرد السعودي إلى منتهى ما بلغته البشرية من ظروف العيش الآمن والمنتج والمستقر.ويهدف البرنامج إلى تهيئة البيئة اللازمة لتحسين نمط حياة الفرد والأسرة، ودعم واستحداث خيارات جديدة تعزز المشاركة في الأنشطة الثقافية والترفيهية والرياضية والأنماط الأخرى الملائمة، التي تسهم في تعزيز جودة الحياة، وخلق الوظائف، وتعزيز الفرص الاستثمارية وتنويع النشاط الاقتصادي، وتعزيز مكانة المدن السعودية في ترتيب أفضل المدن العالمية، وهو برنامج يلبي حاجات الإنسان المختلفة، ويعالج حال المدن السعودية القائمة، ويؤسس لمشاريع الاستيطان والإسكان الجديد على أساس القيم الحياتية والمادية التي يتبناها البرنامج ويطمح إليها.
ويسعى برنامج جودة الحياة 2020 إلى تحقيق 23 هدفاً استراتيجياً، منها أربعة أهداف مباشرة، هي: تعزيز ممارسة الأنشطة الرياضية في المجتمع، وتحقيق الامتياز في رياضات عدة إقليمياً وعالمياً، وتطوير وتنويع فرص الترفيه، وتنمية إسهام المملكة في الفنون والثقافة، إلى جانب ما يضمه البرنامج من فرص اقتصادية وتجارية تجتذب مستثمري الفرص الدسمة من داخل البلاد وخارجها، فإنه يستهدف في الأساس الإنسان ويعنى به، لأنه، بحسب الخطاب الرسمي الجديد للسعودية، فإنه رهان المستقبل ونبض الرؤية الطموحة، إذا صلح صلح الأمر كله واستقام واستوفى أول شروط النجاح.
ويتمثل الطموح الأسمى للبرنامج بإدراج مدن سعودية في قائمة أفضل 100 مدينة للعيش في العالم مع حلول عام 2030، بما يتضمنه هذا الطموح من تطوير مختلف القطاعات، التي تُعنى بجودة الحياة ورفاه المواطنين والمقيمين، وينطلق البرنامج مستهدفاً إحداث تغييرات إيجابية في البنية التحتية في قطاعات عدة: الإسكان والرعاية الصحية وفرص التوظيف والتعليم.
وهو يوفر منصة انطلاق صلبة للمواطنين باتجاه تحقيق واجباتهم الملحّة تجاه وطنهم، وارتفاع مستوى الأمان الذي يشعر به المواطن في بلده، ويعمل على تطوير أنماط الحياة، من خلال تفعيل مشاركة الأفراد في الأنشطة الترفيهية والرياضية والثقافية، كما يعمل على تحسين البنية التحتية، من خلال الارتقاء بالنقل والإسكان والتصميم الحضري والبيئة، والرعاية الصحية، والفرص الاقتصادية والتعليمية، والأمن والبيئة الاجتماعية، وتحقق ما قال عرّاب الرؤية والتغيير في المملكة الأمير محمد بن سلمان من أن طموحاتنا ستبتلع مشكلاتنا. ويأخذ برنامج جودة الحياة السعودية في منافسة مع الدول المتقدمة ويجعلها من الدول الأكثر جاذبية، بالعمل على محورين رئيسين، هما: تعزيز البنية التحتية وتحسين نمط الحياة، وذلك لأن كثيرا من العوائق التي تكبل طموح ودأب المواطن السعودي تعود إلى التواضع في هذه المجالات أو غيابها من ذهن وحساب الخطط التنموية المتعاقبة.
والآن، إذ تغيرت مفاهيم التنمية وتطورت بما باعد بين البلدان المتقدمة والنامية، التي تضاعفت متاعبها في مضمار المنافسة الصعبة والمرهقة، تأتي خطوة تحسين وتجويد الحياة السعودية قفزة كبيرة وواعية في حساب الطموح. كما يسهم البرنامج بصورة فاعلة في الاقتصاد الوطني، من خلال تشجيع الاستثمار في قطاعات جديدة تعزز الازدهار الاقتصادي للمملكة، إذ يعمل البرنامج على تشجيع القطاع الخاص على الاستثمار في قطاعات مستحدثة ذات صلة مباشرة بجودة الحياة ورفاه المواطنين، إضافة إلى توفير المناخ الملائم لجذب الاستثمارات الأجنبية في هذه القطاعات، كما يسهم البرنامج في تنمية وتنويع الاقتصاد الوطني، من خلال إنشاء مناطق خاصة، وإعادة تأهيل المدن الاقتصادية، وتطوير قطاعات الرياضة والترفيه والثقافة والفنون.
أسباب اجتماعية وضعف البنى التحتية وراء تراجع الثقافة والفنون
أشارت وثيقة برنامج جودة الحياة إلى تواضع وتراجع تنمية الأنشطة المرتبطة بالتراث والثقافة في مراحلها الأولية٬ وأن الثقافة والفنون تأثرت بأسباب اجتماعية وعوامل مرتبطة بالبنية التحتية.
وفي الوقت الحالي، لا يوجد سوى عدد قليل من المدن التي تمتلك عروضاً ثقافية، وعلى رغم ذلك تتسم الأنشطة التي تقدمها بمحدوديتها سواءً من ناحية الجودة أم النطاق٬ أي من ناحية العدد الإجمالي للبنى التحتية للثقافة والفنون، والعدد الإجمالي للأنشطة الثقافية والفنية.وعرضت الوثيقة لمعاناة الثقافة والفنون أيضاً من ضعف صورتها لدى العامة، الذي ينعكس في انخفاض الوعي والنقص الواضح في عدد الفنانين السعوديين٬ وبالمقارنة المعيارية تتضح محدودية الأنشطة الثقافية والفنية عند مقارنتها بالمقاييس المعيارية عالمياً٬ فهناك ثلاثة متاحف فقط لكل مليون مواطن، وتقدم المملكة 190 فعالية ثقافية مقارنة بأكثر من 400 في لندن فقط٬ كما أن متوسط الإنفاق الأسري على الثقافة والفنون أقل مقارنة بالدول المتقدمة.
وتُرجمت تطلعات البرنامج والتزاماته الاستراتيجية إلى مجموعة من المبادرات تتناول جودة الحياة، وتشكل قاعدة يتم من خلالها تحقيق تطلعات رؤية المملكة 2030، وصممت المبادرات وفقاً لدراسة تحليلية لمتطلبات البرنامج، واستعراض أفضل الممارسات العالمية، وبحسب ما يناسب المملكة أكثر من غيرها، ومن ذلك إنشاء أكاديمية سعودية للسينما تقدم برنامجاً تدريبياً وبرنامج اعتماد إعداد الأفلام الوثائقية تحت إشراف جامعة الملك عبد العزيز٬ ومن المبادرات تنمية الترفيه المنزلي في المملكة٬ ومتحف حائل الافتراضي٬ وإنشاء جزيرة للفنون والثقافة في جدة٬ وتطوير المكتبات العامة، وتشييد المجمع الرياضي والترويحي للفتيات بجامعة جدة.
ويعمل البرنامج على تطوير البنية التحتية الثقافية في جميع مناطق المملكة حتى تتماشى مع معايير المقارنة العالمية٬ إذ تحتاج البنى التحتية إلى مزيد من التطوير لتمكين تقديم العروض الثقافية المميزة.
ويشمل نطاق العمل بناء أو تجديد 50 مسرحاً وقاعة فعاليات كبرى، و45 داراً سينمائية ثقافية، و13 مكتبة عامة بحلول عام 2020، وفي نهاية المطاف، ستطور هذه المبادرة 1487 مكاناً توفر 46 ألف نشاط ثقافي مثل المعارض والحفلات والعروض.
وجملة القول إن هذه الأماكن والأنشطة الإضافية من شأنها أن تتيح عرض الأنشطة الثقافية، لجذب ما يصل إلى 200 ألف زيارة سنوية بحلول عام 2020.
وستكون للعروض الثقافية آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة، لأنها ستزيد من اهتمام المواطنين الثقافي، وتزيد الإنفاق على الثقافة والتراث، بحيث ترفع الإنفاق الاستهلاكي من 11 في المئة إلى 12 في المئة.
ونظراً لطبيعة الأماكن التي يجري بناؤها والأنشطة التي يجري تنفيذها، فإن الأثر الاجتماعي الذي تحققه المبادرة أكبر بكثير من توفير فرص نمط حياة إضافية، كما ستعزز هذه المبادرة من الاهتمام الثقافي للمجتمع السعودي، إذ إن الفرص الثقافية الحالية محدودة، كما تمكّن المجتمع من تشجيع الفنانين لمزاولة عملهم داخل البلد، أو نشر الثقافة السعودية في الخارج.
دار أوبرا سعودية تنافس سيدني ومثيلاتها العالمية
من المبادرات التي سيجري العمل عليها مباشرة ضمن مبادرات عشر محورية٬ إنشاء جزيرة للفنون والثقافة في جدة٬ ويتمثل الهدف من إنشائها في الإسهام بما يعزز من مكانة المملكة على المستوى الدولي.
ولن يكون هذا البناء هو الأول من نوعه في المملكة فحسب، بل ستفوق شهرة هذا المعلم الكثير من المعالم المشهورة عالمياً٬ ويشمل نطاق العمل تصميم دار الأوبرا وبناؤها كي تقارع دار الأوبرا في سيدني من حيث الشهرة والحصول على الجوائز، وكذلك الأعمال التمكينية في المنطقة المحيطة بها.
وسيضم هذا المجمع العملاق أجزاء عدة٬ كقاعة الأوبرا، وتحتوي على 2000 مقعد٬ وقاعة للفعاليات بـ1200 مقعد٬ ومسرح يحتوي على 600 مقعد٬ وقاعة للحفلات٬ وقاعة متعددة الأغراض، وحديقة نباتية، ومتحف، وسيقام المجمع على جزيرتين صناعيتين منفصلتين يربطهما جرس يكون بمثابة حديقة نباتية.
وتتضمن المبادرات إنشاء مجمع فنون في الرياض مملوك للحكومة يضم دار الأوبرا وثلاث قاعات متعددة الأغراض، بهدف رفع الوعي الفني والثقافي في المملكة وتحديداً في الرياض، ما يؤدي إلى زيادة الإنفاق الأسري على الثقافة والفنون.
وتستهدف هذه المبادرة بناء المجمع بحلول عام 2020، وبيع 450 ألف تذكرة سنوياً لمختلف العروض الثقافية بدءاً من عام 2021، وسيسهم التنفيذ الناجح لهذه المبادرة في زيادة عدد الأنشطة الثقافية والترفيهية بين المواطنين من مختلف الفئات العمرية، وزيادة حضور المملكة على الساحة الثقافية الدولية والمحلية.
مبادرات «جودة الحياة» خطوات نحو النموذج الكامل
كشفت وثيقة «برنامج جودة الحياة 2020» عن التفاصيل الكاملة للبرنامج التنفيذي السادس حتى الآن من 12 برنامجاً ذات الأهمية الاستراتيجية للمملكة، من أجل تحقيق الأهداف التي تضمنتها «رؤية 2030».
ويمكن القول إن مفهوم جودة الحياة الذي يعتمده البرنامج في أبسط تعريفاته، هو قياس مستوى الرضا فيما يتعلق في الجوانب الأكثر أهمية في حياة الفرد، منقباً في عدد من أكثر المؤشرات العالمية ذيوعاً وشيوعاً في هذا المجال، واعتمد بعد ذلك على ستة من أهم المؤشرات الشاملة المعروفة عاملياً باعتبارها مراجع أساسية.
وبناء على هذا التحليل للمؤشرات الستة جرى تحديد مفهومين مرتبطين في شكل مباشر بجودة الحياة، وهما «قابلية العيش» بمعنى تهيئة ظروف العيش من أجل حياة مرضية، و«نمط الحياة» وهي توفير خيارات للناس لتكون لديهم حياة ممتعة ورغيدة.
زيادة جرعة الترفيه
يملك البرنامج 12 تطلعاً يرتبط في نمط الحياة في فئات متعددة، مثل الرياضة بأن تصبح المملكة رائدة في المنطقة لناحية المشاركة في الألعاب الأولمبية الصيفية، وفي التراث والثقافة والفنون بمواكبة مستويات التفاعل الدولية في الأنشطة الثقافية والفنية وزيادة توفير عروض الترفيه لتواكب تلك المتاحة في أفضل البلدان عيشاً.
وفيما يخص الترويح؛ أشارت الوثيقة بطموحها إلى الحفاظ على نسبة الانفاق الاستهلاكي على الأطعمة والمشروبات، وأن تصبح المملكة نقطة مرجعية عالمية فيما يخص قطاع المأكولات والمشروبات مع ضامن تقديم عروض رائدة وعالية الجودة.
ويتعذر على البرنامج – بحسب الوثيقة – عدد من التطلعات التي تتعلق معظمها في قابلية العيش، والتي سيتم تحقيقها، ولكنها ليست مملوكة من «برنامج جودة الحياة 2020»، وهي 17 طموحاً تعود إلى برامج أخرى، منها خفض الوفيات الناجمة من الحوادث المرورية، أو أخرى تقع خارج نطاق أي برنامج لتحقيق الرؤية، مثل المساواة.
زيادة نسبة تملك المواطنين وخفض البطالة
ومن بين تطلعات قابلية العيش في الوثيقة، تحقيق مستوى ملكية سكنية للأسر السعودية قد تبلغ 60 في المئة في 2020، وتكافئ نظيرتها من الدول الخمس الافضل عيشاً، وتحقيق نسبة مساحات خضراء تكافئ الحد الادنى المقترح من منظمة الصحة العالمية، وتحسين عادات الناس في المشي لترتقي الى مستوى الموجود في الدول الخمس الأفضل عيشاً.
وأبانت الوثيقة أن البرنامج سيعمل على تقليص نسبة البطالة إلى تسعة في المئة في نهاية العام 2020، وتشجيع المرأة على العمل، وتحقيق نتائج مرتفعة في القراءة في البرنامج الدولي لتقييم الطلبة لتصبح المملكة ضمن الدول الخمس الأفضل عيشا.
وبحسب وثيقة البرنامج؛ فإن التطلعات تشير إلى تعزيز استخدام النقل العام، ومواكبة تطور الربط مع شبكة الإنترنت ليحقق ضعف المعدل العالمي لحصة الفرد الواحد من الأجهزة الموصولة في الإنترنت.
تقرير السعادة العالمي يراجع تطور المملكة
يتطلب بلوغ التطلعات الموضوعة لـ«برنامج جودة الحياة 2020»، التزاماً بتحقيق مستهدفات محددة فيما يخص مؤشرات الأداء، واستخدم البرنامج معايير معينة لتحديد مؤشرات الأداء الرئيسة للبرنامج.
وسيعتمد على المؤشرات العالمية القائمة والمعروفة كمؤشرات موقتة، ويعد تقرير السعادة العالمي المؤشر الأكثر بروزاً، وسيحدد هذا المؤشر مدى تطور المملكة في مختلف نواحي جودة الحياة مقارنة في 154 دولة حول العالم.
تسريحات العمال تقلق السعوديين
توقعت وثيقة «برنامج جودة الحياة» أنه بحلول العام 2030، ستنمو الإيرادات غير النفطية الناتجة عن البرنامج بمعدل عشرة أضعاف، إذ قُّدرت الإيرادات غير النفطية لكل المبادرات على مستوى البرنامج في المجموع خلال العام 2018 بأقل من واحد في المئة من الإيرادات المتوقعة.
وأقرّت الوثيقة بأن التحدي الذي ساور السعوديين طوال السنوات القليلة الماضية هو البحث عن فرص التعليم والعمل، وأورد أهم المؤشرات على ذلك هو عدم انخفاض معدل البطالة في المملكة، إذ أن نسبة 12 في المئة لدى الهيئة العامة للإحصاء، ظلت ثابتة من العام 2017.
ومن أهم الأسباب المتعلقة في هذا التحدي هو ضعف النمو الاقتصادي، ففي القطاعات التي تأثرت بشكل كبير، مثل قطاعي الإنشاءات وتجارة التجزئة على وجه التحديد، تراجعت معدلات التوظيف خلال العام الماضي، ما نجم عنه تسريح العمالة الوافدة وخلق بيئة صعبة لتوظيف السعوديين، وترتب على هذا قلق سعوديين في شأن أمنهم الوظيفي.
الروابط :
تعليقات
إرسال تعليق