في حائل ولِد جبير المليحان، وسط بيت طيني تحتضنه مزرعة واسعة، كل هذه التضاريس صنعت طفولته وانطبعت في حرفه ولغته وأفكاره، لكنه غادرها ويحنّ الآن إليها وقد باعدت بينهما ظروف العمل وطول العهد بها.
ولكن بقيت «حائل» بالنسبة إليه غيمة طفولته التي تمطر على قلبه كلما حاصرته المتاعب. طالما حمل حائل معه في كل مكان، حتى في روايته اليتيمة التي أنتجها ولقيت قبولاً واسعاً، حملت اسم الجبل الذي ينتمي إلى مسقط رأسه، الذي يشرف عليها من هامتها ويطل منه إلى أبنائها مثل أن رؤوم وأب رحوم.
في إحدى زياراته لقريته سمع نشيج بقايا بيوت الطين المهجورة فيها، وبقايا النخل العاجزة تنوح، والذكريات القديمة وقد غادرت بها رياح الزمن. حمل هذه الرسالة في صدره، وأودعها قصصه السيارة ونشاطاته المدرارة، مهموماً بلون القرى وطعمها وروائحها، ويأسى على ذهاب ريح القرى وقد أطبقت عليها طفرة السبعينات بجلاميد الإسمنت المتجهمة.
> كيف ترى حالة الأندية الأدبية الآن، أصبحت تعمل وراء ظلال النسيان؟
> الإشكالية هنا ذات وجوه أولها، وأهمها رؤية القابضين على القرار بالدور الذي تغير فيه الثقافة بنية نمو المجتمع وتوازنه، وسيره السليم في خط طبيعي بعيدا عن التطرف والغلو، منحازا إلى الاعتدال، مكفولا بالدور الفعال لمؤسسات المجتمع المدني التي غيّبت بكل أسف. لقد مررنا بعشر خطط للتنمية، وردت فيها كلمة (ثقافة) مرات أقل من أصابع كفي.
ربما لا تملك الوزارة المعنية رؤية واضحة في هذا. أما أجهزة الثقافة التنفيذية، بما فيها الأندية الأدبية فهي تطبيق لرؤية الوزارة الغامضة، أو الرمادية، ولذلك يختلف وضع كل جمعية أو منتدى أو نادٍ عن الآخر باختلاف رؤية إدارته.
لكن ـ بالعموم ـ فإن أغلب أفرع جمعية الثقافة والفنون، والأندية الأدبية لا تتواكب مع التغيرات الجارية في مجتمعنا بشكل متسارع. مجتمعنا الآن منطلق إلى الأمام بشكل يومي، وهذا التسارع في لقاء الحياة والعالم مفرح، لكن الخوف من التعثر يبقى واردا.
في مدننا فئات كثيرة العدد ـ بالذات من الشباب بجنسيه ـ لديها الكثير من المواهب والإبداعات والأحلام الجاهزة للانطلاق، والتي تنتظر من يحتضنها، ويرعى مواهبها، وللأسف فأديتنا بعيدة عن ذلك، ولذلك يمكن القول إن الزمن تجاوز أغلب هذه الأندية، وهي في الطريق إلى الاضمحلال.
> وصفك أحمد قرّان بأشجع من مرّ على الأندية الأدبية، عطفاً على قصة استقالتك ومجلس إدارتك من أدبي الشرقية؟
- أشكر الدكتور أحمد قران على هذه الشهادة التي أفخر بها. والحكاية أننا كنا قد اشتغلنا (رؤساء الأندية) مع وكيل الوزارة للشؤون الثقافية السابق الدكتور عبد العزيز السبيل، ما يقارب السنتين على صياغة لائحة الأندية الأدبية الجديدة.
اكتملت اللائحة، وبعد التغيير الوزاري تم اعتمادها، وهذا يعني تطبيقها كاملة كما تنص على ذلك احدى موادها. لكن نائب وزير الثقافة (وقتها) أرسل إلينا اللائحة لتطبيقها مستثنيا ما يخص عقد الجمعية العمومية والتي ستفضي إلى انتخاب مجلس إداري جديد لكل نادٍ. وقد وضعنا ذلك في موقف صعب، اذ ان مدة تكليفنا قاربت على الانتهاء، ولذلك أرسلنا للوزير ونائبه ومدير الأندية الأدبية مستفسرين عن السبب.
لم يجب علينا أحد طوال عدة أشهر، بل تم تجاهل استفساراتنا تماماً. وكنا في مواجهة السؤال الواضح من أصدقائنا الأدباء والمثقفين: (متى تعقدون الجمعية العمومية، وننتخب مجلسا جديدا؟) كان زملائي في مجلس الإدارة يملكون تقييما صحيحا للموقف، وهكذا قدمنا استقالة جماعية مسبَّبة رفضا لقرار الوزارة بتجميد لائحة الانتخابات.
> هل ستساعد هيئة الثقافة باستقلالها في دعم وتعزيز الحركة الثقافية والمثقفين؟
> المفترض أن تبني ما تهالك من بنية الثقافة، وما تعرضت له هذه البنية طوال عقود من إهمال في الرعاية، وتقتير في الموارد. تحتاج هيئة الثقافة أن تبني استراتيجياتها على أسس ذات جذور محلية، وستأتي برامجها بوجه محلي أصيل ومتعدد الألوان.
ثقافتنا بحاجة إلى بنية تحتية أولية (مراكز ومقرات في المدن الرئيسة، وبيوت مناسبة ومجهزة في المدن الأخرى) وإلى إنشاء كليات متخصصة في الثقافة والفنون (الإدارة الثقافية، المسرح، التمثيل، الإخراج، الرسم، النحت، الموسيقى ...إلخ) لن تنجح هيئة الثقافة في تكريس وبلورة ثقافة جادة دون تخطيط مدروس ومتأنٍ. إن هي فعلت فستنجح بإنجاز بنيتها الثقافية المتكاملة، متعمدة على رؤية جادة، واضحة، ومعتمدة على أبناء الوطن القادرين على الفعل والتجاوز.
> روايتك اليتيمة (أبناء الأدهم) لقيت حفاوة كبيرة، وكأن عمرك الطويل في كتابة القصة مكنك بفعل تراكم الخبرات من أدوات الكتابة الرواية الناضجة؟
- لا تقل (يتيمة)؛ فهده أول رواية تنشر لي، وحتى الآن لم أعلن توقفي!
نعم، استفدت كثيرا من تجربتي في كتابة القصة، لكن كتابة الرواية أمر آخر يتطلب امتلاك الكاتب لرؤية اجتماعية وثقافية وإجادة للغته، ونضج في تجربته الكتابية وسلامة أدواته. ولعلي اقتربت من هذا نوعا ما. ولذلك ففي النية (إنجاب) أخوات ينضمون لأبناء (الأدهم)!
> هل ستتجاوز مرحلة النجاح الروائي الأول، وتخرج بعمل يضاهي أبناء الأدهم أو يتجاوزه؟
- لا أستطيع التنبؤ بذلك، لكني أخطط لكتابة عمل مختلف، وأرجو أن يكون إضافة هامة لمنجزي السردي.
> لك رواية لم تر النور عن الوحدة العربية، لو كل روائي عربي امتنع عن النشر نتيجة خيبة سياسية لما صدر عندنا كتاب؟
- ربما، لكن الواقع وقتها تجاوز الفنتازيا، ولذلك لم يعد لها قيمة ككشف بعد أن أصبح الواقع أمراّ من الخيال. كان خطئي أني بنيت كتابتي على رؤية واقع عربي طامح إلى التحرر والسلام.
لكن هذا الواقع انتكس، وأصابني بإحباط كبير فيما يتعلق بمجتمع عربي يشق طريقه بشكل حضاري سليم، مسابقا الأمم الأخرى في طريق الإنجاز العلمي، الهادف لسعادة الإنسان بشكل عام.
لو رأيت كم هو قاس وغريب ومتخلف أن يغزو بلد عربي بلدا عربيا آخر. لقد أعادنا ذلك إلى تفكير لصوص القبائل المتناحرة على خيرات الأرض، دون قانون غير قوة الحرب الهمجية.
> ألم تفكر مرة في العودة إلى حائل؟
- حائل غيمة طفولتي التي تمطر على قلبي كلما حاصرتني المتاعب. فأنا ـ دائما ـ أحمل حائل معي في كل مكان. من سَكَنَ حائل ـ ولو لعدة أشهرـ فلن يتخلى عن عشقها، فما بالك بأحد أبنائها الذين احتضنت طفولتهم، ودراستهم حتى نهاية المرحلة المتوسطة. حائل فتاة عشقتها، فكيف لي أن أنسى حبيبتي. أنها كحلم يتمدد في الشرايين. وهي (زهرة) مضيئة وباقية في القلب.
> لم تأخذ (القرية السعودية) حقها من الدراسة والبحث والتنقيب في مكنزاتها الثقافية، قرى مثل قصر العشروات لم تكتب بشكل كافي؟
- الأرياف والقرى وبيوت الطين والناس (الطيبين) اذ كانت الحياة بسيطة وسهلة والزمن طويل وهادئ، وأيام الأسبوع كشهر؛ كل ذلك صار ذكرى بعيدة ومؤلمة.
في إحدى زياراتي لقريتي سمعت بقايا بيوت الطين المهجورة تبكي، وبقايا النخل العاجزة تنوح، والذكريات القديمة وقد غادرت بها رياح الزمن. لم يعد للقرى من وجود إلا ما نتخيله في رؤوسنا، ونحلم به في كتاباتنا. لقد تغيرت قصر العشروات مع أول جدار اسمنت وضع فوق جلدها الطيني الطبيعي. وشوهت مبانيها الحديثة عندما تغربت عن هندسة الآباء والأجداد. لم يعد للقرى لون أو طعم أو رائحة. أصبحت القرية كأي حي مهمل في طرف مدينة. للأسف لقد قضت على قرانا (طفرة) السبعينات المالية التي لم يتماش معها نمو في ثقافة الإنسان وذائقته! لقد أفسدت برامج التنمية (المشوهة) أغلب الأرياف، وقضت على سلالات متوارثة في البناء والزراعة، وطرائق الإنتاج والعمل والمعيشة.
> ماذا أضاف لك موقع القصة العربية؟
- الكثير الكثير من المعرفة، والصداقات، والإبداع. إنه جامعة عربية للإبداع القصصي دون حدود. لقد تجاوز الموقع بمبدعيه قيود جامعة الدول العربية؛ خصوصا اننا حددنا هدفه منذ البداية، أن يكون عربيّ الهوية، بلغة سهلة، وبنصوص قصصية بأسماء كتابها الحقيقيين، دون انحياز إلى بلد أو لون أو عقيدة الكاتب. مبتعدين عن قذى الكلام والمهاترات وكل ما يتعلق بضروب السياسة والعقائد والقبائل العربية المتناحرة.
> 21 مليون زائر للموقع، رقم ضخم لكنه لم ينقذ الموقع من نوايا الاغلاق أحياناً؟
- مشكلة الموقع أنه (غير ربحي) ودون موارد مالية، دون إعلانات، دون رعاة، ولذلك فالصرف على بقائه وخدمته وتطويره أرهقني، خصوصا بعد تقاعدي.
> قدّر لك عبر الموقع ملاحظة تطور القصة العربية عموماً؟
- القصة القصيرة فن علمي رائع، ومتجذر. والقصة العربية هي تتوسع في انتشارها في مسارها نامٍ ومتجدد على مستوى الكتاب والتقنيات والإبداع في الموضوعات.
> وأنت ابن البدايات، ومرحلة السبعينات، ماذا اختلف الآن في واقع المشهد الثقافي السعودي؟
- ما زال مشهدنا الثقافي دون راعً. إنه أشبه باليتيم الذي يعتمد على قواه الذاتية، يتخبط أحيانا، يقوم ويقعد، تتناوله أعاصير التوجهات، والشلل، وهو محبط، يقوم على جهود فردية، بعيدا عن خطط التنمية، أو اهتمام وزراء الثقافة الذين يركضون وراء بريق الإعلام وفرقعاته.
> كتبت منذ منتصف السبعينات الميلادية، القصة القصيرة جداً أو ما تسميه (الصغيرة) اليوم أصبح هذا النوع مذهباً معتبراً عززت شبكات الاجتماعية الجديدة من انتشاره وجدواه؟
- للمبدع في السرد، كما في الشعر حقه في التجريب، وكتابة ما يراه مناسبا حسب رؤيته وقدرة أدواته. ومع التراكم الكمي يأتي دور متلقي النص وحقه في الفرز والتقبل أو الرفض.
وهذا ينطبق على القصة (الصغيرة) التي تنتشر الآن بشكل (مخيف ومفرح)، أما الخوف فتحولها إلى موضة سهلة يركبها حتى من استطاع كتابة عدة جمل بعيدا عن الشروط الفنية لهذا النوع من الإبداع. والتجربة مفرحة في صقل مواهب هواتها، وقد بدأنا نلمس تطورا في إجادتها بعد تعثر خطوات أول الطريق. القصة (الصغيرة) لا تكتفي باشتراطات القصة القصيرة المعروفة، ولكنها بحاجة إلى تكثيف لغوي شديد يعطي للكلمة أبعادا تتسع حسب قدرة المبدع وثقافة القارئ.
كما أنها ذات صيغة موزونة؛ إذ تعتمد الكلمة في بنائها بخلاف القصة القصيرة التي تتأسس على الجملة. فالكلمة في القصة الصغيرة أساسية بحيث إذا حذفت كلمة واحدة اختل توازن النص. كما أن هذا النوع الأدبي الجميل لا بد أن يكون مدهشا، مذهلا، مفاجئا، محيرا بنهايته، مفتوحا للكثير من التفسيرات والأسئلة، وإلا فإنه مجرد (حكي) عادي بعيد عن الإبداع. هناك ـ الآن كثيرون جدا يكتبونها لكن القليل ممن يكتبها لا يفون بشروطها، والقليل القليل منهم من يبدع فيها.
رسائل إلى:
وزير الإعلام
نطالبه بـ: تفعيل جائزة الدولة التقديرية وتطبيق توصيات مؤتمرات الأدباء الأربعة والموافقة على إنشاء أتحاد للكتاب والمثقفين السعوديين وانتخابات مجالس الأندية الأدبية.
كلية اللغة العربية
حدثوا منــــاهجكـــــــم واربطوها بالإبداع والواقع، وأعقدوا الورش الكثيرة للنقاش وتطوير وتحديث اللغة؛ خصوصا في مجال الاشتقاق، والتعريب. أو استمروا في إغلاق الأبواب كما تفعلون الآن.
هيئة الثقافة
لتنجـــــــــح: أديروها بمثقفي البلد ـ فأهل البلد أدرى ـ وليس بموظفين عتاة بيروقراطيين.
المثقف الشاب
أجــــــد لغتك، ولا تكف عن القراءة، والأسئلة أبدا!
ملاك الصحف المحلية
حولــوها إلى مساهمات بينكم وبين المثقفين.
الأندية الأدبية
- إدارة المثقفين والثقافة مهارة لا تتم ببيروقراطية وحسابات غريبة.
ملامح:
- ولدت في قرية قصر العشروات جنوب مدينة حائل بـ25 كيلومترا.
- كان منزلنا الطيني الكبير في وسط المزرعة، وبابه الرئيس لا يغلق أبدا. وجبل أجا يقع ممتدا وشامخا غرب القرية وكأنه يحرسها.
- كنت الثاني بين الأشقاء. درست الابتدائي في مدرسة القرية، وانتقلت إلى المرحلة المتوسطة في مدينة حائل.
- بعد المتوسطة طلب والدي أن أذهب إلى الرياض للدراسة في معهد المعلمين الثانوي. لم تفلح محاولاتي للبقاء وإكمال الثانوية العامة.
- تخرجت من معهد الرياض، وتعينت معلما في الدمام بحكم أن أخي الكبيرـ من أبي ـ يعمل فيها.
- أنا ابن قرية، يحمل طفله بداخله أينما ذهب، مر بالكثير من المحطات في حياته جعلته مخزناً للتجارب في أصقاع الأرض، يهتم كثيرا بعمله على حساب نفسه، أوقعته صراحته في متاعب كثيرة.
- لم يندم على اتخاذ قرار في مشواره العملي حتى وإن كان خاسرا لمكسب مادي أو وظيفي، لكنه الكاسب لنفسه.
- قليل المجاملة. كان وما زال يحلم بغد لم ولن يأت، مريض بالتفاؤل، ولديه مشاريع كبرى لتغيير نفسه والعالم تتلخص في بعض كتابات تافهة لا جدوى منها.
- ترك الرسم والشعر، متفرغ لإدارة نفسه عبر القراءة والكتابة واللعب مع أولاده الذين تجاوزوه في العمر.
- يود أن يحول ما يسكن في ذاكرته من أساطير وحكايات إلى كلمات.
- فرح بزوجته رفيقته في الحياة، وبأولاده الثلاثة، وأصدقائه الكثيرين، وبمنجزه الإبداعي المتواصل.
- يحب الدمام وحائل وقصر العشروات يسافر إلى كثير من البلدان المفتوحة بالحياة والفن والثقافة.
الرابط :
http://www.alhayat.com/article/4579453
تعليقات
إرسال تعليق