خميس مشيط - عمر البدوي
الجمعة ٢٦ يوليو ٢٠١٣
أتمّ الشيخ الحواشي صلاة العشاء ليبدأ بعد برهة من الوقت الركعة الأولى من صلاة التراويح على رأس الساعة التاسعة مساءاً، ويقرأ سورة آل عمران كاملة في غضون خمس وأربعين دقيقة، ومثلها الركعة الثانية التي قرأ فيها سورة النساء كاملة، ولم يتجاوز خمساً وأربعين دقيقة كذلك. كان الشيخ الحواشي يقرأ بقراءة الحدر مع وضوح الآيات وتفحص المعاني وتكرار الآيات التي اختزنت تنبيه المؤمنين وتذكيرهم بالله، وربما كرر آيات التسبيح والاستغفار ما يتجاوز العشر مرّات، مع نحيب خافت يحفده صوت بكاء المأمومين الذي يهدر في المكان.
بمجرد انتهاء الركعتين الأولى من صلاة التراويح أخذ المصلون في تبادل أكواب القهوة والشاي وقوارير الماء واللبن والحليب وقطع من الكيك والخبز، شاركهم فيها الشيخ مع همهات التسبيح والتهليل التي يلتقطها مكبر الصوت، وذلك خلال عشر دقائق للاستراحة، يتولى توزيع ذلك مجموعة من المتطوعين والعاملين في المسجد.
تجري عادة الشيخ أن ينتهي من صلاة التراويح بعد دقائق من تجاوز الساعة الرابعة فجراً إذ لا يبقى على موعد السحور الذي يجري إعداده لحظتها في مؤخرة المسجد سوى دقائق معدودة، لينتقل المصلون إلى تناول السحور ثم يستعدون لصلاة فجر يوم جديد من أيام رمضان، ولا يلتزم الشيخ بوقت محدد بين كل ركعتين من التراويح، إذ قد تقصر أو تطول أحياناً بناء على تقدير الشيخ، وربما صلّى ركعتين من الساعة الحادية عشرة حتى الرابعة فجراً، يقضي فيهما عدداً كبيراً من أجزاء القرآن كما فعل في عاشر أيام الشهر.
يذكر أحد المصلين مواظب على الصلاة خلف الشيخ الحواشي أنه قام بسنة النبي الكريم في إحدى ليالي هذا الشهر الفائتة وصلى بسور «البقرة والنساء وآل عمران» في ركعة واحدة وعلى هذا النحو من ترتيب السور، تشبهاً بعمل الرسول صلى الله عليه وسلم كما ورد في الآثار، استغرقت الركعتان ما يزيد على الساعتين حينها.
خيام ملونة خفيفة الحمل والتنقل من القماش البلاستيكي الخفيف منصوبة قبالة الإمام، وعلى امتداد الخط الأمامي من المسجد تحتضن جموع المعتكفين منذ بداية الشهر، بينما تنتشر أكياس الملابس والأردية «البشوت» على جدران المسجد الجانبية، تعود لجمع يقارب المئة مصلٍّ اختاروا المقام في المسجد والانقطاع عن الدنيا، مستلهمين تجربة إمام المسجد الذي ضرب صورة من التعلق بالله والانقطاع للعبادة والزهد في الدنيا، كما تتراكم العشرات من كراتين الماء في مؤخرة المسجد لتأمين حاجات المصلين والزائرين، يتبنى توفيرها فاعلو الخير، وتنتصب ثلاجات التبريد الكهربائية التي تختزن عشرات عبوات العصير والحليب والألبان، لإغناء حاجة المصلين والمعتكفين، وتوفير ما يلزمهم للمكوث بارتياح واستقرار وصرف النظر عن الحاجة إلى الخروج، وتفويت مساحات الوقت التي لا يليق بها إلا مزيد من التعبد والتبتل إلى الله عز وجل.
خلال العشر الأخير من الشهر الكريم تتضاعف أعداد المعتكفين من جنسيات مختلفة، ومناطق متفاوتة من المملكة، لما امتاز به هذا المسجد من وجود هذا الإمام العظيم حسب ما أورد معتكف كبير السن يصلي التراويح خلف الإمام متوكئاً على عصاه الخشبية، يغالب بها عجزه وضعفه ممتنعاً عن الجلوس على كرسي بلاستيكي قرّبه أحد الشباب الذي يقوم على خدمة المصلين.
خارج المسجد نصبت خيمة ضخمة لاستقبال الصائمين وتفطيرهم بما لذ وطاب من المأكولات الدسمة والغنية، وقد يضطر أهل الخير إلى فرش جزء داخل المسجد لمحاولة استيعاب البقية الباقية ممن غصت بهم الخيمة، الأمر نفسه بالنسبة للسحور داخل المسجد الذي يتولى تأمينه مجموعة من العاملين المختصين بذلك، إذ لا يكاد يقترب موعده إلا وأصبح جاهزاً للراغبين، وربما استقبل المسجد من يرغب في الإفطار والسحور من الجاليات الآسيوية والأجنبية، دون التزامهم بالصلاة في المسجد كما ذكر بائع دهن العود الذي يجلس عند مدخل المسجد منذ وقت طويل.
في المسجد كما يتضح لكل زائر جديد يشعر بالحميمية التي تجمع المصلين، وشعورهم الظاهر بالارتياح في تنقلهم وتفاعلهم فيما بينهم، بمثابة عائلة واحدة زادها طول المكوث في المسجد ترابطاً وتعاضداً، كما يلاحظ الزائر مجموعة من كبار السن يتناوبون خدمة المصلين، ويستغلون فترات الاستراحة بين الركعات لتوزيع قوارير الماء وورق المناديل، تعلوهم شعرات بيض وتتخلل ذقونهم، فكان مما أضفى إلى عمق التواصل مهابة العمر، فضلاً عن صغار السن ممن يبادرون إلى ذلك برعاية آبائهم المعتكفين الذي يتنقلون بين الخيام المنصوبة لتوفير احتياجاتهم وتبادل الأحاديث.
اجتهاد لإتمام عشر ختمات بالمصلين!
انضم الشاب «أبو أنس» إلى المعتكفين في المسجد قبل أربعة أيام، لينقل إلينا بصورة ملهمة - بلهجته الجنوبية الصرفة - أيامه التعبدية المكثفة في هذا المسجد، ويستعرض لنا أهم العادات التعبدية والاجتماعية التي تجمعه برفقاء الاعتكاف في مسجد الشيخ أحمد الحواشي. يقول أبو أنس: «إن الشيخ الحواشي يجتهد لإتمام عشر ختمات خلال هذا الشهر، وهو يتجنب مخالطة المعتكفين والمصلين والحديث إليهم، وينقطع مطلقاً للعبادة والقراءة والذكر والصلاة، ولا نكاد نراه إلا لحظة الصلوات إذ يطل علينا من الباب الخشبي الأمامي ويرفع لنا السلام ثم يتوجه قبالة القبلة ويغرق في صلاته وعبادته وتبتله، ولا يلتفت إلى سواها».
ابن الشيخ عبد الرحيم أحمد الحواشي الشاب الذي يقترب عمره من العشرين ربيعاً ويلبس غترة بيضاء، يتولى رفع الأذان والإقامة ويتواصل بحب وارتياح مع جماعة المسجد، يصطف إلى جانب النخبة الأولى من المأمومين الذين يعقبون الشيخ ويرتب حاجات والده الذي لا يثقل مأوماً ولا ينشغل بطارئ مما انعكس على حضور أريحي للشيخ وارتياح المعتكفين في تنقلاتهم.
مسجد الشيخ الحواشي بعد تجديده اكتسى حلية خضراء مع إضاءة بيضاء نقية، وهو مسجد ممتد مسافة كبيرة ويستوعب بصورة تقديرية مئات المصلين، ويلتزم ما يقرب من صفين فارعين بالصلاة خلف الشيخ صلاة التراويح، ويشكل الشباب غالبية المصلين إلى جانب نفر من كبار السن ممن يحتاج إلى الجلوس لحظة القيام لأخذ قسط من الراحة، ليستعيد بعض نشاطه على امتداد الركعات الطويلة. يقع المسجد في منطقة مكتظة بالمحال التجارية ومراكز التسوق، وهي لا تهدأ لكثرة مرتاديها والنشاط الملفت فيها للتسوق والمتبضعين، عندما تتجول في الأسواق المجاورة للمسجد تجد جنسيات مختلفة، وتستقبلك روائح المطاعم ونداءات الباعة يخالطه صوت قراءة الشيخ الحواشي المتمهلة في صورة تجمع أبغض الأماكن إلى الله مع أحب البقاع إليه في لحظة واحدة
.
الروابط :
تعليقات
إرسال تعليق