التخطي إلى المحتوى الرئيسي

ممدوح الحزوم لسان «الثمودية» وحارس أساطير مدينة الآبار الأزلية


جدة - عمر البدوي 
«لا بدَّ أنه تَحدٍّ كبير لبناء مثل هذه المدن في الصحراء، إنها المرونة الإنسانية» هذا ما قالته رائدة الفضاء كريستوفورتي وهي تنظر إلى قطعة معمورة وتكاد تكون مغمورة في كبد الصحراء، تبدي إعجابها ‏وتلتقط صورة من مركبتها الفضائية لمدينة في شمال السعودية.
تقع «جبّة» شمال غربي حائل وتبعد عنها نحو١٠٠ كيلومتر، في قلب النفوذ الكبير، بين حضارات قديمة مثل دومة الجندل وتيماء والشويمس وكهف جنين، وهذا يعطيها مركزاً محورياً، ويعود ذكرها إلى عهد بطليموس الذي سمّاها «اينا» وهو لفظ آرامي معناه النبع، وللمدينة تاريخ طويل مع المستشرقين ممن زارها وأذهله ما وجده فيها من آثار.

ويقول في شأنها الرحالة السعودي إبراهيم سرحان: «جُبّة مدينة مهيبة وممتعة، اهتم بها وزارها مشاهير الرحالة المستشرقون، فيها روح عجيبة، وما وجدتني مذهولاً في موقع أثري مثلها، نقوشٌ ورسومات بديعةٌ، في كل زاوية وفي كل مكان، لا الصورةٌ تغني عنها ولا الفيديو».
ستكون محظوظاً لو حصلت على فرصة لجولة هادئة مع خبير الكتابات الثمودية والشغوف بمدينته ممدوح مزاوم الحزوم، وربما قليلاً ما تجد مثله في الإلمام بتاريخ منطقته وتراثها الزاخر، بحرٌ في اللغة والفهم وتقريب المعاني، يعرفهم واحداً واحداً، ويصحح حتى أخطائهم الإملائية.

طريقته في شرح النقوش عجيبة، وقصّة تعلُمِهِ لها أعجب، يشير إلى إحدى القطع المتكومة ضمن تشكيل صخري واسع، بأن هذه الصخرة فريدةٌ من نوعها، تصلُح أن تكون مرجعاً لتعلم الثمودية ؛ لأنها جمعت جميع أساليب كتابتها، وليتها تُنقل إلى المتحف لحمايتها وإبعادها عن أيدي المخربين.
«الحياة» التقت ممدوح وأفاض في الحديث عن نوادر ما قد تجده في المدينة «تتنوع النقوش التي تختزنها مدينة جبّة حسب العصور، وتبدأ تقريباً بالعصر الحجري وتتميز فيه بالرسوم الكبيرة لحيوانات وصخور بحجمها الطبيعي، وسمّي هذا النمط باسم المدينة نفسها ويعود تاريخه من ١٢ ألفاً إلى ثمانية آلاف سنة. وأهم رسومات ذلك العصر هو الملك والقناص وملكة جبة، وبعض الحيوانات كالثيران.

بعده العصور المعدنية على تعددها، وتتميز رسوماته بالصغر مع الدقة وبالحجم الكامل، وهي منتشرة بشكل كبير، ويصل مجموع العصرين نحو الألفي رسمة، ومضمون الرسمات يغلب عليه صور الحياة اليومية مثل الصيد والرقص والعبادة، ويعود تاريخها من ستة آلاف إلى أربع آلاف سنة قبل الميلاد تقريباً. ثم العصر الثمودي قبل ١٣٠٠ من الميلاد، وفي القرن الثالث الميلادي كانت نهايتهم، بعد تدرج حضورهم في تاريخ مدينة جبّة بين المبكر والمتوسط والمتأخر، ويبلغ عدد نقوشهم نحو ٦٠٠٠ نص ثمودي تم توثيقها من هيئة السياحة والتراث الوطني في السعودية، وتتوزع بين جبال أم سنمان وعنيزة وشويحط والمرابيب والغرا وغوطة والقطار والهويمل غرب المدينة، والرسومات الصخرية تصل إلى ألفين تقريباً.
والثموديون هم حسب ما تكشفه تلك الرسوم والنقوش غالباً كانوا بدواً رحّل، باستثناء بعض فرص الاستيطان بدليل بعض نقوش (زرع - حصد - صرم - وبعض رسومات النخيل)، كما مرّت بهم فترات من التجارة، أثبتتها نقوش من قبيل (عدّ العيس - تَجَر).

بعد الثموديين جاء العرب الأوائل، بالخط الكوفي، أو الخط الإسلامي غير المنقوط، وفي جبّة نحو ٥٠ نصاً من هذا النوع يغلب عليها الأدعية والأذكار والابتهالات وبعض سور القرآن والآيات، من بينها نص مشهور لتميم بن مهاجر وثّق سنة ١٤٧ للهجرة، وهذا يدل على أن المدينة كانت ممراً للقوافل قديماً ومنها رحلة العقيلات المشهورة.
وقبل ٥٠٠ سنة تقريباً بدأ الاستيطان الحالي للمدينة من قبائل الرمال من شمّر، بعد أن كانت قفرا، وفيها تسعة آبار يسمونها الأزلية، وجدت مطمورة وأعيد إحيائها، وقريباً جداً اكتشفت بئر جديدة كانت مطمورة كذلك مثل سابقاتها، وهو من دلائل الاستيطان القديم من القبائل الثمودية».

ممدوح حامل البكالوريوس في الدراسات الإسلامية، يحب السفر، باحث ومهتم بالنقوش الثمودية، مرشد سياحي عام في «أينا» كما سماها بطليموس و«جبّة» كما هي اليوم، يسكن فيها وربما تسكنه ولا تفارق صدره الذي ملئ دراية وخبرة وإلماماً بأسرارها ونوادر أخبارها. وشغف ممدوح بما تختزنه البلد الفضاء التي ولد بها وعاش تفاصيلها، وبادلها الحب بالوفاء، ونقب في أعماقها، حتى برع في الخط أو القلم الثمودي، ويحتفظ بفضل بعض الأسماء التي كان لها دور وأثر مثل الدكتور سليمان الذييب وتركي المحيفر وسعد التويجري، كما قدم محاضرات عدة في مناطق مختلفة من المملكة ليعرّف بمكتنزات بلدته التاريخية والتراثية العظيمة.

انتهى للتوّ من تصوير لقاء لقناة «ard» الألمانية التي بدأت في إنتاج أفلام وثائقية عن المملكة والرسوم الصخرية في مدينة جبة، وشارك خلالها ممدوح بحديث مستفيض عن النقوش الثمودية هناك
وهو على أمل كبير أن تحقق رؤية ٢٠٣٠ نقلة كبيرة في هذا المجال، بحيث تنال هذه المدينة الثرية حقها من اهتمام العالم وتركيزه، وتكون فرصة وقيمة مضافة في وطن ينشد مستقبله متكئاً على مجده القديم ومشدوداً إلى مجده القادم.


الرابط :
http://www.alhayat.com/article/4594697


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...