أوضح الصحافي والروائي السعودي محمود تراوري، أن داء العنصرية يتفاقم، وأنه يختلف من مكان إلى آخر، مستدركا أن الرهان يبقى على وعي البشر. وذكر صاحب «ميمونة» أن الرواية معنية بأن تقول ما لم يقله التاريخ، وبعيدا عن آليات التاريخ وتقنياته، فالمخيلة والتكنيك الفني، كما يذكر هما العمود الذي يقي الروائي من الوقوع في تشوش التاريخ أو انحيازاته! وقال تراوري في حوار مع «الحياة» لم يخل من أفكار غير تقدليدية، ان مشكلة المشهد الثقافي ـ الإبداعي السعودي، تكمن في التشييء والتسليع، عبر إخضاع العاملين فيه والموجودين من جل المبدعين في هذا المشهد، لمعايير نجومية السوق. ولفت صاحب «بيان الرواة في موت ديما» إلى أن الجدل حول هوية الحجاز ليس جدلا خلاقا، يضيف لمسيرتنا نحو ما هو أجمل، قدر ما هو نتاج طبيعي لاطروحات عالمية، ذاعت مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي.
إلى نص الحوار:> تحفل الساحة الثقافية اليوم بالكثير من الكتاب والأقلام الشابة، استعجلتهم الفرص التي تتيحها شبكات التواصل الاجتماعي، بعضهم أثبت جدارته وتفوقه، وبعضهم انسحب بعد التجربة الأولى، هل اختلفت شروط البناء والظهور اليوم ؟
مشكلة المشهد الثقافي/ الإبداعي «محليا»، وربما عربيا، تكمن بتقديري في (التشييء، والتسليع، وإخضاع المنتج لشرط السوق، الذي قلنا انه في الغالب ربحي، غير معني بأفكار أخرى خارج أطر الربحية، عبر إخضاع العاملين فيه والموجودين من جل المبدعين في هذا المشهد، لمعايير نجومية السوق، وما إلى ذلك، وهو الفخ الذي ينساق إليه من لا يتنبه من المبدعين، فتشتبك الرؤية لديه حد التناقض أحيانا مع مسلمات وشروط الفن، وتتيه خطوته ما بين نجومية المغنين والفنانين واللاعبين، وضرورة الانزواء بعيدا عن كل ما هو صخب، مشوش لذهنية وذاكرة وروح المبدع، الانزواء وليس العزلة، هو ما يشحذ طاقات المبدع الحقيقي، والحقيقي أبدا لا ينسحب، بل ينزوي ليرصد ويتأمل كل ما يصنع صباحات الحياة، ويشكل لياليها، مع حرصه على ألا تتبقع روحه، أو تتنمل ذاكرته حد التآكل، أو يترنح فؤاده تقلبا، بين مغريات النجومية، ومتطلبات الحفاظ على شرارة التجربة الأولى ووقدة جذوتها، وتصعيدها نحو تعميق هذه التجربة وهكذا.
> كيف يحافظ القلم الواعد على تنامي موهبته ووهج رصانته، بحيث لا يبتلي بـ «نهاية الحارثي» كما وصفت في إحدى مقالاتك، التي تطرح إشكالية استسلام الموهبة لإغراءات وسلطة النجومية؟
- تماما، بالضبط، مع فارق التفاصيل، والأخذ في الاعتبار، أن المقالة التي تشير إليها يا صديقي كان سياقها رياضيا، وفي كرة القدم تحديدا، وهي المجال الذي ربما نستطيع تحديد متوسط المدى الزمني لعطاء اللاعب فيه بالعشر سنوات، بعدها يجبر اللاعب مهما كانت موهبته، على الاحتكام لسلطة الوقت والبدن واللياقة، هذا إن نجا من الإصابات التي أحيانا تنهي مشاريع إبداعية موهوبة مبكرا، أو لم يتورط في الانصراف لملذات توفرها النجومية. في الإبداع الكتابي، الأمر يختلف هنا تماما، فالسنون تمنح الموهوب، نضجا على الصعد كافة، فنيا ورؤيويا، تمده بتعاط أعمق مع الحياة، بكل مفرداتها وأشواقها وأحلامها وخيباتها.
> «يستعيد الكتّاب في الصحافة الثقافية القضايا والمشكلات ذاتها، ومنذ عقود أيضاً، وكأننا مجتمع ساكن جدا، بارع في تدوير قضاياه، وإعادة إنتاج مشكلاته» لماذا ؟ وهل هو أمر طبيعي؟
- هو بالتأكيد أمر غير طبيعي، كما يفترض، لكن – استنادا للواقع – للأسف هو طبيعي في مجتمعات نامية لم تتكامل فيها مقومات بنائها، لم تتكرس فيها القيم المدينية الكبرى التي هي أس قيام الحضارات، وخلق المجتمعات التي تصنع حياة، تضج بكل التفاصيل الدقيقة لمنظومة الحياة التي تتلاقى مع النضج وارتقاء الوعي البشري، وسيادة القانون، وفصل السلطات واستقلالها، وما إلى ذلك من مكتسبات حققتها مجتمعات أخرى، استقرت فيها الحياة إلى حد كبير.
> في بعض أعمالك، سجلت شيئاً من سيرة إنسان ومجتمع مكة، وأسرار تكوينه التي لا يعرفها إلا أهل مكة، ماذا بقي من مكة القديمة التي عرفتها في المسفلة وبقيت أحياء وأزقة مكة الأثيرة؟
- أولا يتعين علي التنويه، بأن كاتب الرواية، لا يمكن – عندي – النظر إليه باعتباره، «مجغرفا تاريخيا»، أما محاولتي البسيطة فهي لا تدعي الخروج عن رؤية الفن، لما هو واقع وما هو مستشرف وما هو مندثر، بمحاولة الربط من بين هذه الأقانيم الثلاثة، عبر الحكاية/ الدراما، والالتفات لما تهمله عادة (كتابة التاريخ) والتي هي غالبا منحازة، أو موجهة، وهذا ما ينبذه الفن، وينأى به بعيدا عن (المروية التاريخية، أو التسجيلية) المنحازة بالضرورة!
فالرواية دائما معنية بأن تقول ما لم يقله التاريخ، وبعيدا عن آليات التاريخ وتقنياته، فالمخيلة والتكنيك الفني هما العمود الذي يقي الروائي من الوقوع في تشوش التاريخ أو انحيازاته! أما ما تبقى من مكة فهو بالضرورة، لم يتبق منها منها إلا الطريق إليها! وشعل في الروح تكفي لأن تغمر الكون بالبهجة والحب والجمال.
> هذا يذكرنا بجدل يتزايد اشتعاله عن هوية الحجاز، ولا تكف بعض الأحداث الهامشية تذكي هذا النقاش بين أطراف تتجاذب حق تمثيل الهوية وتجسيدها؟
- هو – في تصوري - ليس بجدل خلاق، يضيف لمسيرتنا نحو ما هو أجمل، قدر ما هو نتاج طبيعي لاطروحات عالمية، ذاعت مع مطالع التسعينيات من القرن الماضي وتنبأت به، كانت تشير إلى (تلازمات العولمة ـ أو التوجه نحو ترابط عالمي متزايد، مع عدة مفاهيم متضاربة للاختلاف الثقافي) بحسب (أستاذ دراسات العولمة وعلم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، جان نيدرفين بيترس)، وهنا ل بد أن أشير إلى ضعف هذا الجانب من الدراسات الثقافية لدينا الذي يتصل ببؤس البحث الأكاديمي لدينا. بيترس، يرصد هذا تماما كمنتج بشري وظاهرة عالمية في كتابه «الأعراق والتعددية الثقافية الكونية». فالوعي بأن العالم «يصبح أصغر» والوعي بالاختلاف الثقافي ينحسر تزامنا مع حساسية متزايدة للاختلاف الثقافي، إن البروز المتنامي للاختلاف الثقافي في كل مجتمعات الدنيا يشكل جزءا من تحول ثقافي عام يشمل انعكاسية ذاتية أوسع للحداثة. يوضح بيترس هذا بقوله: «أخذ التحديث يتحرك كآلة ساحقة، تمحو التنوع الثقافي والبيولوجي في طريقها، والآن لم تعد المكتسبات» الترشيد، التوحيد، السيطرة «تظهر وحدها، بل والخسائر أيضا» الاغتراب، خيبة الأمل، الإزاحة»، ليصل إلى القضاء على التنوع الثقافي ممثلا شكلا من أشكال خيبة أمل العالم، بهذه النظرة القاتمة يمكنني أن أتعاطى مع ما سميته «جدل هوية الحجاز»، وكنت سأفرح لو أن هذا الجدل، تحول إلى حوار علمي، داخل اطر القيم الأخلاقية سواء الدينية أو الإنسانية بشكل عام، بحيث ينأى عن المفاضلة والسباب وما إلى ذلك من موبقات وإسفاف، وينحو منحى ايجابيا يكرس، قوة التنوع وفهمنا لماهية الخطاب الديني الذي يشرع الاختلاف الثقافي ويعزز «التنوع في إطار الوحدة» كمعطى من معطيات القوة والكمال والجمال إن شئت. المشكل الحقيقي يا صديقي أن (الغالبية العظمى) لا تقرأ، ولا تعرف ما هو مضيء في قراءة التاريخ، وما هي تحولات التاريخ وماذا تصنع الجغرافيا في التبادل الثقافي والتلاقح الحضاري بين الشعوب والمجتمعات، وبالتالي اكتسب مفهوم «الاختلاف الثقافي» شكلا مختلفا، يعزز ما تنبأ به هنتنجون في أطروحته المزعجة «صدام الحضارات» عام 1993 والذي حسب رؤيته، أن الفروق الثقافية تعتبر ثابتة ومولدة للتنافس والصراع، وفي نفس الوقت هناك فهم شائع مفاده ان الترابط العالمي المتزايد يؤدي إلى تزايد توحيد المقاييس والمعايير الثقافية كما هو الحال في الاكتساح العالمي للنزعة الاستهلاكية. حق تمثيل الهوية يتأتى من استيعابنا لماهية الهوية وكنهها بمنأى عن صراع الهويات الذي تجاوزته مجتمعات لا تملك قدرا يسيرا مما نملك من خطابات مغمورة بما هو إنساني ونبيل، هذا المفهوم الذي استفاض فيه الجميل أمين معلوف في «الهويات القاتلة»، وهو الكتاب الذي كم أتمنى لو أنه يدخل المنهج الدراسي العربي، إلى جانب عدد من الأعمال الفنية التي صبت في هذا الاتجاه. مشكلة بلداننا الكبرى يا صديقي تكمن في الجهل، وحينما يتماس هذا الجهل مع الكبر/ التكبر وتغلفه إطر العنجهية الجوفاء، تقع الكارثة!
> سبقت إلى طرح موضوع العنصرية في الأدب الروائي السعودي، وهو إضافة إلى غيره من عيوبنا الاجتماعية، نلامسها ولكن لا نواجهها ولا نعترف به؟
- لست وحدي، عدد هائل من الأعمال الفنية، في كل العالم، تطرقت لهذا الداء البشري المعيق للوصول إلى حالة حب، تكفي الكون، وتجنبه الاحتقان، أو تقلل من مساحة القبح والكراهية في أرجائه، أما حكاية الاعتراف، فهو موجود الآن بكل جلاء وصفاقة عبر (السوشال ميديا)، وعبر بعض الخطابات، وفي كل الدنيا، وكأن الإنسان ورغم كل ما تراكم عبر التاريخ، لم يتعلم شيئا حتى الآن، داء العنصرية في كل مكان، يتفاقم بنسبة وتناسب، مختلفا من مكان لآخر، طبقا لسيادة القيم، أو ردع القانون، ولكن يبقى الرهان في البدء والنصف والخاتمة على وعي البشر، وأجدها فرصة، لأؤكد أن ما يحدث من جدالات (الكترونية) في سياقات عنصرية/ إقصائية، وسطحية متناقضة، أمر ليس بجديد، كل ما حدث أنه توفرت منصات أتاحت لما كان يقال همسا خلف الجدران، أن يعلو، لكن أطمئنك أن ما يصدر من فئة أظن أنها محدودة، بل ربما تكون قاصرة، ولا تعرف كثيرا مجتمعهار في عمقه التاريخي، الذي كان إرداة الهية، وما إلى ذلك من تفاصيل الحكاية الإبراهيمية.
النفس العنصري، شيء من المشاعر، لا يمكنك أن تستأصله، لتحول دون تحوله إلى سلوك يمارس في الشارع، وهذا لن يحدث في تصوري، لأن المجتمع في عمومه لا زال بخير.
> تنتمي أعمالك إلى الطرح الفني والحسي الذي يفوح منه شذا المحلية العبق، لا يزال تاريخنا المحلي مليئا بقصص الإنسان والمكان، ولكنه إما غائب ومفقود في أعمال الأدبوالدراما، أو متورط في صراع الساحة المحلية مثل ما يحدث للعاصوف اليوم؟
- هذا شيء طبيعي لمجتمع لازال يتخلق حتى الآن، ولم تترسخ فيه مقومات الحياة المدنية بكل حمولاتها القيمية، والفن (أدبا كان أو دراما) لا يستوي في مكانه الصحيح إلا في مجتمعات تجذرت فيه قيم الحرية «بمعناها العلمي والعميق»، وتعرف على أسس، ومفاهيم وماهية الدراما، نحن مجتمع لازال فيه قطاع عريض من الناس ومنهم منتمون للحقل الثقافي، يخلطون بين التراجيديا والدراما، وهو أمر لا يدعو للضحك، قدر ما يثير الأسى، لك أن تعرف أن غالبية من الناس تظن أن المسرح هو خشبة للضحك والتهريج والسخرية من أشكال الناس وألوانهم، بل إن تلفزيونا رسميا لا يتورع في عرض مسلسل تسخر إحدى شخصياته من اعوجاج لسان بعض الناس في المجتمع لا يتحدثون العربية بشكل جيد، لأنها ليست لغتهم، وبما يكرس فهما مغلوطا لطبيعة الدراما، يكفي أن يدخل أحدهم لمتابعة مسرحية، ويخرج في منتصفها بدعوى (ما تضحك)!
لا زلنا يا صديقي مجتمعا ينمو، يفتقر لتقاليد فنية، وأدبية، وإداراك لماهية الفن ومعناه، وهي كلها أشياء يراهن البعض، بأن الأجيال المقبلة قادرة على تجاوزها.
> هل ترى أن مدينة «الطائف» التي ولدت بها، أخذت حقها من كتاباتك؟
- أعود ثانية للتأكيد على أن المبدع ليس برحالة أو مؤرشف، لأقول بأنني أكتب وكما نصح تشيخوف تلميذه جوركي (لا تكتب إلا ما تعرف)، نعم ولدت في الطائف، وعشت جزءا يسيرا من طفولتي فيها، لكن تظل مكة هي التي ملأت وجداني، صاغته وعبأته بالحكايات، ومن المدينتين أنطلق لأفق أكثر رحابة، يعني بالإنسان أولا/ الحياة، دون إهمال مقومات المكان وتأثيره في تشكله، ونضجه، وملء وعيه بالأسئلة والشغب والشغف معا، وهي بالضرورة عندي أسئلة وجود ومواجهة ومقاومة لكل ما هو مؤس وقبيح.
> قد يشهد نادي الوحدة المكاوي نقلة نوعية الأيام المقبلة، هل أنت متفائل اليوم بمستقبله أفضل من أي وقت سابق؟
- أرجو لهم التوفيق، فهم يمثلون امتدادا للبنة الأولى للممارسة الرياضة في بلادنا، ومتى ما وعوا ذلك وأدركوه جيدا وعميقا، يمكنهم أن يعودوا لقمة الريادة مجددا.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق