التخطي إلى المحتوى الرئيسي

العلا: استثمار الماضي لتحقيق وعود المستقبل

في العلا، المحافظة الشمالية السعودية، يمكن اختبار مستوى وقيمة ما تعيشه المملكة العربية السعودية اليوم من تحولات، وحجم استعدادها لمشوار التغيير الذي تبنته مؤخراً وقطعت فيه أشواطاً واسعة نحول توجه رؤيوي يستنهض الإمكانات المحلية، البشرية والمادية، ويؤسس لمستقبل حاشد بالوعود والأهداف .

كان يمكن لهذه المحافظة أن تستمر في عاديّتها، مثل كل المدن السعودية التقليدية، يخترق الهدوء تشكيلاتها الجبلية والصخرية البديعة، بلا نية للحراك والتحوّل، لكن الهبّة السعودية الأخيرة جعلت محط أنظار العالم، ومحل اهتمامهم، إذ يفد إليها الناس من كل فجّ عميق، رغبة في اكتشاف كنوزها التاريخية، والاستمتاع بما حوته أرضها وفيافيها من هِبات الطبيعة وصنائع التاريخ .


في موسمها السنوي الدي يحمل اسم " شتاء طنطورة " وهو اسم مركب يجمع بين الفصل الذي تقلم فيه الفعالية، في الشتاء حيث تصبح المدينة أليق مناخاً وأنسب طقساً، وقطعة الجبل الأشمّ الذي كان يستخدمها قدامى الناس ساعة شمسية تضبط حياتهم وتوزع مواقيتهم، تدعى " طنطورة " وهي مزولة شمسية بشكل هرمي يعتمد عليها أهالي محافظة العُلا للتعرف على دخول موسم الزراعة، وكذلك التعرف على الوقت وتغير فصول السنة، وهي نقطة يجتمع عندها الأهالي قديمًا للاحتفال بموسم الزراعة.

للعام الثاني فقط تقام هذه الفعالية، لكنها أصبحت علامة سياحية وثقافية مهمة في حسابات السعوديين والعالم كله ممن يفِد باستمرار طوال مدة الموسم، يستمتعون بالباقات المختلفة الذي يتيحها البرنامج، ويجدون بين تخوم المدينة الناهضة من كبد التاريخ، مستراحاً وفرصة للاتصال بالطبيعة البكر وقضاء أوقات عميقة من التأمل والهدوء والاستشفاء الروحي .

الكثير من الفعاليات المقامة، نصب لها الخيام التقليدية والعصرية بين حشد من الجبال، تشرف عليها وتمدها بقوة الهدوء الذي يناسب إلى النفس، وقد صممت مواقع الموسم بعناية تحتفظ بوهج الطبيعة ولا تكسرها حدة العصرنة التي قد تطغى عليها وتنزع منها معنى الارتماء المقصود في حضن الطبيعة والاستسلام لتأثيرها الفطري .

في العلا، يمكن أن تتعرف على مختصر عن السعودية الجديدة، التي تنهض معتدة بتاريخها، وما كنزته أرضها من تاريخ وعراقة وأقدمية، وهي تتطلع إلى مستقبل عصري متحضر وأكثر مدنية، يستوعب كل منتجات العالم الجديد ويهضم تفاصيله البالغة الحداثة .

ولعل استقبال ولي العهد السعودي محمد بن سلمان لضيفه رئيس وزراء اليابان شينزو آبي في مخيمه الشتوي بمحافظة العلا، في خروج عن البروتوكول المعتاد باستقباله في قلب الصحراء، على أنغام سامريّة تمثل فلكلور أهل المنطقة، تجسيد لهذا المعنى وتقريب لهذا المفهوم الذي تستبطنه السعودية في رحلتها الدائبة نحو المستقبل .
تستثمر السعودية في تنوعها، في ثراء طبيعتها، في عراقة أرضها، في العلا حيث الآثار القديمة التي تعود إلى أكثر من 300 سنة قبل الميلاد، وهي من ضمن المواقع الأثرية المسجلة بمنظمة اليونسكو، وهي عاصمة الأنباط الثانية قديما، و مناخها قاري حار صيفاً وبارد شتاءً يتبعها قرابة 300 قرية.
وهي واحدة من هذه الفرصة الغنيّة التي كانت تحتفظ بها السعودية لساعة مثل هذه، وتفجر طاقاتها مثلما فجرت في تاريخها المعاصر آبار النفط ومولت نهضة البلاد ومشاريع تنميتها .

تراهن السعودية اليوم على نفطها الجديد، وتعيد استدعاء الماضي العريق الضارب بجذوره في ترابها، وعلى هذا النحو تفعل في الكثير من المناسبات المختلفة، السياسية والثقافية والرياضية والفنية، التي حولت السعودية إلى قبلة مهمة في الكثير من المجالات ومنافساً محورياً في العديد من الفضاءات التي كانت مؤجلة أو مهملة قبل أن تنهض رؤية قيادية جديدة وتعيد استنطاقها وتفعيلها من رفوف التجاهل.

ولعل المسابقة العالمية، رالي داكار ٢٠٢٠، الذي أقيم في السعودية وختم فعالياته مؤخراً، استمرار في هذا الطريق، سيما وأن المنافسة التي كانت تنقل عبر العالم من الفضائيات المفتوحة ومئات الصحفيين المشاركين في تغطيته، كشفت عن حجم الثراء الجغرافي والتضاريسي الذي تتمتع به المملكة، وتناقل رواد مواقع التواصل عبر العالم، صوراً ومقاطع ولقطات فريدة من طبيعة المملكة وكنوزها التي تجمع بين الأصالة والعصرية، وكان أفضل فرصة لإلقاء الضوء على هذه الممكنات الثمينة التي تنتظر مستقبلاً واعداً من الاستثمار والتأهيل والتقدير الوطني والعالمي.
يعمل هذا النوع من البرامج والمشاريع في محافظة العلا وسواها من المدن السعودية على تأهيل المنطقة وأهلها وتراثها والاستثمار فيها في إطار تجهيز المجتمع لواجبات رؤية المملكة ٢٠٣٠ الطموحة .

وخلال زيارة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى فرنسا في 2018 تم التوقيع على اتفاقية بين حكومتي البلدين حول مشروع تطوير محافظة العلا، ويسلط هذا التعاون الضوء على رؤية مشتركة بين البلدين لحماية وتعزيز التراث الثقافي، وتعزيز المعرفة العلمية، وفتح طرق جديدة للسياحة المستدامة حول هذا الموقع الأثري الفريد.

في فبراير 2019 أطلق الأمير محمد بن سلمان رؤية العلا التي تهدف إلى تطويرها بطريقة مسؤولة لتحويها إلى وجهة عالمية للتراث، مع الحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي في المنطقة بالتعاون مع المجتمع المحلي وفريق من الخبراء العالميين، وتسهم الرؤية بـ120 مليار ريال من الناتج المحلي التراكمي.

ومؤخراً، احتفى وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن فرحان بمشاركة 2300 متطوع في " برنامج حماية " وهو مشروع حراس البيئة والآثار والطبيعة من ابناء وبنات العلا ، فضلاً عن برامج الابتعاث التخصصي لخدمة برامج وفعاليات المدينة وفرص التوظيف التي استحدثت في إطار التحول الذي تشهده، والوعود المستقبلية الحبلى بالخير العميم والنقلات النوعية التي ستشهدها العلا مثل بقية مدن ومناطق وأنحاء السعودية في ظل رؤيتها الطموحة والمتفائلة.



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...