المدارس الحركية قضت وقتا طويلا وهي تنفث أطروحاتها المتطرفة في بنية المجتمع العربي بكل أريحية وانفراد.
الثلاثاء 2020/02/25
عاشت المنطقة العربية والدول المركزية فيها، نتائج وتبعات العام 1979 السياسية والفكرية، وهي تبعات لم يكن ينقصها الدم والتطرف والتخلف الذي قاسته المنطقة لعقود، كانت خلاله مرحلة السبعينات بكل أحداثها المفصلية والتاريخية هي الممول الفكري لمنعرجاتها الدقيقة والحرجة.
اتقدت العواصف أول الأمر بصعود الرمزية السياسية الشيعية إلى سدة حكم الواجهة الشرقية من مياه الخليج العربي، بالتزامن مع انفعال المكون الإسلامي السني في بلدان شرق الخليج العربي، الذي تبلور في حالته الطفيلية بمصر، يوم كانت منارة التأثير العربي الأبرز، ثم انزلقت حالة التطرف الفكري إلى حواضنه المحلية في كل من دول الخليج وشمال أفريقيا.
ووجد طوفان التطرف والإسلام الحركي والراديكالية الدينية، في حالة الانغلاق السياسي وانسداد الأفق وعجز الحكومات عن تلبية الحاجات المعيشية والاجتماعية، بيئة مواتية ومناسبة لتبنّي مفرداته المتطرفة ومفاهيمه شديدة الانغلاق.
التحمت عواصف التشدد الفكري مع واقع متعطش لمخرج من انغلاقه واندحار مبررات التقدم لديه، بعد أن بارت سلع وبضائع الكيانات القومية والوطنية والاستقلالية، وقد استنزفتها هياكل حكم سلطوي ارتهن لحاجات المتنفذين فيه، وتجاوز قيمه المؤسسة وشعاراته العريضة.
اتخذت المملكة العربية السعودية من العام 1979 محددا تاريخيا لنقض هيكل هذه التبعات التي جثمت لعقود على صدر السعوديين، وأعاقت حركة المجتمع الطبيعية والعفوية نحو واجبات التنمية، وحقه الشرعي في مواكبة الزمن وموافاة حداثته ومعاصرتها.
ما أحدثته خيارات السعودية الجديدة في بنية التشدد الديني والتطرف الفكري كبير، لاسيما عبر تفكيك ارتباطه المزمن مع الواقع الاجتماعي، واستهداف جذوره الضاربة في أعماق الذهنية الجماعية التي ترسبت فيها مدخرات التشدد القابل للانفعال مع كل صدمة، واندلعت مواجهات حاسمة في جبهات اجتماعية وفكرية ودينية كانت مؤجلة أو مهملة في خانة الخوف والتردد وخشية ردة الفعل.
تلعب السعودية دورا مهما ومركزيا في بناء مستقبل المنطقة على الصعيد الفكري، عبر تفتيت بنى التشدد في الوعي العام العربي والإسلامي، وتحمل مسؤولية قيادة المنطقة إلى مرافئ مستقبل أقل تورطا في مناخات التطرف، وموانئ الوصول الآمن من حرائق التشدد وميليشياته التي نهبت أعمار أجيال المنطقة وحرمتها حقها في التقدم والحداثة والنمو.
لقد قضت المدارس الحركية وقتا طويلا وهي تنفث أطروحاتها في بنية المجتمع العربي بكل أريحية وانفراد، وكانت المخاطر غير منظورة بالنسبة للفاعلين في الوسط الاجتماعي والثقافي، فيما كان الوعي العام يعادُ تصميمه على أساس الهوس الذي ينمو في صدور الحركيين ويتّقد في أذهانهم.
كما أن النفس الإقصائي الذي لازمهم زمن السطوة، مكنهم من إلغاء كل الأطروحات المنافسة وتجريف المجتمع من قدرته على استيعاب التنوع والسلاسة في التعاطي مع ثراء الأفكار والاتجاهات، الأمر الذي أفقده النضج وأكسبه توترا تلقائيا تجاه الأفكار الجديدة والمس بوعيه الجمعي. إن مجتمعاً مؤسساً على هذه القواعد الحادة، هو بحاجة إلى عمل مكثف وعميق ليتحلل من قبضة التشدد.
لا يزال المشوار طويلا، ومعارك النفس الطويل عرضة للانهيار في كل لحظة، كما أن الخيبات التي تعترض في الطريق تنعش قدرة التشدد على العودة، لاسيما وأن أفكاره المحورية تحتفظ بحيويتها حتى الآن، في ظل واقع متهافت يستدعي التشدد ويبرر له.
ولعل بعض المواقف العابرة تفصح عن حجم التشدد المكنون والنائم في المجتمع العربي، حتى تحين لحظة استثارة جديدة تعيده إلى الواجهة وصدارة التأثير واستعادة مناطق نفوذه التقليدية والأخرى المتاحة.
هناك مهمة حتمية لمواجهة جوائح التشدد، وخطوة ضرورية للنجاح في هذا المشروع الملحّ، وهي بناء شكل فكري مكتمل وقابل للنمو، يلبي حاجات الزمن الراهن، ويرفع عن المجتمع كاهل التوقف عن النمو وأعباء التخلف المريرة، وسوى ذلك ستظل الجهود مجرد ردات فعل، وملاحقة مرهقة لبؤر التطرف على حواف الفوّهة السخية بالنيران التي لا تنوي الخمود ولا التوقف. المجتمع بحاجة إلى معمار فكري ومنهجي واضح ولائق بمستقبله المنتظر وإلا التهمته جائحة جديدة وقفز على واقعه جاثوم آخر.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق