لرجل مثلي جرّب الموت حياً مرات كثيرة ، لم يدوّي في قلبي مؤخراً خبر وداع شخص كرحيل " مصلح " الذي أعرف عنه أكثر مما أعرفه فيه ، والأمر نفسه بالنسبة لديار تسمع بالموت بعدد مرات الأذان الثاني لكل جمعة ، ولكن رحيلاً من هذا النوع استوقفها ، وجمعها على قلب رجل واحد ، قلب منكسر ، يكتم الألم ويتلوّى في رمضائه .
وأهله وخاصته يوارون ذلك الجسد النحيل ثراه ، أجول ببصري في الوجوه الكالحة ، فيما يبدو زملاء فصلهيقفون بعيداً وكأنهم يعتذرون عن رؤية صاحبهم يختفي تحت التراب دون نية للرجوع ، ثمة كلمة لم تقل بعد ، اعتذار ، قبلة ، فات الفوت وسبق الموت .
منكسرون ، تحت أرديتهم البيضاء والحمراء ، لمحت أحدهم يغالب دمعته ، ربما يدافعها لأن نزولها اعتراف بالخسارة ، وإيذان بنهاية قصة صديق لا يتعوض ، وابن حارة ثمين ، مسالم ، أرق من النسمة وأطيب من قلب أم .
يبدو السؤال بادياً على ملامحهم الغضّة ، ملامح لا تعرف طعم الموت ولا لونه ، لأن الشباب أكثر أوقات العمر نفوراً منه أو أكثر أحواض الحياة حياة لا ينبت في ترابها الموت ، لكن الأجل شوكة لا تعترف بالترتيبات الزاهية .
صباح اليوم التالي سال حبر زملائه على الورق ، فيما الدموع تنثال من أعينهم ، ينقل هذا " أبو وجدان " الذي صادفته الأوراق مغسولة بدمع الأسى والألم ، يقبع كرسيه خاوياً إلا من الوجع على فراقه ، طاولته التي انتظرته انحنت من قسوة الصبر ، وملّت صبرها .
في مدرسته كان آية في الأخلاق ، مفعماً بحب الخير لرفقائه ، عندما سافر زميله " مشعل " لمسابقة في الرياض ، شجعه مصلح ، لقد كان يحمل قلباً واسعاً لغيره ، مكتظاً بسحر الإيثار ، وناشده أن يستمر ويدأب للفوز والوصول ، أرجو لمشعل أن يفعل على الأقل من أجل مصلح وكلماته الصادقة .
في المقبرة حدثني شخص لا أعرفه والدمع يملأ محاجره ، أن الولد كما يقول مثال في الأدب وطيبة القلب وحب الخير للجميع ، وأنه مميز وذكي وعبقري ، كان يتحدث بلا توقف وأنا أتصفح وجوه زملائه ، ويتسع الشعور عندي : أي مصلح فقدوه ؟!
عن وجوه إخوانه لا تسأل ، حمل ثقيل ووجع يكفي لدهر .
لا يمرّ الأمر بسهولة ، وأنت تفقد أخاً كان وجوده يضيء أيامك ، فيطفيء الموت فجأة ذلك الوجه المتوضيء بالصدق ، ولا يكون مفهوماً أكثر عندما يكون الموقف خالياً من مقدمة تهدئ الروع ، ولا يبقى سوى الصمت وحيرة تتأجج داخلنا ، وتكسو وجوهنا تعابير الوجع الممضّ .
كثير على الأخ أن يفارق شقيقه وقسيم لياليه ، ولا تكون قطعة الحياة السابقة بعد ذلك إلا وبالاً من الذكرى ونبالاً من الألم ، وتصبح الأماكن التي جمعتهم فيما مضى وكأنها سهام من وجع تتعرى من حسنها وبهائها ، وتتجهم الحسرة في ملامحها القاسية .
سريرك الآن لم تعد مجرد زاوية مفضلة من البيت نتسابق وربما نتعارك عليها ، أصبحت لوحة من حزن ، مكان جلوسك المحبب ، عاداتك اليومية ، كلماتك الخجولة ، أوقات ذهابك وإيابك كل ليلة ، لقبك الذي نعيّرك به ، المشوار الأخير معاً ، كل ذلك ركام من الألم أصبح جاثماً على صدور إخوانه ، لهم الله .
من سمع " بمصلح " وهو لا يعرفه ؟ أتظن خبر حادث مروري أودى بحياة شاب كافياً ليصبح مسموعاً ومعروفاً إلى هذا الحد ، أتظن قصة وفاة شاب ما ، سبباً مؤثراً في دفع جموع غفيرة لتشهد جنازته وتشيعه بالدموع ، أم وراء ذلك سرّ دفين وأمر مكين .
وبعيداً عن التألي والادعاء ، سأصف بعضاً مما لمسته ليلة دفن الشاب الذي أسمع خبره أطراف البلد ، وشهد له القريب والبعيد ، وأراد كل أحد أن يكون جزءاً في إحصاء حسناته وعدّ مزاياه .
لا يحدث هذا مع " مصلح " كعادة العرب يوم يموت صاحب ذكروه بالخير ، لكنه يحدث بصدق ، كصفحة بيضاء لم يلطخها صاحبها بغبار السوء أو دخان التقصير .
ربما لم يعش طويلاً بما يكفي ليترك أثراً واسعاً على الأرض يرقب من خلاله أي مصير ينتظره ، ولكن بقايا ما خلفه أكبر من قدرتنا على الفهم وأكثر مما يحتاجه شاب في عمره ، لعله التوفيق يحفّه ويعانق خطواته .
كم من شاب فتح حساباً على هاتفه وأغرقه بما يخجل منه الناس ، ومصلح لم يفعل ، إذ رافقته عناية الله ، أن يجري كلمات ملؤها الطيب والوصية بالخير .
وهو في كل حالاته واختياراته كان يوصي بالمعروف ، وكأنه يتسربل قدره الذي يدنو في كل مرة يتقدم فيها شبابه .
بعض ما بثّه أشبه ما يكون بعقد صفقة مع الأوفياء من أصحابه ، أن لا ينسوه يوم تحلّ مناسبات يحب أن يكون جزءاً منها ولو في الدعاء وتلاوة الأصدقاء ، وأرجو أن يستمر هذا النبيل معقوداً بين كلماتهم وساكناً في دعواتهم غير ضاعن .
لم تكن عباراته تخاطب المستقبل وكأنه لا يؤمل عليه ، بل يخاطب الأصدقاء وكأنه يستكمل عمره بوفائهم ، أيكون أصحابه على قدر ما كان عليه من النبل والخلق والشهامة .
لا تثريب عليك يا أم مصلح !
أتحبين أن يذهب ابنك متعافياً من ذنوبه ، غضاً طرياً ، قصير العمر حسن العمل مشهود له بالمعروف ، أم رجلاً كاهله مثقلاً بالصحائف والمواقف ، لك البشرى أن تلتقيه بالجنة إذا لقي الله منك الرضى والقبول الحسن .
والموت مصير كل حيّ ، ونهاية كل شيء ، والعاقل من عرف ذلك وأحاط به فهماً ، وإن يمت فرد قليل حسابه خير من عيش طويل وعمل ثقيل وأمل قليل .
تعليقات
إرسال تعليق