آخر تحديث : الخميس 30 أبريل 2020 - 06:38 GMT
لا تزال ردة الفعل الأيديلوجية تجاه جائحة كورونا تسيطر على عدد من رموز وجماعات الإسلام السياسي والتدين المؤدلج ، يتقاذفون مبرراتها وكأنها هبة من السماء لاستعادة أدوارهم والانتقام من خصومهم وبسط الأرض لنفوذهم ، في تكرارية من التوظيف الذي برعوا فيه طوال تاريخهم المثخن والزاخر بالتألي على الله والعبث بالذهنية الشعبية وربطها اعتسافاً بأجندتهم المخبوءة أو المعلنة .
بدأ ذلك مبكراً منذ انتشر مرض كورونا في الصين ، ردد المؤدلجون كعادتهم(إنه العذاب الإلهي) نتيجة سلوك الحكومة الصينية مع مسلمي الإيغور واضطهادهم ، لكن الفايروس لم يمهلهم حتى انتشر وتفشى في أغلب بلدان العالم وأحاط بكل البشر على اختلاف أعراقهم ودياناتهم وخلفياتهم وحتى سلوكهم السياسي .
في السعودية ألقت النيابة العامة القبض على مجموعة من المخالفين لإجراءات رسمية اتخذت في إطار جهود مكافحة تفشي فايروس كورونا ، من بينهم إعلاميين ومشاهير وناشطين استخفوا بقرارات الحظر الجزئي التي اتخذت ضمن التدابير والاحترازات الاستباقية .
ومن بين المقبوض عليهم حسب بيان النيابة ، أشخاص استغلوا وسائل التواصل الاجتماعي في التأول على الله والإرجاف الديني بسبب فيروس كورونا، واختلاق مسببات عقابية وتأثيمٌ آثم واسقاطات تحريضية مُدلِّسة، ووضعتهم تحت طائلة المُساءلة الجزائية المشددة .
يبدو الخبر منسجماً مع روح الأداء والإصلاح الذي تتخذه السعودية ويمسّ الكثير من القطاعات الثقافية والاجتماعية والبيروقراطية ، وألقى بظلاله على تقليد قديم كان يحاول حقن التدين الفطري للمجتمعات العربية بالتأويلات المؤدلجة وإثارة توتر الناس وحساسيتهم تجاه ما يعتقدونه ضرورة لبناء ذهنية اجتماعية مواكبة لأجندتهم الحركية .
المجتمعات العربية التي تعالت على هذا النمط من الخطاب المتوتر ، تبدو الآن مستعدة تماماً لمقاومته ، ومواكبة جهود رسمية من هذا النوع تساعد في تطويق المشروع الحركي وخطابه الأيديولوجي والتخفيف من حدّة تغولهم وإعاقة تقدم المجتمع نحو استحقاقاته المستقبلية دون أعباء أيديلوجية تثقل كاهله .
من بوابة الفايروس المستجدّ " كورونا " تود بعض المعسكرات الحركية أن تستعيد دورها وحضورها في المجتمعات العربية ، ولكن تبدو المجتمعات الشابة منتبهة وغير مكترثة بخطاباتهم الاسترجاعية التي كانت تراهن على إلهاب العواطف واستثمار الأزمات لتفتّ في تماسك السردية الإصلاحية وتغرز أسافين للعودة إلى الوراء .
وكان واجه رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر حملة استخفاف وسخرية زادت من تهديد مكانته الدينية المتآكلة ، بعد دعوته شيعة البلاد إلى عدم الالتزام بالقرار الحكومي بمنع زيارات المراقد الشيعية وحثهم على إتمام زيارة مرقد الإمام الكاظم ، الأمر الذي عرّض آلاف المتدفّقين منهم على مدينة الكاظمية شمالي العاصمة بغداد، لخطر انتشار الفايروس القاتل في البلد الذي لا تنقصه الويلات التي جرّتها عليه الواجهات الدينية المتنافسة على استغلال الدين وتوظيفه .
فضلاً عن عشرات الفيديوهات للمجالس الحسينية التي يقيمها أصحاب عمائم ، ومنها فيديو لقارئ المنبر علي السماوي يقول فيه إنه مستعد لتقبيل فم المصاب بالوباء، إذا كان قد قبّلَ هو شبّاك الإمام الحُسين ، وتظهر تهاوناً بخطر الفايروس واستخفافاً بأرواح أتباعهم .
قرار إغلاق المساجد وأماكن العبادة نفسه أثار حنق بعض المؤدلجين في تركيا والجزائر والمغرب ، يشنّ جماعة من المنتمين لجماعة الإخوان، حملة مستمرة منذ أيام على حساباتهم في تويتر ضد هذا القرار، ووصفه بامتداد للحرب الدولية على الأمة ، وصدرت فتوى مطولة ببطلان إغلاق المساجد ومنع الصلوات وتفسير ذلك على أساس مؤامراتي في استمرار لعجز الفكر الإسلاموي عن فصل المجالات والارتهان لهواجسه المزمنة والتفريط في أوّلية الإنسان وسلامته على رأس هرم مقاصد الشريعة .
ومثله فعلت حركات ورموز إسلامية في المغرب والجزائر وعدد من الدول العربية ، وقالوا بأن "دواء الطاعون في فتح المساجد لا في إغلاقها".
لم تكن تجارة الوهم هذه حكراً على أحد من أرباب التدين المؤدلج من كل الديانات ، إذ ظهر أحد القيّمين على كنيسة في فيديو فوق منصته بأحد الدول العربية يتهم الشيطان بالمسؤولية من وراء مخطط فايروس كورونا ، وأنه يهدف لجعل الناس قلقين من تناول " الملعقة " التي لديه وترك تقبيل يد الكاهن وعدم أخذ البركة منه ، والكف عن زيارة الأيقونات ، وحثّهم رجل الدين على النجاة من الوقوع في فخ الشيطان الذي يهدف لإبعاد الناس عن الكنيسة، وشجعهم على الاستمرار في التناول من نفس الملعقة.
لا حدود متوقعة لما يمكن أن تصل إليه الخرافة في الدفع بمصير الإنسان إلى الهلاك والخروج عن جادة التدين السليم والبعيد عن قبضة المتاجرين بالمشاعر الدينية لمصالح شخصية أو مكاسب حزبية ، ولعل الجوائح الخطيرة التي تهدد البشرية من هذا النوع تعزز من قيمة التدين الواعي وتعمّق أدوار الدولة الناصحة وتأخذ علي يد المؤدلجين وتخفف من وطأة خطاباهم الانتهازية .
وكان حذر وزير الشؤون الإسلامية في السعودية الدكتور عبداللطيف آل الشيخ من «الإخوانيين» المتظاهرين بالغيرة على بيوت الله بقصد إثارة الفتنة وزرع الشك في نفوس الناس تجاه العلماء.
وشبه الوزير عبر حسابه في «تويتر» ما يقوم به «الإخوانيين» من تشكيك في كل ما يصدر من العلماء من فتاوى ونصح ، بمواقفهم خلال أزمة الخليج في إشاعة الفوضى بين أوساط المجتمع ومحاولة تقويض اللحمة الوطنية.
بكل الأحوال ، من المقدر أن لا تنتهي عاصفة كورونا إلا وقد تركت تأثيرها في الكثير من ملامح الحياة وتقاليدها التي استقرت قبل أن تعصف بثوابتها وعرى تماسكها الجائحة ، تغييرات في السياسة والاجتماع والعلم وفي حالة التدين المزيف التي تعاني منها بعض المجتمعات المؤمنة.
تعليقات
إرسال تعليق