التخطي إلى المحتوى الرئيسي

«مجمع طباعة المصحف» يتوج جهوداً تاريخية لحفظ القرآن


آخر تحديث: الإثنين، ١١ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧ (٠١:٠٠ - بتوقيت غرينتش)مكة المكرمة - عمر البدوي 

< ما كان حلماً بالنسبة للمتقدمين من المسلمين، أصبح اليوم حقيقة واقعة في حياتهم، تنتشر المصاحف في العالم بلا نقص، مضبوطة من دون تحريف، سهلة التداول من دون مشقة، ويعود الفضل في ذلك إلى عدد من المبادرات النوعية التي تبنت مشاريع طباعة المصحف ونشره للعالم.
أصبحت حال المصاحف الآن أفضل من أي وقت سابق، إذ تزهو بحلة قشيبة وخط مزخرف، وطباعة بديعة، بعد أن كان إنتاج نسخة واحدة من المصحف قديماً يكلف قدراً من العناء والمشقة التي يجدها المسلمون الأوائل في تدوين القرآن الكريم حين كانت وسائل التدوين غير ميسورة، فكانت كتابتهم له في الجلود والعظام واللخاف، وفي حال أرادوا أن يحتفظوا بنسخة واحدة من القرآن الكريم المكتوب بالخط الكوفي الغليظ على هذه الأشياء الثقيلة فسيحتاجون إلى مكان واسع حتى يمكن حفظها فيه.
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف واحد من تلك المشاريع الضخمة التي تتنافس على الخير وتتقدم في هذه الفضيلة، إذ يجتمع له ما لا يجتمع لغيره، من توافد الناس إليه وهو الواقع بالمدينة المنورة منذ السادس من شهر صفر سنة 1405هـ (1984)، وجاء استمراراً لمسؤولية المملكة ودورها الرائد في خدمة الإسلام والمسلمين، واستشعاراً من الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - بأهمية خدمة القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة من خلال جهاز متخصص ومتفرغ لذلك العمل الجليل.
رحلة القرآن مضموماً ومتداولاً بهذا القدر من الانتشار والضبط قديمة، ومرت بكثير من التحديات، توفي رسول الله والقرآن كله محفوظ في الصدور، ومسطور في ما تيسر للمسلمين الأوائل من وسائل التدوين، فكان بعضه مدوناً على العُسُب وهي جريد النخل، واللِّخَاف وهي الحجارة الرقيقة، والرقاع وهي القطعة من الجلد أو الورق.
وقد اتخذ النبي كُتاباً للوحي، بلغ عددهم 43 كاتباً، وكان بعضهم منقطعاً لكتابة القرآن خاصة، ومن أشهرهم عثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت.
في زمن أبي بكر، وبعد موقعة اليمامة التي استشهد فيها 70 صحابياً من حملة القرآن، استشعر المسلمون تخوفاً ما على القرآن الكريم، دفعهم إلى التفكير في طريقة جديدة لتثبيت حفظه وتيسير تلاوته.
بعد جدال وأخذ ورد، دوّن القرآن الكريم للمرة الأولى في كتاب واحد يجمع بين دفتيه جميع آياته وسوره، ثم اختلفوا في الاسم الذي يطلقونه عليه، بعضهم اقترح «السفر»، وآخرون «المصحف»، واختار أبو بكر هذه التسمية، وصار هذا الاسم علماً بالغلبة على القرآن الكريم.
ظل مصحف أبي بكر في بيته حتى وفاته ثم انتقل إلى عمر بن الخطاب، ثم انتقل إلى دار حفصة أم المؤمنين بعد مقتل عمر وترك الأمر شورى بين ستة من أصحاب رسول الله، فبقي في بيتها إلى أن طلبه عثمان بن عفان، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ المصحف الشريف.
جاء زمن عثمان، فانطلق المسلمون إلى أنحاء الأرض ولكل منهم إمام في القراءة يأخذون عنه القرآن ويتعلمونه منه، وقد حدث أن التقى المسلمون من أهل الشام والعراق في بعض المغازي فاختلفوا في القراءة حتى كفر بعضهم بعضاً، فأمر عثمان على الفور بإحضار مصحف أبي بكر الذي كان قد استقر في بيت حفصة أم المؤمنين، وأمر بنسخه عدة نسخ، وأن يبعث إلى كل مصر من الأمصار بنسخة منه، واحتفظ لنفسه بنسخة سميت بالمصحف الإمام. ولا يزال الرسم العثماني معتبراً إلى يومنا هذا في كتابة المصاحف، لكن ثمة تعديلات طرأت عليه، وذلك في مرحلة جديدة من مراحل تاريخ المصحف.
شهد عصر الأمويين والعباسيين مزيداً من التحسينات التي سعى المسلمون من خلالها إلى تيسير تلاوة القرآن الكريم وخدمة المصحف الشريف، ثم شهد عصر العثمانيين علامة فارقة في تاريخ المصحف، وهي ظهور المطبعة التي اخترعها جوتنبرج في ألمانيا عام 1436هـ، ولم تلبث أن استقدمها العثمانيون إلى الأستانة بعد تحفظ فقهي كبير، إذ كان الفقهاء يفتون بحرمة طباعة المصحف والكتب الدينية. طبع القرآن للمرة الأولى في البندقية في حدود سنة 1530، ويذكر بعض الباحثين أن السلطات الكنسية أمرت بإعدام هذه النسخة، ثم طبع في هانبورغ سنة 1694 بإشراف المستشرق الألماني هنكلمان، وامتلأت بالأخطاء الطباعية وأخطاء أخرى.
وفي عام 1834 ظهرت طبعة فلوجيل التي لاقت رواجاً كبيراً في أوروبا، ثم ظهرت أول طبعة إسلامية للمصحف في سانت بترسبورغ بروسيا سنة 1787 وأشرف عليها مولاي عثمان، كما ظهرت في قازان العاصمة الحالية لمنطقة تاتارستان طبعة أخرى عام 1801 بإشراف محمد شاكر مرتضى أوغلو، ولم تلتزم بالرسم العثماني ولا ذكر أرقام الآيات.
وفي إيران ظهرت طبعتان حجريتان، إحداهما في طهران سنة 1828، والأخرى في تبريز سنة 1833.
وظهرت في الهند طبعات عدة للقرآن أولها الطبعة التي ظهرت في مدينة لكنو بالهند عام 1850، ثم طبع المصحف أيضاً في كلكوتا ونيودلهي، ثم طبعت الاستانة العاصمة العثمانية المصحف سنة 1877 بخط الخطاط الشهير الحافظ عثمان، الذي كان قد كتب بخطه 25 مصحفاً، وقد طُبِع مصحفه مئات الطبعات في مختلف الأقطار الإسلامية، وانتشر في العالم الإسلامي، وفاق الطبعات السابقة واللاحقة.
وفي عام 1984 أزيح الستار عن أكبر مؤسسة إسلامية عالمية لطباعة وخدمته، وهي مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، الذي أخذ على عاتقه مهمة طباعة المصحف الشريف برواياته المختلفة، إلى جانب ترجمة وطباعة معاني وتفسير القرآن الكريم إلى أكثر من 50 لغة من أهم وأوسع اللغات انتشاراً، وتسجيل تلاوة القرآن الكريم بأصوات مشاهير القراء، وإجراء البحوث والدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم والسنة المطهرة.

اليوم يمكن أن نجد وبسهولة مصاحف مفسرة على هواتفنا المحمولة، كما نحصل على نسخة من المصحف الشريف في كل مكان، وهذه السهولة واليسر الذي نجده الآن هو نتيجة جهد طويل بذله المسلمون في عصورهم وأجيالهم كافة للاهتمام والحفاظ على كتابهم المقدس الوحيد الذي يجمعهم ويربطهم بهذا الدين السماوي العظيم.



الرابط :


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...