مكة المكرمة – عمر البدوي
كان الحج فيما مضى يكلف المسلم الراغب فيه والقاصد لبيت الله الحرام ، مشقة وعنتاً كبيراً ، ذلك لأن السبل الحديثة لم تكن متوفرة كما هي عليه الآن ، إذ كانت رحلة الحجاج قديماً محفوفة بالمهالك والمخاطر ، وكلما بعدت المسافة زادت المشقة وكان الخطر محدقاً وأكثر دنواً بصاحبه .
الحج من أقدس الفرائض الإسلامية، التي يحرص المسلمون على تأديتها مهما كانت المصاعب والمشاق قديما قبل ظهور وسائل النقل العصرية، إذ في التقليد الإسلامي كلما بذل الجهد وتجشم القاصد بيت الله المتاعب والمشاق كان ذلك زيادة له في الأجر ومضاعفة له في الثواب .
لم تكن المشقة واقعة على الحاج فقط ، بل على أهل بيته وذويه ، إذ يودعونه وداع الغائب الذي لا تؤمن عودته ، وقد شاع في أدبيات الحج قديماً أن يؤدي الراغب بالحج ما عليه من الديون ويطلب العفو ممن أشكلت بينهم العلاقة ، وذلك لضيق التوقع بعودته ، وقد كان رد الديون والمظالم واجباً في الشريعة قبل أن تتغير الظروف ، وتضيق دائرة الهلاك بالراغبين في الحج والارتحال إلى مكة .
كانت تتم رحلات الحج على ظهور المطايا، في ظروف بالغة الصعوبة، تحمل أقصى ما يمكن استيعابه من المتاع والمؤن لتعينهم على هذه الرحلة الطويلة التي تستمر نحو خمسة أشهر، إذ تبدأ مسيرة القافلة المتوجهة إلى بيت الله الحرام بعد انقضاء عيد الفطر، في أجواء من البهجة الممزوجة بقلق وعورة الطريق، وقلة الماء، وخطر قطاع الطرق، إلى جانب انعدام وسائل الاتصال حينها ، وقد أصبح أهلهم يقلبون النظر في وجه السماء يترقبون ساعياً بالخبر من أرض الحجاز .
كثيراً ما كان الحظ يخيب بالعوائل المترقبة ، انتهى ببعض الحجيج من خاصتهم إلى الموت في منتصف الطريق أو أثناء الحج ، وربما بلغهم الخبر بعد شهور من حلول المصيبة وانقضاء الأجل ، وكذلك لو تم له الحج وفاز بوقفة عرفات ، فإن ذويه لن يعرفوا ذلك قبل أن تتبين مطالع قوافل الحجاج وهي تعود إليهم محملة بالخبر السعيد .
قديماً وأثناء موسم الحج كان ضعف وسائل التواصل يضعف كل عمليات الحج ، ووسائل السلامة ، ويصبح الحاج أكثر عرضة لكل المخاطر المحتملة ، كان الحجيج يمكثون في مكة قرابة الستة أشهر، وذلك بعد رحلة شاقّة وطويلة تستغرق أحياناً أشهراً للسفر من بلدانهم إلى مكة، حيث يبدؤون بالوصول في رجب ويمكثون حتى شهر محرم. وغالباً ما كان يتزايد ضياع الحجيج بين شهري رجب وشعبان، بحكم عدم معرفة الحجيج بالأماكن في بداية الأمر، ولكن مع الاقتراب من شهري ذو القعدة وذو الحجة، كانت نسبه التائهين تقلّ تدريجياً.
لقد كانت مشقة بالغة وعنتاً يلقاه كل أحد ، تغير الكثير من ذلك بمرور الوقت ، كان كل تقدم تحدثه البشرية في واقعها ينعكس مباشرة على ظروف الحج وتحسين شروطه ، كانت المنتجات والاختراعات تبزغ في طرف من العالم ويضيء بها العالم كله ، وفي القلب منه رحلة الحج التي داخلها التيسير في كل مرة .
كانت ظروف الحجيج تتحسن في ظل الاهتمام الذي توليه السعودية وقد أصبح الحرمين وتنظيم الحج حقاً رسمياً وشرعياً في عهدتها ا ، إذ أنشأت أول مديرية للبرق والبريد والهاتف في مكة المكرمة ، وفي العام نفسه جرت أول مفاوضات مع الشركات في الخارج لشراء أجهزة لاسلكية.
لم يمكن الحجاج من الاستفادة من خدمات الهاتف للتواصل مع ذويهم حتى العام 1955م ، إذ أفتتح الملك سعود بن عبد العزيز الاتصال الخارجي مع مصر وسوريا ولبنان ومع إمارتي البحرين وقطر عام 1964م ، بعد ذلك مع كل من الهند، وباكستان.
ساعد الهاتف في تقريب المسافات ، كانت الخدمة فتحاً عظيماً ، كانت جزءاً من تحسن الظروف بشكل عام ، كان السفر إلى مكة أسرع ، ودرجة الأمان أعلى ، والتواصل الحي المباشر ممكن أكثر من أي وقت آخر .
كان الحجيج يصطفون طوابير للاستفادة من خدمات الهاتف العمومي ، لم يتضايق أحد من هذا ، كانت الخدمة بحد ذاتها مكسباً عظيماً ، ولم تكن التوقعات ترقى إلى ما هو عليه الحال اليوم .
عام 1997 م صدرت موافقة السعودية بفصل مرافق البرق والبريد والهاتف عن الوزارة , وتأسيس شركـة مساهمـة سعودية باسم شركة الاتصالات السعودية للقيام بخدمات الاتصالات ، وبدأت الشركة أعمالها يوم 6 محرم من عام 1419هـ الموافق 2/5/1998م ٬ لتساعد الشركة في تطوير قطاع الاتصالات عموماً ، ومن بينها الحج .
نظرة واحدة على مشهد هذا العام ، توضح حجم الفرق ، وردم الهوة الواسعة في قطاع الاتصال والتواصل بين الحجاج وذويهم ، إذ بلغ إجمالي عدد أبراج الاتصالات بلغ أكثرمن 13 ألف برج اتصال، من بينهم 9 آلاف برج لشبكتي الجيل الثالث والرابع، بينما الباقي لشبكة الجيل الثاني، وذلك لضمان تغطية الاتصالات الهاتفية وتوسيع تغطية الإنترنت في مكة المكرمة والمدينة المنورة والمشاعر المقدسة.
أكثر من ثلاث مليون حاج هذا العام ، يتشاركون لحظاتهم وأدق تفاصيل حجهم مباشرة مع ذويهم ، تشرئب الهواتف لالتقاط كل صغيرة وكبيرة ، تشيع لقطات السلفي بشكل ضخم وواسع ، تطبيقات الهواتف اللحظية تشعل المواقع والتواصل بلا توقف ، لقد تغير وجه العالم ، أصبحت هذه البقعة الصغيرة تجتذب نظر العالم أجمع لأيام معدودات .
تعليقات
إرسال تعليق