آخر تحديث: الثلاثاء، ٥ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش){ جدة - عمر البدوي
< ولد علي عبدالله صالح لأسرة فقيرة في الـ٢١ من آذار (مارس) ١٩٤٢، ترك يتمه المبكر والتحاقه بأمه مع زوجها الجديد، ندوباً في قلبه، لكنه أشربه الحكمة في مساومة الحياة والتفاوض مع الظروف، ليخرج منها بأفضل النتائج والمكاسب، وهو الأسلوب الذي عاش به طوال حياته، قبل أن تحيق به خيانة حلفائه بعد أيام من افتراق غير جديد بالنسبة إلى رجل يبرع في فك الارتباطات أكثر من وصلها. رعى الأغنام، مثل بقية أترابه في قرية بيت الأحمر بمنطقة سنحان الصنعانية، وتعلّم في كتّاب القرية، قبل أن يغادرها للانضمام إلى الجيش عام ١٩٥٨.
في عمر الـ١٨ انضم إلى مدرسة الضباط، وبعد عامين شارك في ثورة الـ٢٦ من أيلول (سبتمبر) ١٩٦٢، ودافع عن صنعاء في صف الجمهوريين أيام حصار السبعين، وتدرج في حياته العسكرية وترقى في رتبها حتى وصل إلى قائد للواء تعز عام ١٩٧٥، بالتزامن مع الانقلاب الأبيض، الذي قام به الرئيس إبراهيم الحمدي، لينهي حكم الرئيس عبدالرحمن الأرياني، وكان فرصة لبروز نجم صالح.
كان الحمدي رئيساً إصلاحياً صاحب مشروع، عمل على بناء مؤسسات وتنفيد برامج إنمائية، ولكن مشروعه كان يصطدم مع البنى التقليدية، التي لم تكن ترتاح إلى توجهاته. وتم اغتياله في ظروف غامضة، وتولى أحمد الغشمي رئاسة الجمهورية، ولم تمض ثمانية أشهر حتى اغتيل هو الآخر بحقيبة مفخخة، وتولى عبد الكريم العرشي رئاسة البلاد موقتاً، وكان صالح في ظل كل هذه الأحداث الدراماتيكية يدب بهدوء على أرض أحلامه الشخصية، ونال إجماعاً بتسميته رئيساً للجمهورية العربية اليمنية، بعد أن انتخبه مجلس الرئاسة، الذي يتمتع بعضويته، فأصبح رئيس اليمن الشمالي والقائد الأعلى للقوات المسلحة اليمنية في الـ١٧ من تموز (يوليو) 1978، برتبة مقدم. وأول قرار اتخذه صالح في الـ١٠ من آب (أغسطس) ١٩٧٨ هو إعدام ثلاثين شخصاً متهمين بالانقلاب على حكمه، فيما بدا وكأنها الطبخة التقليدية لتصفية الخصوم والمنافسين وامتلاك أزمة البلاد وأمورها. وقام بتأسيس حزب المؤتمر الشعبي العام، الذي سيصبح القبضة المحكمة على اليمن، وتزامن مع سقوط الاتحاد السوفياتي ضعف موقف جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية، فاتفق علي سالم البيض مع علي عبد الله صالح، بعد سنوات من المفاوضات على الاتحاد، واعتبار صالح رئيساً للجمهورية اليمنية، والبيض نائباً للرئيس.
حكم التحالفات الهشّة
بدأ صالح صياغة طريقة عمل تمكنه من الانفراد بحكم اليمن، يدفعه إلى ذلك طلب السلامة من غيلة الخصوم، الذين يتقافزون على حكم البلاد، وهو ما جعلها عرضة للانقلابات في كل مرة. أفضل طريقة بالنسبة إليه كانت اللعب على بناء وفك التحالفات، بحسب الظروف المتغيرة، فأول ما شرع فيه إضعاف القيادات الجنوبية وتهميشها، بحيث لا يكون للحزب الاشتراكي تأثير في البنية السياسية اليمنية، وسرعان ما اندلع خلاف بينهما، ما أدى إلى اندلاع حرب ضارية بين قوات الشمال والجنوب في ١٩٩٤، انتهت بانتصار قوات الشمال، وانتخب صالح رئيساً لليمن عام ١٩٩٩.
وخلا له وجه اليمن السعيد، وبدأ في إعداد وصفة الحكم التليد، طبيعة البلاد القبلية ساعدته في حين، وكلفته في حين آخر إيجاد طريقة ما للتعامل مع كل هذه الشروط المختلفة لضمان استمراره حاكماً مطلقاً وأوحد لليمن الموحد. ولزيادة تحصين كرسي الحكم، ومواجهة كل النيات المتربصة به لإزاحته أو محاولة مشاركته في الحُكم، تخلص من قيادات في المؤسسة العسكرية لم تكن تُدين له بالولاء في بدايات حكمه، كما عزّز وضعه الداخلي بالاعتماد على العائلة والقبيلة، فباتت المؤسسة الأمنية والعسكرية حكراً على أفراد عائلته، وتولّى أقاربه المناصب الأساسية في قيادة الفرق الأساسية للجيش.
ونجحت تقريباً وصفته للبقاء في رأس السلطة أكثر من ثلاثة عقود، تعامل خلالها بمنطق «حكم اليمن كالرقص على رؤوس الثعابين»، ولم يسلم من بعض التنازلات التي كانت تفرضها الأوضاع الاقتصادية الصعبة في بلده، والآثار الطبيعية للحكم المطلق، والظروف السياسية الساخنة التي كانت في محيطه العربي والإقليمي.
واجه تحديات كبيرة بسبب احتدام الصراع على السلطة في البلاد من جانب الحوثيين في الشمال، والجنوبيين الذين يعتبرون أن الوحدة تمت على حسابهم، بجانب صعود تنظيم القاعدة في جزيرة العرب ونشاطه في اليمن، ولكنه نجح في تحويل دفة الأمور لمصلحته.
لم يكن اليمن فترة حكمه «سعيداً» كما يجري وصفه عادة، إذ انتشر الفساد في عهده، وصُنفت البلاد بأنها من أكثر دول العالم فساداً، وفق تقارير منظمات دولية. وقالت منظمة الشفافية الدولية إن قطاعات في الجيش ورجال أعمال سيطروا على الاقتصاد، وتورطوا في قضايا فساد عدة، وتذيلت اليمن قائمة منظمة الشفافية الدولية، وكان كل شيء في اليمن يوحي بالذبول، وكانت النتائج الطبيعية للحكم الديكتاتوري تظهر على وجه البلد المنكوب.
الراعي والرئيس والمخلوع والمقتول
< انفجرت الثورة في وجه علي صالح، بعد موجة الثورات العربية، التي انطلقت شرارتها من تونس، وبلغت نيرانها صنعاء، التي ضمّت ساحاتها نصف مليون متظاهر، يهتفون برحيل صالح.
كان صالح عنيداً لا يرفق بشعب أعزل إلا من أمنياته بالتغيير، بقيت الأحزاب السياسية متفرجة على الرصيف قبل أن يرغمها إصرار المتظاهرين على الالتحاق بهم، فشعر صالح بالخطر ووجه فوهة بنادق الحرس الجمهوري، الذي صمم لهذه اللحظة، لقتل المتظاهرين. تدافعت الأحداث حتى انفجرت قنبلة بجوار مسجد دار الرئاسة كادت تقتل صالح، الذي استنجد بالسعودية لعلاج الحروق، التي أتت على معظم جسده.
قدمت المبادرة الخليجية مخرجاً آمناً، يحافظ فيه الرئيس السابق على ما تبقى من بيضة اليمن السعيد، وجرت الأمور بسلام في يد الرئيس الجديد عبدربه منصور هادي، الذي أخذ يقص أجنحة صالح بقرارات إعادة هيكلة الجيش اليمني، حاول أن يتمنع ويماطل، ولكن مخرجات الحوار اليمني، التي تلقى دعماً إقليمياً ودولياً، تفرض عليه الانصياع مقابل الحصانة، التي حصل عليها، وفاز بحمايتها.
في الرمق الأخير من مرحلة التأسيس لحلم اليمنيين بخريطة طريق المستقبل، انقضت ميليشيا الحوثي الإرهابية على الشرعية اليمنية، التي يتمتع بها الرئيس هادي، وقضت على آخر آمال اليمنيين بالخلاص. جماعة الحوثي المؤدلجة، صغيرة وضعيفة إلى الحد الذي لا يمكنها من السيطرة على أطراف اليمن النائية، ولكن معونة الرئيس المنزوي صالح، الذي رأى فيها مطيته لاستعادة أمجاده، والانتقام من خصومه، ساعدت الحوثي على مطاردة الرئيس الشرعي هادي حتى غادر إلى السعودية، وطلب نجدتها في وجه أتباع إيران وأعوانها، التي تحالفت مع قوات صالح. تنازل طرفا الانقلاب عن ثأرهم القديم، بعد أن خيضت بينهما ست حروب منذ ٢٠٠٦ حتى ٢٠١٠، وجاء قدر الحرب السابعة ليجمعها في وجه اليمن كله. واخترقت طائرات عاصفة الحزم، التي شنها التحالف العربي لدعم الشرعي بقيادة السعودية، أجواء صنعاء، وبددت أحلام الذراع الإيرانية وحليفها الجديد صالح من تسليم العاصمة العربية الجديدة إلى عهدة طهران.
تستمر حرب استعادة الشرعية منذ ثلاث سنوات على وتيرة واحدة، حقق خلالها التحالف العربي سيطرة بنسبة 80 في المئة على الأراضي اليمنية، وكلما تقدم «التحالف» حسم من الرصيد الهش والطارئ لمصلحة صالح والحوثي وقلّص من تمدد الحلم السافر لهما.
ولما اقتربت نذر الهزيمة القاسية لميليشيات إيران في اليمن، استفاقت عروبة صالح في ملحمة الأربعاء، وشعر باشتداد خناق القبضة الحوثية عليه، فاستشاط غضبه، وفك ارتباطه، وأعلن عروبة صنعاء، واستنفر أتباعه للهجوم على الحوثيين وطردهم من صنعاء، ولكنه في ما يبدو استعجل في قطف ثمار هذه الخطوة، ولم ينتهز الوقت المناسب لإمضاء لعبته المعهودة بالرقص من جديد على رؤوس الثعابين، إذ تمكنت الأفعى هذه المرة من لدغه وأردته قتيلاً برصاص ميلشيات الحوثي، وهو في طريقه مجدداً إلى بلدته سنحان، التي جاء منها راعياً للغنم، وعاد إليها رئيساً سابقاً لليمن.
وصية صالح: أعيدوا لصنعاء عروبتها.. وواجهوا ميليشيات إيران
< فقد اليمن زعيمه لثلاثة عقود، مات مغدوراً على يد الجماعة الحوثية التي فك ارتباطه معها منذ أيام، بعد ثلاث أعوام من تحالف المكره، بفعل سيطرة الحوثيين المفاجئة على العاصمة صنعاء والقبض على مقدرات الدولة وأزمة الأمور.
ترك مقتل صالح المفاجئ الخيارات غامضة أمام مصير هذا البلد المثخن بالتقلبات منذ ثورة ٢٠١١ التي أسقطت صالح عبر المبادرة الخليجية كأفضل الحلول لوقف شلال الدم اليمني.
قتل صالح قبل أن يستكمل مشروعاً بدأه الأسبوع الماضي، لاستعادة عروبة صنعاء في وجه ميليشيات الحوثي بولائها الصرف لإيران، وقد تمددت في شرايين العاصمة اليمنية ذات البعد العربي الأصيل. وفجر مفاجأته التي أقضّت مضجع الرابضين على كهوف صعدة، عند أول فرصة تنفس فيها، وقد بدأ مشروع الحوثي يتجلى في أقسى صوره حدة وهو يداهم منازل المؤتمرين ويقصقص جناح المزاحمين له في حكم البلاد.
حظي صالح بفرصة أن يترك وصيته الأخيرة قبل مقتله، وأن يوضح موقفه من التطورات الراهنة ببيان صريح لا يحتمل الشك ولا يقبل التأويل، وكأنه يقول في وصيته الأخيرة التي تركها كخريطة طريق لأتباعه ومناصريه، ويقطع آخر وصال يجمعه بمشروع الحوثي الذي أراد فرسنة اليمن والقضاء على أواصرها العربية الضاربة، وتقديم صنعاء ولاءً أعمى للولي الفقيه في طهران.
وحملت آخر كلمات الرئيس اليمني المغدور مناشدة صريحة ولازمة لاستعادة عروبة صنعاء ومن بعدها اليمن من قبضة ميليشيات الحوثي، وطالب فيها بضرورة استعادة الشرعية والقضاء على الانقلابيين، ووجّه رسالة واضحة المعاني إلى الشعب اليمني ومختلف القوى السياسية والعسكرية، التي أكد فيها ضرورة مواصلة قتال ميليشيات الحوثي، حتى تحقيق الهدف باستعادة الشرعية. وقال صالح: «إن الشعب اليمني تحرك وقام بانتفاضة ضد العدوان السافر من الحوثي»، وأضاف: «اليمنيون الآن يختارون قيادة جديدة بعيداً عن الميليشيات». وتابع أن «مجلس النواب هو من لديه الشرعية في اليمن، في مرحلة انتقالية، وأدعو جميع اليمنيين والسياسيين للتوحد وإنهاء كل الميليشيات على الأرض اليمنية». واعترف بأن الحوثيين «أغرقوه وأغرقوا الوطن من دون اكتراث إلى الإعصار الذي يجتاح الوطن العربي، ويتم جر اليمن والمنطقة إليه».
تمكنت ميليشيات الحوثي من اغتيال صالح، وإطفاء الجذوة التي انطلقت شرارتها مع كلماته، وأخذ أتباعها سريعاً في ملاحقة الحوثي وتقليص تمدده ونفوذه في العاصمة صنعاء، ولكن منعطف الاغتيال تتسبب في تعثر مشروعه بعض الشيء، أمام ما تمثله كلماته من نبراس لكثير من أنصاره وشخصيته الكاريزمية من تأثير كبير على استثارتهم وتشجيعهم على مواجهة الحوثي وميليشياته.
يعمل نجله الآن أحمد علي صالح على التقاط أنفاسه، وإعادة بعث الروح في مشروع والده القاضي بمواجهة الحوثيين، وقد أكد أحمد، النجل الأكبر للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح، أن والده «وقف في وجه العمالة لإيران»، مضيفاً: «وقف شامخاً في وجه الرجعية والعمالة الإيرانية».
وهدد أحمد صالح، في بيان منسوب إليه، بأن دماء والده، الذي قتله الحوثيون، «ستكون جحيماً يرتد على أذناب إيران». وقال: «سأقود المعركة حتى طرد آخر حوثي من اليمن».
تبقى الخيارات الآن مفتوحة، وضبابية إلى حد ما، وإن كان الاغتيال يعطل مشروع استعادة صنعاء إلى الحضن العربي، فإن قوات التحالف العربي اتخذت خطوة إلى الأمام بدعم انتفاضة الشعب اليمني في وجه ميليشيات الحوثي الإرهابية، وأعلن الرئيس اليمني عبدربه منصور هادي، بدء عملية عسكرية تحت اسم «صنعاء العروبة» تتجه للعاصمة، ووجه بفتح عدد من الجبهات لدخول العاصمة صنعاء أبرزها جبهة خولان، وسرعة تقدم الوحدات العسكرية التابعة للجيش الوطني والمقاومة الشعبية نحو العاصمة صنعاء من اتجاهات وجبهات عدة وأهمها جبهة خولان للالتحام بأبناء المقاومة الشعبية بالعاصمة صنعاء لوضع حد لميليشيات الانقلاب والكهنوت الحوثية ومن يواليها ويمولها، يحدث كل هذا في فضاء مجتمعي صنعاني رافض لوجود الحوثيين وناقم عليهم، في معركة بدأها صالح بشرارة كلماته وبقيت جبهتها مفتوحة حتى بعد وفاته.
الراوبط :
تعليقات
إرسال تعليق