آخر تحديث: الإثنين، ١١ ديسمبر/ كانون الأول ٢٠١٧ (٠٠:٠٠ - بتوقيت غرينتش)جدة - عمر البدوي
< لطالما كانت المعرفة تحث إلى الحِرَف المهنية، ولا تخلو رواية أدبية من نبض الكادحين، ولن يخلو معرض كتابٍ من أيادٍ جاءت من كل حدب وصوب لبناء المعرفة، وتهيئ المكان للزوار، فمن دهانٍ ونجارٍ وحدادٍ وغيرها من المهن، إلى معرضٍ يضمّ بين أروقته نحو 500 دار نشر، جمعت عوالمها تحت مظلة معرض جدة الدولي للكتاب المزمع إقامته في الفترة بين 14-24 كانون الأول (ديسمبر) الجاري.
قبل أيام من انطلاق المعرض، يذرع العاملون أطرافه لتجهيز المكان ومسابقة الوقت، الوقت لا يتوقف، لكن يمكن أن تتحكم به، هذا ما يقوله العامل المصري هاني وهو يهم بتمرير منشاره الآلي على أعواد الخشب الملقاة أمامه، يقول: «هذا ما تعلمنا إياه القراءة، ويعلمنا العمل كذلك، قيمة العمل في إدراك معنى الوقت، الحياة مثل الكتاب والعكس صحيح، لكن القراءة تسبق الحياة أحياناً، إذ تعطيك الخبرة الناضجة مبكراً، الحياة ربما تعطيك إياها في الوقت الضائع، ولذلك هو يغبط من تعلق بالقراءة، لكنه سعيد هو الآخر بعمله، ويشعر بالغنى أكثر عندما يفني الوقت لخدمة القراءة».
في المقابل، يتكئ العامل السوداني أحمد على طرف من حائط بِكر، لم تصل إليه يد الدهّان بعد، إنها استراحة لبعض الوقت، يشعر بالإرهاق بعد أن نقل عشرات العربات المحملة بالكتب إلى أركانها المخصصة، يتكئ ليلتقط أنفاسه، ويشحن جسده بكوبين من الشاي الأحمر، وهو ينادم بقية طاقم العمل المسترخي لبعض الوقت.
عامل من دولة غير عربية يشعر بالامتنان وهو يؤدي عمله، في الواقع لم يحظى بفرصة التعليم في بلاده، لكنه سعيد بالاقتراب من هذه الأجواء العاطرة بالعلم والمعرفة، ابتسامته لا تفارق محياه، يتحدث العربية بصعوبة، فهو للتو وصل إلى السعودية، لكنه يشير بأن هذه اللغة مقدسة، وخدمتها واجبة، وتعلمها فرض، ويشعر أن كل هذه الأكوام المكدسة من الكتب والمجلدات، تقود في النهاية إلى القرآن الكريم ولغته العربية المبينة.
بعد دردشة يسيرة مع أبناء بلده، استأذن وانزوى في طرف من المعرض، وطبع على الأرض ثلاث ركعات للمغرب، إذ فاتته الجماعة في مصلى المعرض الذي أصبح جاهزاً الآن لاستقبال الزوار.
تنتشر رائحة الأصباغ في كل مكان، قبل أن تعبق رائحة الحروف التي تستعد للنزول ضيفاً على رفوف المعرض وأركانه، للكتاب المطبوع رائحة يعرفها القارئ النهم، ويحنّ إليها.
فتات نشارة الخشب يغطي وجه العامل السوداني، بعد أن أنهى ثلاثين قطعة من الخشب، الذي سينصب بعد ذلك عماداً لواحدة من الأركان المخصصة للأطفال، عبده، وهو اسمهن يشكر للمنظمين الاهتمام بالأطفال، إن هذا العمر هو المصنع الحقيقي للإنسان، فيه يتشكل وعلى أساسه ينطلق، واتصال الإنسان بالقراءة منذ طفولته يجعلها ركناً أصيلاً في حياته، تنمو معه وتكبر كذلك.
يضم المعرض هذه الأيام نحو مئتي عامل من جنسيات مختلفة، يهتمون بإعداد كل تفاصيله وترتيباته، يسقفون الأركان ويزينون الأطراف ويهيؤون الرفوف، باختلاف مهنهم من دهّان إلى كهربائي ونجار، يجمعهم همّ واحد، هو خلق أفضل فضاء وتهيئة أحسن الأجواء لمواعيد القراءة العامرة بالمعرفة والزاخرة بالعلم. ينتشرون في أطراف المعرض وأروقته مثل خلايا النحل وهي تدوي في بيوتها، أصوات النجارة والحدادة تعلو قبل أن تخمدها الكتب يوم يحين موعدها، ويضج عزف جديد موسيقاه المعرفة والعلم. سيبدأ الزوار قريباً في التوافد إلى المعرض، سيجدون المكان في أبهى حلة وأزهى ترتيب، لن يفكر أحد وهو يتنقل بانسياب وارتياح بين أروقته من بنى هذه الظروف المؤاتية للتبضع في بازار الكتب البهيج، لأن أبطال الكواليس وقتئذ سيطوون أدوات البناء والصنعة، ويضمّون إليهم «عدة الشغل» ويبحثون عن محل عمل ومصدر رزق آخر، قلت للعامل المصري، وأنا أودعه، إن قيمة المرء ما يحسن، فرد «الله ينوّر».
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق