في ما مضى وقبل أن تنقشع غمامة الأفكار الأحادية... كان معرض كتاب الرياض موسما محموما بالخلافات، ومنصة للالتحامات بين تيارات فكرية اشتركت لسنوات في تأزيم المشهد الثقافي السعودي.
الاثنين 2019/03/18
انطلق موسم الثقافة والقراءة في الرياض لهذا العام، بافتتاح معرضها الدولي للكتاب الأربعاء الفائت، ليكسو مساءات العاصمة السعودية بالدفء فيما يلفّها شتاء متمهل لا ينوي مغادرة المدينة.
زرت المعرض الذي يغصّ بالزوار والمرتادين عن بكرة أبيه، العديد من الأركان والأقسام والزوايا التي تلبي حاجات كل الفئات، وترضي جميع الاهتمامات قدمت من دول عربية وأوروبية للمشاركة في هذه المناسبة الثقافية الكبيرة.
ورغم الزحام الكبير الذي يملأ المكان، ينساب فيه المتجولون بفضل الدور المهم الذي يقوم به شباب وشابات التطوع في تنظيم الجموع وإرشادها وبذل الوسع لإنجاح المعرض، وقد اكتسب المنظمون خبرة متراكمة نتيجة السنوات الطويلة من التنظيم في عمر هذا المعرض الحيّ والثريّ.
في ما مضى وقبل أن تنقشع غمامة الأفكار الأحادية عن المجتمع السعودي، كان معرض كتاب الرياض موسما محموما بالخلافات، ومنصة للالتحامات بين تيارات فكرية اشتركت لسنوات في تأزيم المشهد الثقافي السعودي وشلّه بالخلافات التي تضطر معها الجهات الأمنية للتدخل وفض الاشتباك وإعادة الأمور لنصابها، وقد تحوّل هذا الموسم الثقافي السنوي نتيجة لذلك من مناسبة محورية لإذكاء الوسط الفكري والحراك المحلي إلى صداع مزمن في جدول المدينة العاصمة وحساباتها.
وبرغم ما للجدل من فضل على إثراء الحالة الثقافية لكل بلد، لكنها وخلال السنوات الفائتة كانت تخرج عن السياق تماما وتقدم وجبات مسمومة بالخلاف، تعيق جريان الحالة الثقافية وتعطل الكثير من فرص نموّها وتطورها السليم والموضوعي.
كانت جموع ما يسمى بـ”الاحتساب” قديما تغمر المعرض منفلتة من كل عقال، لضبط إيقاع موسم القراءة على أساس التقاليد الحافظة لثوابت المجتمع وصون قيمه حسب رأيها الأوحد الذي يقصي كل نفس آخر يخرج عن طوعها، كانت تنفخ في التابوهات وتنشر الهواجس المأزومة، وما إن يقترب موعد المعرض وقبل أن يفتح أبوابه، تبدأ في سرديتها التقليدية لتأليب المجتمع ضد المناسبة ورموز الثقافة وشحن الشباب المتحمس والقابل للتشكل، بوعي ابتساري يحمّل الأشياء فوق ما تطيق من الافتراضات “الوسواسية” الحادة.
كان معرض الكتاب لهذا العام، مناسبة لتكريم بعض روّاد السينما السعوديين، مخرجين وممثلين وكتّاب، وجدوا أنفسهم تحت ضوء يوم الافتتاح، يلقون كل إشادة وتقدير
يبدأ المعرض، وتنتشر مجاميع المحتسبين لالتقاط العناوين الملتبسة وإطلاق صافرات الاعتراض والشجب والضغط لسحب بعض الكتب، ووقف بعض الفعاليات ومنع بعض الأسماء، فقط لأنها تقع في خانة الظن السيء والاحتياط من ارتكاب ما يمسّ تقاليد الفئة المنكفئة على هواجسها.
وكثيراً ما كانت تفيض شبكات التواصل بصور ومقاطع فيديو لمضايقات مختلفة يرتكبها المحتسبون في جنبات المعرض، تؤطر مجتمعا طبيعيا منطويا على ثراء التعدد والتنوع، في صندوق مغلق تنفلت منه التشوهات والصور الجائرة عن استعداده للانفتاح والتحضّر.
كانت تلك الجموع توقف بعض الفعاليات، تقاطع منصات الحديث وتشوش عليها، تعترض طريق بعض الزوار للتنبيه على هيئاتهم، تضيق بالمواقف العفوية العابرة في أروقة المعرض، تشتبك مع بعض المثقفين وتحتلق حوله وتقذفه بنقاشات موتورة لكسر روح وشجاعة الاختلاف لديه، تندد بالمناسبة على مواقع التواصل الاجتماعي، تقتلع الاحتمالات السلبية من رأس المواقف العادية، تسمم كل شيء، وتحوّل المناسبة إلى حفلة شواء أيديولوجي لا تبقي من روح الثقافة ولا تذر.
الكثير من ذلك انحسر الآن، تلاشى، أخذ المعرض مجراه الطبيعي، يؤمهّ الناس بغرض القراءة ولقاء المثقفين، والاستمتاع بالعروض الجانبية على هامش سوق الكتاب، الكثير من مدمني الانفعالات تراجعت لديهم شهية زيارة المعرض، لأنه لا يغذي جوعهم التنمّري كما كان يفعل، وبقي الميدان لروّاد الثقافة وصنّاعها ومستهلكيها.
كان معرض الكتاب لهذا العام، مناسبة لتكريم بعض روّاد السينما السعوديين، مخرجين وممثلين وكتّاب، وجدوا أنفسهم تحت ضوء يوم الافتتاح، يلقون كل إشادة وتقدير، وطوال أيام المعرض قُدّمت عروض وأفلام سينمائية في المسرح الرئيس للفعالية، كانت السينما واحدة من ضحايا المرحلة الفارطة، وكادت تقبر وتسجّى في طيّ التجاهل والنسيان إلى الأبد، لكنها استعادت حضورها ودورها الآن، وأضحت في رأس هرم اهتمام وعناية المجتمع ومبدعيه.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق