السفير السعودي الجديد في الإمارات يعود إليه الفضل في إطلاق مشاريع أحدثت أثرا لافتا وتركت طابعها الخاص في الحراك الثقافي والفكري للمنطقة.
الأحد 2019/02/24
أثناء أداء سفراء العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز المعينين حديثا لدى عدد من الدول الشقيقة والصديقة القسم مطلع الأسبوع الماضي، وفي مكتبه بقصر اليمامة في الرياض، كان تركي الدخيل يعبر من مرحلة هامة في حياته إلى مرحلة ثانية وجديدة لا تقل أهمية عن سابقتها، بعد تعيينه سفيرا لبلاده لدى دولة الإمارات العربية المتحدة.
الإعلامي والصحافي الذي قضى ما يزيد على ثلاثة عقود في بلاط صاحبة الجلالة، وتنقل بين مساراتها المختلفة، وألف الكتب وأجرى الحوارات وأعد التقارير الميدانية، وأدار دفة إحدى المحطات العربية المنافسة في الفضاء التلفزيوني، يضع من يده قلم الصحافي ويمسك بحقيبة الدبلوماسية. صحيح أن المهمتين تلتقيان في الكثير من الوشائج الوظيفية والعملية، لكنهما تنفردان بما يختص به كل مجال منهما.
تحديات تواجه الإعلام السعودي
بدأ الدخيل المولود في مدينة الرياض عام 1973 حياته العملية بشكل مبكر، وارتبط كناشط بالإعلام وهو لا يزال في سن الـ16، قبل أن يحترف العمل الصحافي في العام 1994، ويضع بصمته في عدة مؤسسات صحافية.
درس الدخيل في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية في كلية أصول الدين قسم السنّة. وحاصل على دورات تخصصية في التصوير والكتابة الصحافية وإدارة مواقع الإنترنت في أميركا. وكانت أطروحته في الماجستير في الدراسات الإسلامية من جامعة المقاصد في بيروت. وكان آخر ما تولاه الدخيل من مهام في الإطار الإعلامي الذي شغف به وبذل له خلاصة طاقته ووقته، هو إدارة قناة العربية خلفا لمواطنه عادل الطريفي.
نجح الدخيل في الحفاظ على حضور القناة في الفضاء العربي، استطاع أن يفعل ذلك رغم التحولات الحادة في الحقل الإعلامي بعد أن دهمته تقنيات وأدوات الإعلام الجديد وغيرت الكثير في واقعه.
وبرغم ذلك حافظت العربية على وهجها وتأثيرها، وكان ذلك على حساب شخصه كإعلامي اعتاد عليه الجمهور وارتبط بأدائه الفريد. أطلّ لماما من الشاشة التي ألفته خلال الأربع سنوات كمدير للقناة لكن المسؤوليات الإدارية الملقاة على عاتقه بحكم موقعه أخذت منه جهدا حتى خارج العربية.
حجم التحديات التي واجهت الإعلام السعودي في الشهور السابقة، وسط ضجيج المنصات الإعلامية الناعقة بالتسييس والمرتهنة لمشاريع التوظيف والتعبئة الأيديولوجية، لا شك أنه يمثل مواجهة ستترك آثارها على شخص مثل الدخيل الذي صار في قائمة المستهدفين ممن توجه إليهم كل أنواع الاتهامات. أقلها التعثر في أداء المهمة ومحاولة الربط بين انتقاله للعمل الدبلوماسي في واحدة من أهم العواصم باعتبارات الرياض، ومغادرته إدارة قناة العربية.
فالدخيل الذي قاد تلك المواجهة، كان برنامجه “إضاءات” الذي قدمه على قناة “العربية” قد حصل في العام 2010 على جائزة أفضل برنامج حواري من قبل مهرجان الخليج للإذاعة والتلفزيون في البحرين، وهو الذي اختارته مجلة أريبيان بزنس ضمن أقوى 100 شخصية عربية في مرتين تفصلهما سنوات قليلة، ما يؤشر على نشاطه وحرصه على تطوير مهنته.
قبل ذلك وفي العام 2009 حصل الدخيل بالتصويت على لقب “أفضل مذيع سعودي” في استفتاء جريدة الرياض، وقبل ذلك بعامين حصل بالتصويت أيضا على لقب “سيد الحوار” في الاستفتاء الذي أجرته مجلة روتانا.
لذلك فإن “العربية” تحت إدارته، ظلت محافظة على صوتها، وتمكنت من توضيح الحقيقة قدر ما استطاعت، وسط ظرف صعب جدا، بعد أن انفجرت في وجه الرياض هجمة شرسة وممنهجة في سياق التحام مشروعين متنافرين، أحدهما يريد الخير والاستقرار للمنطقة تقوده السعودية وبقية العواصم العربية الحيّة، وآخر يريد أن يودي بها إلى المزالق والمهالك تقوده الدوحة ورعاتها في طهران وأنقرة.
علاقات استراتيجية
يأتي الدخيل سفيرا للرياض لدى أبوظبي في مرحلة مهمة من عمر العلاقة بين العاصمتين التي تشهد أكثر فتراتها ازدهارا وثراء. فالبلدان اللذان يجمعهما مجلس للتنسيق الاستراتيجي، يلتقيان في الكثير من الملفات والأدوار التي تضبط الفضاء العربي وتشكل مناخاته السياسية والاستراتيجية.
وبدوافع مشتركة تجمع الرياض وأبوظبي، سيزيد تعيين الدخيل، وهو الذي انتقل للعيش في العاصمة الإماراتية قبل ذلك بسنوات ويدير الكثير من مشاريعه الإعلامية والبحثية فوق أراضيها، الكثير من الفعالية والعمق والسلاسة في تجسير العلاقات وإثراء نتائجها.
فالسفير السعودي الجديد يمتلك تاريخا زاخرا بالتجارب، تنقل بينها برويّة، وأشبعها بما أوتي من الذهانة الاجتماعية والملكة الصحافية، مكنته هذه التجربة الواسعة من الإلمام بتفاصيل معقدة ودفينة في الإنسان الخليجي والسعودي على وجه الخصوص. وهو ما سيصب في صميم مهمته الدبلوماسية الحالية.
المشاريع التي أطلق لها العنان أو وضع لبناتها الأولى، أحدثت أثرا لافتا، وتركت طابعها الخاص في الحراك الثقافي والفكري للمنطقة. كان ذكيا بما يكفي ليسبق كل مرحلة بخطوة، مستثمرا في توفير ما يلبي حاجات العقول المفتوحة بالأسئلة والأذهان المنقدحة بالاستفسارات لمحاولة الفهم والاستيعاب. وهو ما يبرز كأكثر من دور إعلامي تصدّر الدخيل لمواجهته منذ البداية بمبادرة ذاتية منه، فكيف وهو اليوم تكليف رسمي.
حجم التحديات التي تواجه الإعلام السعودي في الفترة الحالية، وسط ضجيج المنصات الإعلامية الناعقة بالتسييس والمرتهنة لمشاريع التوظيف والتعبئة الأيديولوجية، لا شك أنه يمثل مواجهة ستترك آثارها على شخص مثل الدخيل الذي صار في قائمة المستهدفين ممن توجه إليهم كل أنواع الاتهامات
فقد ساهم الدخيل في تأسيس موقع إيلاف الإلكتروني وأسس مجلة الإقلاع الإلكترونية وترأس تحريرها، وأسس موقع جسد الثقافة الذي يعنى بالأدب والفنون الكتابية والبصرية. كما أنه قدم استشارات إعلامية للعديد من الجهات، وساهم في تأسيس جائزة الشيخ زايد للكتاب، وكان عضوا في اللجنة العليا للجائزة حتى استقال في نهاية العام 2008. وهو عضو مجلس إدارة “أي ميديا”، التي تصدر جريدة الرؤية الاقتصادية، وهي صحيفة يومية تصدر من أبوظبي. وأسس مركز المسبار للدراسات والأبحاث في دبي، ودار “مدارك” للنشر. وجميع تلك المنعطفات تتجاوز الهم الإعلامي إلى ما هو أكثر استراتيجية.
مرحلة الصحافة العربية الجديدة كان الدخيل حاضرا على توهجها. وبدأ بالميدان الذي شرب منه ألف باء المهنة العتيقة، إلى أعمدة المقالة الصحافية بشكل شبه يومي منذ العام 2000، وما مقاله الشهير مؤخرا عن خيارات الغضب السعودي تجاه السلوك الأميركي إلا شاهد عابر عن ملكته الشخصية.
كان الدخيل نجما وهو يمدد “جسد الثقافة” على تراب الوطن العربي، قبل أن يتململ هذا الجسد وينفضّ عنه الناس إلى سوق الفضائيات الزاهر، وكانت طاولة “إضاءات” محجا لرموز الثقافة والفكر والأدب العربي، فيما الدخيل يبرع في مهمته لتبسيط تلك القلاع الحصينة من المنتجات الفكرية العريقة وتلفزتها بمهارة فائقة.
جسر ثقافي
وعندما تفجرت ظاهرة الإرهاب ومخزنها الكبير من حركات وجماعات الإسلام السياسي، كان الألم شاخصا أمام خارطة واسعة ومتشعبة من الاتجاهات والتيارات، ولحماية المجتمع العربي والمسلم من التفسير الاستثماري الذي تنتهزه المراكز الغربية أو العربية الملوثة بالأيديولوجيا، انبرى الدخيل لتأسيس مركزه “المسبار للبحوث والدراسات”، واستقطب الأقلام الحصيفة والعارفة بالظاهرة، وأنتج العديد من المواد والمؤلفات والملخصات لتفكيك الظاهرة والمساعدة في فهمها وتفسيرها سبيلا إلى مقاومتها والحد منها. ودعم المحتوى العربي، وقدم القلم الخليجي ومد ذراعه لجيل شاب متطلع إلى مصافحة مؤلفه الأول، وكان الدخيل وطاقم عمله ملاذه الآمن والضامن إلى الجمهور العربي عبر معادلة لا يتقنها أحد سواه، لمسة من التسويق تفعل الأعاجيب.
ويحتفظ الدخيل بدور في عدد من المشاريع الإعلامية والأدبية التي أثرت المنطقة العربية، وأججت الكثير من النقاش والجدل الصحي الذي لم تغيبه جيوش الشهرة المجانية ولم تضعفه ركامة المحتوى الذي جلبته منصات التواصل الاجتماعي والإعلام الجديد، وبقيت تلك المشاريع وصيّة على الكلمة الثمينة والفكر المسؤول.
ماذا يحمل في حقيبته الدبلوماسية؟
طرح الدخيل هذا السؤال على نفسه، وكتب في مقالة بهذه المناسبة “ماذا يمكن أن يقدم سفير، لعلاقة بين دولتين، يمكن اعتبارهما أقوى حليفين، لا في المنطقة، بل ربما في العالم؟”. وأجاب بنفسه أيضا “يمكن أن يقدم الكثير، ولكن بالكثير من الجهد”.
ينتظر من الدخيل الكثير من العمل في مهمته الجديدة، وبحكم العلاقة الأثيرة التي تربطه على المستوى الشخصي بين مسقط رأسه ومحل سكنه وعمله، سيكون لهذا انعكاس على علاقة البلدين وهما يمضيان في مشروع استراتيجي يلخص لحظة الخليج التي أجمع الخبراء والمحللون على جوهرها وحقيقتها، وفي القلب منها العاصمتان الخليجيتان الرياض وأبوظبي.
ومن واقع إلمام الدخيل بالمنعرجات الفكرية والسياسية التي أودت بالمنطقة إلى ما هي عليه اليوم من انهيار وانفلات تشهدهما كل الصعد، فإن مهمة الترميم التي تضطلع بها العاصمتان لاستقطاب الكفاءات الماهرة، ستؤدي إلى بث روح عميقة لتصحيح ورطة الإرث القديم وإصلاح الواقع.
وخلال مسيرته الطويلة، كان الدخيل ماهرا في النجاة من قذائف الإساءات وسياط النقد ومعلقات التنمر التي كانت تهطل عليه بلا توقف، عبر رحلته في مواجهة الفكر المتطرف، بعد أن انبرى مع ثلة من الكتاب والأقلام لمقاومة الأفكار المتشددة ونقض عش الدبابير. فصبت المنابر القطرية والإخوانية جام غضبها على الدخيل، ولفقت له التهم والأباطيل ضمن سعيها لإسقاط رمزيته وجهده في حماية المسار الذي اختارته السعودية لترميم الواقع وإصلاح مآلاته.
فكان الدخيل، إلى جانب كفه عن الإصغاء إلى ما تقذفه تلك المنابر من الشحنات السلبية، يلوذ بالنبل الذي يسكنه، والذي ينعكس في مواقفه الصادقة مع محيطه وأصدقائه، حدبه على زملائه، وسعيه في حاجاتهم، وفي صحبته لوالده الذي تربطه به كيمياء تجمع بر الأبناء بحنوّ الآباء، وجرحه الذي لما يزل نديّا كأنما كَلمه البارحة بفقده لوالدته، التي كانت ستكون أسعد الناس بالمرتقى الكبير الذي بلغه فلذة كبدها ولا تزال تسكنه ولا تغادره.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق