التخطي إلى المحتوى الرئيسي

خيبة المثقف العربي


يا لخيبته وهو يشعر بالعزلة فيما يضيق به الفضاء وتلفظه الوسيعة ، رغم أن الزمن العربي الآن أحوج ما يكون إلى دور مثقفيه ومسعفيه من بناة الرأي وحماة الفكر ، لكن الأقلام تراجعت والنصال تقدمت ، جفّ الحبر وسال الدم ، انكفأت الأفكار وانقدحت الشرور .
السياسي يستخدمه في حدود ما يكون مفيداً لسلطته ، والمجتمع يشعر بقلة تثمينه للدور بعد أن خسر الثقة به في مناسبات مختلفة ، فيما تتنازعه الخصومات وتتناوشه الميليشيات والتيارات في فضاء مسموم لا يعوّل كثيراً على العقل والفكر والرأي .

كان المفكر السعودي تركي الحمد عرضة لمسلسل من التنمر الإلكتروني بعد تعرّضه لإصابة جراء حادث سير أثناء حضوره معرض‫ القاهرةالدولي للكتاب ، أجريت له عملية جراحية عاجلة ، وتقرر نقله عبر طيران الإخلاء الطبي إلى العاصمة‫ الرياض.
‏لتضجّ شبكات التواصل الاجتماعي بكثير من رسائل التشفّي والشماتة به دون رعاية الجانب الإنساني من القصة ، هذا الجانب الذي طمس نتيجة عقود من تحميل الوسط الثقافي العربي بمعايير لا تنتمي إلى حقله ولا تصلح أداة لمعالجته والنظر فيه .
كان الحمد مثل غيره ضحية لعقود من ضخّ الصحوة الأيديلوجية التي عبثت بالمفاهيم ، واحتكرت تشكيل موقف المجتمع تجاه الكثير من الأشياء ، وكانت الثقافة سيما تلك التي لا تصدر عن نفس المدرسة هدفاً مستباحاً لحراس الفضيلة الفكرية .
حدث ما هو أسوأ للروائي العراقي علاء مشذوب ، الذي اخترقت جسده ١٣ رصاصة غادرة من مجهولين في وسط مدينته الأثيرة كربلاء وهو يعبر أحد أزقتها فوق دراجته النارية ، أردته تلك الرصاصات التي تكفلت بمحاكمة كلماته وموقفه من ثورة الخميني في ذكراها الأربعين ونفذت الحكم دون أن تعوزها رأفة أو عدالة ، فقط لأن رأيه لا يروق لأحد الموتورين والمستسلمين لسردية الملالي ، واختار أن يسكت قلمه برصاصاته العمياء دون أن يأبه أو يلقي بالاً لكونه إنساناً بله أن ينظر إليه كمثقف .
لعل هذه القصص الكاشفة التي حدثت بحر الشهر الفائت ، تجلو شيئاً من حقيقة وواقع الثقافة وأصحابها في الفضاء العربي المزكوم برائحة البارود والمنهك من خرائط السياسة الخرِبة ، وهو واقع بائس رغم بعض المناسبات اليتيمة التي يستعيد عبرها المثقف جزءاً من حضوره ودوره لكنها تنهزم وتخفت بمجرد أن تتكشف الحقيقة عن سراب .

كانت ثورات الربيع العربي التي تفجرت قبل سنوات ، واحدة من المنعرجات التاريخية التي خصمت مزيداً من رصيد المثقف في الشأن العام ، استثمر الفاعل الأيديولوجي في غيابه وتواضع حضوره ، وقاد المرحلة نحو " يوتوبياه " المأزومة والمؤثثة بالأحادية والإقصائية القاسية .
ولأن جماعة من المثقفين هربت من جحيم الأيديولوجيين إلى رمضاء المستبدين على قاعدة " أخف الضررين " ، عاقبته المجتمعات العربية العطشى إلى التغيير بتنحيته من عرش القيادة والتأثير ، وأودى هذا ببقايا ما له في نفوس الناس من مكانة وحظوة .
ثمة مسألة اجتماعية أخرى ، خصمت شيئاً من حظوظ المثقفين والثقافة في راهن الناس ، وهي مزاحمة جيوش الشهرة المجانية التي بخست الثقافة ، وأسست لعهد جديد يعلو فيه السفه ، وتقذف عبره الحالة الاستهلاكية حممها في سماء لا يزاحمها فيه أحد .
نجومية جديدة ، سهلة ، الشهرة سلعتها الرئيسية ، كيفما جاءت على مطايا المحتوى الرصين أو الإثارة الجوفاء ، تعلو قيمتك تبعاً لجماهيريتك ، للأعداد التي تتبعك على المنصات الجديدة ، رجحت كفة الكم على الكيف ، هبطت الثقافة من عليائها وتنحّت عن عرشها ، واستطونته المستعمرات الجديدة من مشاهير " السوشل ميديا " .
زاد ذلك من تكاليف التهاوي الموجع للمثقفين ، وضخّ دفقة جديدة في حالة انسحابهم تماماً من المشهد .

المثقف يتحمل كِفلاً من المسؤولية ، بتواضع المشروعات الفكرية التي يشتغل عليها ، وقد أنذر قلمه وجهده وطاقته في مواسم الكلام المزجى وبذل البضائع السطحية وانشغالاتها الطارئة ، دون أن يعتصم إلى منهج رؤيوي متماسك يبقى على الأرض وينفع الناس ، خيراً من تلك المساجلات العابرة التي تذروها الرياح مع كل عاصف مرحلي .

ليس مطلوباً أن يحصل المثقف على اهتمام وتأييد كاملين ، بل جزء من مهامه أن يتعاطى مع حجم واسع من المواجهات والالتحامات تبعاً لاشتغاله في الحيز الإشكالي لمجتمعه ، وهو يسائل ما استقر فيه من الأفكار ورسب في أعماقه من الآراء .
لكن الخيبة الممضّة هي غياب التقدير للفعل الثقافي نفسه ، بمنتجاته ورموزه ، تأجيل أو تعطيل أي دور يمكن أن يلعبه المثقف خالياً من الضغوط ومتنزهاً من التأثيرات الوافدة من خارج منطقه الثقافي الذي يتوق إلى الحرية والاستقلال والموضوعية .
إذ يعاني المثقف في هذه البقعة الجغرافية من انتهاب جهوده وعسف الواقع الذي يحشره في زاوية من ضفتين ، إما الاستسلام لمشاريع التوظيف والتعبئة غير النزيهة ، أو الانزواء والتغييب حتى تذوي مناعته أو موهبته ، ويا لخيبة المثقف العربي بينهما .



الرابط :



تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...