التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الغربة التقنية



عمر علي البدوي

«راحوا جيران الطيبين، يدقون الجرس يطلبون طماطم وبصل، جيران هالوقت يجيك يدق جرس الباب يقولك ليش طفيت الواي فاي» رسالة بلاك بيري
كثير من الأشخاص لا يحب العيش في الظل، يتمنى لو كان في صدارة الاهتمام دائماً، وهذا ما يجعل بعضهم يرغم نفسه للدخول في شبكات التواصل الاجتماعي ويسارع إلى شراء كل المنتجات التقنية التي تدعم هذه الخدمات

وصل ذلك بالبعض إلى درجة المشاركة في عشرات البرامج التي تدعم أنشطة المحادثات والتواصل الاجتماعي في آن واحد، وبطريقة تكاد تجزم أن الله طرح في وقته البركة ليسرف في صرفه على هذه البرامج والتطبيقات
تعدد برامج المحادثة والدخول المتعدد لشبكات تواصل مختلفة يشبه تعدد الجلسات للشخص في واقعه، وذلك للبحث عن جديد والاستفادة من المزاج العام المختلف لكل جلسة أو برنامج وتطبيق، وهو يعيش ازدواجاً في جهة وتلوناً حسب مزاجات البرامج وطابعها العام
لقد أصبحت مهرباً للكثيرين ممن يقضّ مضجعه هاجس الوحدة والفراغ، ومتنفساً لكثيرين أخفقوا في بناء علاقات اجتماعية كافية أو أرغمتهم الظروف على التنازل عن علاقاتهم الواسعة، واستنقذت أحياناً كثيراً ممن كان على معرفة وعلم جيد ودراية ما واستبعدته ظروف التزاحم على الصدارة والظهور
لقد صنعت التقنيات الحديثة غربة من نوع جديد، لقد أصبح المستغني عن هذه الشبكات والتقنيات التكنولوجية بمثابة المستبعد عن الحراك والمشاركة الكافية في الهم العام والحراك الاستهلاكي
وقفت مرة مشدوهاً ومعطلاً عن الحديث في حضرة اثنين ممن لهم باع طويل في البلاك بيري، إذ بدؤوا يغرقون في حديث متسم بالغرابة والجدة على رجل ليس له به صلة من قريب أو من بعيد

لقد استحدثت ثقافة جديدة، ولغة جديدة، وغربة جديدة، وربما أمية جديدة، استطاعت أن تستوعب العامة من الناس
لا خلاف على أن تقنيات التواصل الاجتماعي لحظة فاصلة في عمر البشرية وفي سير المجتمعات، وإلا كيف استطاعت زحزحة عروش ضاربة في التاريخ والبوليسية؟ كيف استطاعت أن توقظ شعوباً كانت تغط في سبات عميق؟

حينها لا يستعبد أي أثر اجتماعي على الصعيد النفسي أو الثقافي
تعتبر الموضة واحدة من دوافع الكثير للدخول في هذه الشبكات واقتناء الأدوات الحديثة، إذ أصبحت الذهنية توافق على منح جواز المرور إلى الإطار الحضاري المتمدن لأولئك الذين يملكون جوالات من الطراز الفاخر وحسابات متعددة في شبكات التواصل، وقد يبلغ بعضهم درجة هستيرية لامتلاك أجهزة متعددة لمجرد المفاخرة أو تسجيل حضور شخصي
مجتمعات الاستهلاك تحتفظ بتعريفها الخاص للتقنية، وتوظفها لمزيد من تزجية الوقت بما يشغله نفعاً أو ضراً، واستخدامها لمطاردة شبح الفراغ الذي يفتك بالشباب، وإرساء مزيد من فرص الاستهلاك المحلي
عقدة التصنيف تلاحق مستخدمي هذه التقنيات والشبكات، في عالم تويتر المضطرم بالخلافات الحادة وصلت حدة التصنيف إلى درجة الهوس، ربما تتفاقم وتنعكس على الواقع الاجتماعي
ففي قضية المدون حمزة كشغري انكشف حجم الخلاف الشديد بين أطراف فكرية وثقافية تمثل تيارات ناقمة على الاستبعاد الإعلامي وأخرى متضخمة في جسد المجتمع، بغض النظر عن الموقف الشرعي من القضية
كان هناك نوع من الثورة التي تجاوزت خطوط الاعتدال والإنصاف والرشد الذي كان غائباً حتى عن بعض الرموز المعروفة، وربما تجاوز الأمر استحداث تبرير شرعي لبعض التجاوزات اللاأخلاقية
في البلاك يُمارس نوع من التنميط للمستخدمين، وقل ما تجد أشخاصاً يخرجون عن الخط الذي رسموه ابتداء خشية خسارة جمهورهم الذي يستهلك أطروحاتهم المحتكرة ضمن خط ما، مثل: الحزن، أو النكات، أو حتى خدمات تقليدية إخبارية ودينية وثقافية واجتماعية عامة
يحاول كل مستخدم الحفاظ على شخصيته المرسومة في ذهنية جمهورية البلاك، حتى لا يتعرض لعملية الاستبعاد والإهمال التقني، وربما يفقد الكثير من عملائه بمجرد الكشف عن هويته الصريحة والاعتراف بقناعاته البسيطة والسطحية
ثمة ما يدعو للتظاهر بالمثالية، ورغم إدراك البعض بخلاف الحقيقة وأنهم يمارسون نوعاً من التلاعب والنفاق الاجتماعي ولكنهم مرغمون بالموافقة وإبداء الإعجاب والارتياح، لأن عمليات المفاصلة نكدة وغير مبررة في عالم استيعابي غير طارد
في البيوتات والأسر قد تحدث مثل هذه التقنيات والأدوات انفصالاً نكداً في العلاقات الاجتماعية، وقد ترسخ عيوب التفكك الأسري، وغالباً ما ينخرط أفراد الأسرة الواسعة والضيقة في مجموعات لتبادل الأخبار والفكاهات والاستعاضة عن الواقع الحقيقي الذي يعاني شحاً في التواصل ونضوباً في اللقاءات الودية والتواصل الحيّ .







الرابط :

http://makkahnp.com/makkahNews/component/k2/item/16835-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%86%D9%8A%D8%A9-1?Itemid=1#.Uu2k8j1_sbV


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...