2014-2-21 | عمر علي البدوي
بقلم: عمر علي البدوي / كاتب سعودي ــــ جدة
كانت لحظة فارقة في التاريخ الحديث للعالم العربي، بلغت درجة اليأس لدى الشعوب من تحسن الأوضاع إلى مستوى لا يطاق، ولأنه إذا استحكمت حلقاتها فرجت يوم نظن ألا تفرج، اندلعت شرارة الربيع العربي من مدينة "سيدي بوزيد" التونسية، من حيث المجهول، من نقطة اللامتوقع، جاء الفرج ليستنقذ الشعوب من وحل اليأس إلى فضاء الأمل.
جاء التغيير في مواكب الانتفاضات الشعبية التي هزت عروشاً جاثمة على صدور شعوبها وغارقة في الفساد والاستبداد، ضربت تلك الهبات العفوية كل التوقعات والاستعدادات المخابراتية والأسبار البحثية الاستشعارية التي وظفتها أجهزة أمن وحماية كراسي الحكام، وجاءت بغير المتوقع.
مضت اللحظة الرومانسية لثورات الربيع العربي، وانتقلت المسألة إلى مرحلة العمل الجاد والدؤوب لإنضاج الثمار التي انطلقت من أجلها صيحات الجماهير وسالت في سبيلها دماء الثوار.
بعد ثلاث سنوات من الاستغراق في الاحتفاء باللحظة الثورية والمرحلة المفصلية من تاريخ الهبات الشعبية، جاء الوقت ليسترد العقل انضباطه ويتنفس القلم صعداء التحليل العميق غير المنفعل، رغم الأخبار التي سالت منذ ولادة تلك اللحظة ولكنها لم تسلم من طرفي التنازع على المدح والردح، ولم تخرج من عنق اللحظة السحرية للثورة وأغرقت في التبجيل أو التقليل وفي التهليل أو العويل.
مضت ثلاث سنوات انطوت على كثير من التحولات والانحرافات وعلى التقدم المتباطئ نحو أهداف الثورة، ويعود ذلك إلى النوايا الخبيثة التي تتربص بالثورات أحياناً أو بالركام الذي ينتظر المخلصين من مخلفات الأنظمة المخلوعة أحياناً أخرى.
في تونس التي كانت ناصية الربيع العربي، ما زالت تقدم دروساً في الحفاظ على عذرية الثورة دون أن تمسها يد إسلاميين مغالين ينفردون بوراثة الثورة وأهدافها وشرعيتها أو تغرق في العسكرة وتدخلات الجيش السافرة أو تستردها قبضة الفلول الآثمة.
عندما احتفلت تونس بدستورها الجديد وسط لفيف من قيادات العالم وتوافق من الأطراف الوطنية الداخلية، كانت لحظة مشبعة بالأمل والإصرار على حماية الخيار الديمقراطي الوطني، رغم المتاعب التي احتشدت لمسيرة هذا المولود الثوري الناضج ولكن حجم التنازلات من الإسلاميين ومرونتهم الفائقة وجدار "الترويكا" الممتنع على تسلق الانتهازيين ونخب تونس الخضراء من الليبراليين والمثقفين الصادقين والتزام الجيش بدوره الوطني المحايد وتماسك الجبهة الداخلية من الثوار، كل هذا كان يصب بالنهاية في مصلحة الهدف الوطني المشترك.
ويبدو أن تونس ستحافظ لسنوات طويلة على موقعها المتفرد من العالم العربي في تقديم دروس الحداثة والعلمانية المهذبة ورمزية الثورة الطاهرة والإيمان بالخيار الديمقراطي الرشيد مع لمسة دينية معتدلة وعبقرية.
في مصر التي تشكل منذ تاريخها الفرعوني محوراً للمنطقة وبؤرة تأثير في محيطها العربي، يبدو أن التشابك معقد لدرجة مخيفة، فبعد أخطاء الإخوان الرئاسية التي استغلت بطريقة فجة استعاد الجيش دوره التقليدي في التحكم بمقاليد البلاد والعباد..
تسير الأمور هناك إلى إعادة إنتاج النظام القديم بصورة واضحة يشترك في ذلك ضعف أداء الإسلاميين الذين انتهى بهم الحال في المعاقل والسجون، إلى جانب تضعضع جبهة الثوار الأصلية وشتات أمرهم، فضلاً عن قوة الدولة العميقة التي تنتشر بشكل بشع في أطراف البلاد وخوار الطبقة الليبرالية والمدنية التي يعوّل عليها حماية حياض الديمقراطية والخيارات المدنية السلمية، يلهب ذلك قوى الإعلام المصري الحكومي والأهلي التي تبيع ضميرها المهني للحاكم المتغلب أياً كان لونه وطعمه ورائحته، ناهيك عن دور ديني رسمي وأهلي متخبط يلتزم بطريقته التقليدية في التعامل مع الشأن السياسي والفضاء العام.
خليط من الدواهي ألقت بمصر في عثرتها أو لعنتها التاريخية، ولذا فإن بوابة الخروج التي كان يوظفها النظام القديم ما زالت مفتوحة على مصراعيها، إذ ما زالت مفردة الإرهاب وطقوسه هي المصدر الأفضل لإكساب النظام القائم أو المتوقع شرعيته الراسخة.
يثيرني الاستخدام المسهب لمفردة الثورة مع موعدة 30 يونيو، والظهور المتكاثف لحركة تمرد وشبابها لكأنهم أهل الثورة وورثتها، إلى جانب المكارثية التي ترمي بوابل هجومها على الإسلاميين ومواراة الغضب على نظام مبارك ورموزه ممن سحق مصر لثلاثين عاماً.
أما منقذ مصر وملهمها عبد الفتاح السيسي الذي استنفد كل الأيمان المغلظة لتبيان زهده في حكم مصر، أعلن عن مفاجأته المبيتة بالترشح للرئاسة، لتحتشد كل القنوات والفضاءات لاستعجال الفرح برئيسهم القادم، وكم بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء.
وفي جوار أرض كنانة تطل عليك ليبيا التي تشكو من ويلات فراغ الدولة، لكأن القذافي قام بتصفير ليبيا من كل شيء، فما أبقى فيها نظاماً ولا دولة، وكان عليها أن تبدأ من حيث العدم لبنة لبنة وخطوة خطوة باتجاه مستقبلها الذي يتعطش لنظام ديمقراطي حقيقي ولكنه يفتقر لمقوماته الصلبة.
ورغم أن ليبيا تمضي بهدوء إلى مستقبلها، إلا أن أطرافاً تنوي بها الشر والضرّ، فمرة يطل القائد العسكري خليفة حفتر من غيبته ليعلن على الملأ خارطة طريق هشة تطير بها الركبان العربية فتعود خاوية حتى من خفين تقيها رمضاء الفضيحة الإعلامية المدوية، ثم تعبر قطاعات مسلحة من الثوار عن ضجرها وتململها فتستعيد النوايا الخبيثة الأمل في إحياء مشروعها، وهذا يكشف عن جانب من المترصدين لمصير الثورات العربية والدول التي قامت بها، ممن يوظف آلاته الإعلامية وأرصدته البترودولارية لإجهاض المكاسب وتشويه الحقائق.
ورغم أن التفسير بناء على ترصد النوايا المتآمرة لا يصح في بناء متين لدولة تتشرف مستقبلها، أكثر من الاستعدادات السياسية والبنيوية التي تسهم في تشييد الدول الدستورية والأنظمة الديمقراطية ولكن الفضاء العربي مسموم بالتدخلات الخارجية والأيادي المبيتة.
وفي اليمن السعيد الذي عاث فيه نظام صالح الفاسد، جاءت المبادرة العربية لتنهي احتمالات مصائر دموية كانت تنتظر الثورة هناك في بلد لديه الاستعدادات القتالية والاجتماعية الكافية للخوض في الدماء، ورغم أن المبادرة خففت من الآثار السياسية الإيجابية للثورة ولكنها حافظت على دماء اليمنيين.
انتهى المخاض الصعب للحوار الوطني إلى نتيجة جريئة وربما للوهلة الأولى لا تملك رصيداً من الواقعية في بلد يعيش على التقاليد القبلية العتيقة ويضرب فيه الجهل والفقر والفساد بقوة مما يستدعي دولة مركزية قوية ترتب التنمية على نحو يستغل الموارد الضعيفة وينظم عملية توزيعها، فضلاً عن المخاطر الأمنية الملحّة في ظل تهديد الجنوب بالانفصال بعد وحدة هشة فرغها عهد صالح من قيمتها الوطنية والإنمائية والمخاوف التي تحيط بملف الحوثيين الذي يستقوون بالعامل الإيراني وهويته الطائفية الحادة.
اليمن مثقل بالملفات، وهو أوضح صورة لحضور "الدولة" المتواضع في الواقع العربي، يعاني هذا البلد من التدخلات الخارجية الصارخة، ومن ضعف الثقافة الاجتماعية، وعندما قامت الثورة لإزاحة النظام الفاسد الذي زاد من أعباء المشكلات على شعبه لم يكن هذا ليكفي للتخلص من اختناق الواقع، وربما تكون اليمن أحوج الدول العربية إلى جبهة داخلية ناضجة وقوية تحتكر القوة وتدير مشروعاً تنموياً وطنياً استيعابياً يلائم الجروح الداخلية ويؤطر الشعب بأطيافه المتنوعة وأجهزة الدولة في مشروع المستقبل.
أما سوريا التي تترنح في دمائها، فإن جنيف في نسخته الثانية لم يحمل جديداً لأزمة الإنسان والثورة، الخيار الجهادي الذي يطمح إلى اجتثاث جذري للنظام لا يروق بطبيعته للقوى العظمى، كما أنه لا يملك مقومات ذلك، فالدعم العتادي قاصر أو مقطوع حتى تغير أرتال المجاهدين من عقيدتها لتقبل بالخيار السياسي الذي يهادن النظام لبعض الوقت.
المجاهدون الأجانب ارتكبوا خطأ تدفقهم، ومهدوا لخطيئة الخذلان الدولي بحجة المتشددين واستغل النظام الأسدي البائس هذه الشماعة لاستنزاف الوقت وكسب المؤيدين، وما زالت القضية تدور في رحى الطائفية المقيتة التي تدفع بالمسلمين في حرب خاسرة، والله وحده يعلم كيف ينتهي الحال بسوريا.
فوضى الجهاد ليست وحدها التي تسببت في تعقيد الثورة السورية وتعسير مخاضها، ولكن سوريا تحولت إلى مسرح لعبث القوى العظمى وتطاحن الرؤوس الدولية وتكسير العظام، تبدد المصير السوري بين عواصم الدول التي تتقاسم العداء والولاء وتمددت أصابع المخابرات العربية والأجنبية في جسد هذه البلاد التي تحتاج لعقود حتى تتطهر من براثن هذه الأزمة.
ولا تتحمل الثورة مسؤولية ذلك، ولكن النظام منذ بدايته وحتى بلغ من الظلم عتيّاً وهو يقحم سوريا في حروب الوكالة لإمضاء عقود الخلود على أرض الشام.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق