التخطي إلى المحتوى الرئيسي

المجتمع البديل




عمر علي البدوي

«البنت إذا كانت عطشانة وحطيتلها بطل ماي ويمه بلاك بيري، راح تاخذ البلاك بيري وتكتب: عطشانة حدي» رسالة بلاك بيري
أعتقد أن واحدا من أسباب نجاح فكرة شبكات التواصل الاجتماعية والأجهزة التقنية الجديدة التي تجري مجراها؛ هي عملها على تخليص مستخدمها من حالة الاغتراب التي يعانيها الإنسان، فكلمات مثل قبول الصداقة والإعجاب بالمنشورات والتعبير عن حالتك الآنية وما تفكر فيه على الفيس بوك: كلها جوانب تدغدغ الإنسان وتبعث له الشعور بالثقة في نفسه وإحساسه بالقبول الاجتماعي
وكذا في تويتر فاستخدام تعبير (متابعة) وأتباع ودواليك مما يغري المشاهير ورجال الفكر والثقافة والسياسة ممن يستخدم هذه التقنيات لاكتشاف انتشار أفكاره ومناصري توجهه واستخدامها كقراءة عاجلة ومبسطة لحالة القبول الفكري له وربما التوافق على مستوى الرموز في التوجه والمسار، ناهيك عن جوانب لها انعكاسات شعورية بالثقة والاطمئنان مثل (إعادة التغريد – التفضيل – والهاشتاق: كتعبير عن تسليط ضوء الاهتمام حول شخص أو فكرة ما)
في البلاك بيري غزل من نوع خاص لمشاعر الإنسان البسيط الذي يجد ما يطحنه في بقية الشبكات الاجتماعية التي ابتلعها الرموز بشهرتهم الذائعة وحضورهم المتوهج، فعلى مستوى العامة وجد الناس ما يغريهم من (قبول الإضافة) و(إعادة توجيه الرسائل) والإهداءات
وأصبحت إشارة (ping) تدل إلى استدعاء من نوع خاص للمحادثة الشخصية المتبادلة، وإشارة (تجاهل) طلب صداقتك مؤشراً قاسياً على الرفض وانزعاج من شخصك، بينما صوت الرسائل والتحديثات لدى المراهق نافذة إلى العالم وكأنه يمور بالحركة ويعيش في نشاط مستمر لا ينقطع
وأعرف شاباً قليل ذات اليد إذا انقطعت الخدمة عن هاتفه يشعر بالضيق، لكأنه انقطع عن شريان الحياة بمجرد حرمانه التواصل مع أصدقاء قد تربطه بهم علاقات مباشرة في المدرسة والشارع والملعب ولكن يجد في قوائم الاتصال لديهم شيئاً مثيراً ومختلفاً ويستحق المتابعة
هذا الإحساس بالانقطاع أوجد (فزعة) من نوع خاص وكأنه أبدل معاني التشارك والتعاون على أساس انعكاسات هذه التقنيات على الحياة الاجتماعية، فيكفي أن تشعر مجموعة ما بانقطاع صديقهم الافتراضي أو مطالبته بالمعونة حتى يبادروا بدعمه وتحمل بعض تكاليف إعادة تنشيط الخدمة
كما أن الصور الرمزية والرسائل الشخصية أصبحت كافية للتعبير بالإنابة عن الإنسان ومزاجه وحالته النفسية والصحية لمجرد البحث عن أشخاص يشاركونه المغنم أو المغرم، ويبادلونه الشعور بالاهتمام والاحترام
كتب عبدالله الوهيبي أحد مستخدمي تويتر في تغريدة ما «الهوس الذي وفرته الأجهزة الحديثة بالكرنفال الدائم من الصور الشخصية هو تعبير عن النرجسية الدفينة في أعماق كل نفس ذائقة الموت» ولاقت لدي إحساناً وتوافقاً لما رأيته
أصبح التعلق بالأدوات التقنية بادياً على الشباب المنغمسين في المراهقة بكل حمولاتها وأثقالها العاطفية والذهنية، لقد استعاضوا عن مواقعة التجارب على الأرض إلى عالم من الافتراض لا يسلم من عيب وقصور فادح
لقد زاد من إحساس بعض الشباب بالغربة والاعتزال الاجتماعي، وأوجد لهم هذه المرة بديلاً آخر وبرر لهم الانطواء المزعج الذي ربما يتحول إلى رسوبات اجتماعية تشل قدرته على التعايش والاندماج البشري، زاد من أسئلة القلق في ذهنه وإحساسه بخطر العجز عن إجابات كافية أمام ضغط التحول إلى عمر جديد في ظل غياب راشد من مؤسسة البيت والمدرسة والمسجد الفاعل
لقد خلق البلاك بيري مزيداً من الوهم لدى المراهق بقدرته الفذة في بناء العلاقات الجيدة التي لا تجد لها أثراً مباشراً في قدراته على التواصل الجيد مع الآخرين، خلق لديه وهم العلاقات الواسعة والشعور بالقبول الاجتماعي الكبير، بينما يعيش انفصالاً حاداً مع واقعه
لقد عانت الأسر والمدارس كثيراً من القدرة على تأهيل الأبناء على قوة الشخصية وبناء القدرات التعبيرية ودهمت التقنيات الجديدة لمفاقمة هذه المشكلة وترسيخ الإعياء الصارخ لدى المراهق
ضعف الشخصية داء كثير من أولياء الأمور، واليوم إلى جانب الضعف الصريح أضيف وهم القدرات الاجتماعية المتهافتة، عداد الصداقات الرقمي يتزايد ورصيد المراهق في المجتمع الواقعي ينخفض بفعل المزيد من الانطواء عن المجتمع والانكفاء على الذات ومفاقمة الأخطاء التي تجد لها التأييد والعضد من أصدقاء خارج الحدود التي تقع تحت طائلة نظر ودراية الوالدين سيما من يعاني قلة في الإلمام بهذه التقنيات الجديدة ليزيد ذلك في الطين بلة
إذا كان «تويتر» استطاع نقض عدد من الحكومات الفاسدة وحقق ثورات شعبية لا مثيل لها في تاريخ العرب، وكان «فيس بوك» متنفساً للمواهب الناضجة وفرصة لنشر أطروحاتهم وملتقى ثرياً للطبقات المتوسطة، فإن «البلاك بيري» كان ملتقى عاماً للعوام واحتوى كافة أطياف المجتمع البسيط وربما أسهم في إحياء الحراك الاجتماعي ولكنه رسخ كثيراً من الظواهر السلبية لديه .
الرابط : 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

انحسار الشافعية من جنوب السعودية : ماذا خسرت ” القنفذة ” بجفاف طبيعتها الدينية ؟

البندر | عمر البدوي - القنفذة استقر في ذهني أن المذاهب التي تشق طريقها في جسد كل دين هي بمثابة عمليات التسوية بين أوامر الشريعة وحاجات الإنسان ، بين المبادئ والمصالح ، بين الدين والدنيا ، بين الحق والهوى ، بين عزائم الدين وظروف البيئة ، وهذا يعطي الأديان فرصة العيش بانسجام واحترام مع البشرية ، كما أنه يعطيها القدرة على البقاء والصلاح لكل زمان ومكان . إذ تختلف طبائع البشر حسب جذورهم العرقية وظروفهم البيئية وتوافر الشروط المادية ، ولأن الأديان لا تصادم مصالح البشر ، فإن المذاهب تقدم جهداً في سبيل إعادة صياغة المقدس مع الواقع ، وتفسير النص على ضوء المصالح . كما أن الاختلاف وارد في سنن الكون وطبيعة البشر وتركيبة الدنيا ونسيج الحياة ، وهذا ما يفرز مذاهب متعددة تنتمي لها الطوائف عن قناعة ورضا وينبت على هوامشها التعصب لدوافع الانتماء العميق والاحتماء بالكيانات المختلفة التي تمنحهم الشعور بوجودهم وتميزهم وتمنحهم هوية البقاء والحياة . وكل من يصادم الطبيعة المودعة في مكنون الدنيا لأغراض سياسية أو اقتصادية أو حتى دينية متخيلة ، فإنه لابد سيقع في قبضة المغامرة غير المحسوبة وس...

«بيت الرشايدة».. «وقف» تحول «أكاديمية» تحتفظ بأسرار جدة

جدة – عمر البدوي   تسجل حارات وأزقة جدة القديمة، التي لا تزال تحتفظ بروحها وعبق تاريخها في الأبنية الشاهقة، وهي تقف في قلب المنطقة التاريخية، شهادة على النواة الأولى التي انبثقت منها واحدة من أهم المدن التجارية في تاريخ المملكة والشرق الأوسط. في حارة الشام، وتحديداً في شارع أبو عنبة، يقف معمار أخضر شامخاً بين أبنية المنطقة، على باب المبنى لوحة نُحتت عليها آية قرآنية، وأرّخت اللوحة في العام 1301 للهجرة. ويُسمى هذا المعمار «بيت الرشايدة»، نسبة إلى بانيه محمد عبدالرشيد، ويتكوّن من أدوار عدة، وأوقفه الرشيد علي العثماني في العام 1333هـ، بيت الرشايدة أو البيت الأخضر من أجمل البيوت التراثية وسط جدة القديمة، ويعود عمره إلى أكثر من 150 سنة. وتعود تسمية البيت إلى قبيلة الرشايدة التي ينتمي إليها بانيه وموقفه، وهي من القبائل المهاجرة من الحجاز وإليه. إلا أن ملكية البيت الآن تعود إلى وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد السعودية. ولأن البيت خلال الستينات الميلادية من القرن الماضي، احتضن نشاطاً أكاديمياً، تحول الآن وبفضل أحد فنّاني جدة إلى «أكاديمية حديثة»، بعدما استأجر...