التخطي إلى المحتوى الرئيسي

الإفصاح عن الذات




  • عمر علي البدوي
«داج معتّق.. بكالوريوس سماجة مع مرتبة الشرف الثانية من جامعة أكسفورد قسم الفنون والمواهب الصعبة.. جوهري يا رجل من يحترم.. يحترم».. هكذا يكتب (رئيس حزب الكدادين) تعريفاً بشخصه على جدار تويتر، وهكذا يغريك تويتر للتعريف بنفسك والكشف عن جوانب من حياتك، يحرضك لتختار التعريف الذي يليق بك ويروق لك. الشعوب التي غرقت في الإهمال اليوم تيقظت لحقها في التعبير، مارس عليها المستبد كل صنوف التسطيح والتجهيل والإبعاد عن مواطن المشاركة، واليوم تنتفض لأبسط حقوقها وتطلب كرامتها، وتفصح عن ذاتها.
أحياناً.. نحن من يصنع الوجاهات المزيفة! ومشكلة المقامات عندنا نحن العرب يصنعها (المنصب - الشهرة - النفوذ - المال - السلطة) ولا تقوم على معان حقيقية، وبالتالي تجد أكثر الناس استحقاقاً لهذه المكانة الاجتماعية يتكدسون في طابور عاشر مصيرهم التجاهل والتغييب. نحن مجتمع مستسلم لذهنية متراجعة، ويكفي أن تجد رجلاً بديناً بأكتاف واسعة يتزيّا بمشلحه المهيب ، بينما تتقدمه»كرشته « خطوات لتفرش له الطريق، ويحتف به الجهّال، وتلاحقه أبصار الدهماء الشاخصة. ثم تشتغل «الإشاعة الاجتماعية» في أذهان الناس وعلى ألسنتهم، إنه رجل (غني - واصل - شخصية مهمة علمية أو قبلية - مسؤول دولة)، ثم تبدأ الوجاهة تصنع منذ الآن لترافقه حتى يسحب البساط من تحت قدميه «ذو مشلح آخر».
كلمة «الشيخ» مثلاً التي تطلق لثلاثة (رجل الدين - التاجر الغني - سيد القبيلة) يكفي لإطلاق هذا الاسم أن يتمسح شخص ما بأركان واحدة من هذه الطبقات الاجتماعية ليظفر بهذا اللقب الذي يكفيه شر التعب والمشقة للتصدّر والتسويد. بينما تستبعد أبداً المعاني الحقيقية التي يستحق أصحابها أن يكونوا في صدارة الصفوف، فضلاً عن تأثير هذا «العرف الاجتماعي البائس» على قتل الإبداع وإبطاء حركة التنمية وهضم حقوق الكفاءات وتصغير قيمتهم الاجتماعية والتقليل من الحماس للعمل والإنجاز والنجاح
فإن هذا التصرف السيئ يمهّد لصناعة الاستبداد السياسي، وتسلّط الحكام وفساد الحكومات، وإطلاق يد العابثين ومصاصي دماء وأموال وحقوق الأمة.. يجعل منّا شعوبا ميتة العزائم، مستسلمة خاضعة خانعة، يستبد بها مجرد قطعة قماش مهترئة، ويؤخر مقاعد النبهاء وخلص النجباء. الشعوب والأمم تشبه الكائن الحي، في مطالبه ومخاوفه، في آلامه وآماله، والحاجة للإفصاح عن الذات مطلب ركيزي لدى الكائن الحي بصفته فرداً بشرياً، وبصفته شعباً واعياً وأمة تأمل في النهوض. لا يتوقف الأمر على مجرد متنفسات لتفادي خطر الانفجار، فإن حديقة فاخرة في قرية تعاني شحاً في موارد الماء تعتبر غباء وصبيانية، بل يتجاوز الأمر إلى تحسين شروط المشاركة. والأصوب نقض المشاركة المشروطة إلا إذا تجاوزت حدود اللياقة والقانون. وليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، لكن المستبد يتحول لديه الطموح من طاقة يوظفها في خدمة شعبه وترسيخ قدمه إلى هوس يبتلع معه الشعب والثروة والأرض، ثم يسقط مغشياً عليه بداء التخمة.. إنه يبتلع نفسه ويقضم ما تبقى من أيامه. قديماً كان صبية الجنوب إذا رأوا ثعباناً يتلوى حول نفسه قبل انخماد الحياة داخله، عاجل أحدهم بالقول: إنه يعدّ أيامه.. لا أعرف كم هو الشبه كبير بين المستبد الذي يحاول جاهداً أن يقبض على كل صغيرة وكبيرة في بلده المتهافت من إعياء الاستبداد، وبين هذا الثعبان المقبل على الموت. يبدو أن قصة عدّ الأيام متشابهة لولا أن الثعبان لا يملك أصابع لإدراك عددها المتناقص. لقد تسبب «تويتر» و»فيس بوك».. أكبر شبكات التواصل إلى جانب غيرهما في إحداث دهشة لدى المستخدم البسيط، ليس أقلها سرعة الانتشار والأثر الذي يتركه تصرف صغير أو تغريدة جانبية في مجتمع مسكون بالبطء والرتابة، إنها تقلب الأمور رأساً على عقب، تحول هذا الخمول الذهني إلى حراك واقعي ونتائج خيالية.
هناك دهشة الحرية، لأول مرة يلمس مواطن عادي قدرته على الحديث العفوي المنطلق، رغم الرسوبات النفسية والذهنية للخوف والتردد، مثل رجل أعجم لم ينطق حرفاً في حياته، يستيقظ من نومه الروتيني ليكتشف أنه استعاد قدرته على الكلام وأصبح ينطق، إذا كان تعريف الإنسان في دوائر الفكر النسقي هو حيوان ناطق، فلقد استعاد هذه المرة نطقه وإنسانيته الدفينة معاً، لقد أطلق كل هذين المحتبسين من داخله.
الإفصاح عن الذات انعتاق من ربقة الإملاء الخارجي، انسلاخ من عهدة الوصاية المؤذية، كل أمة أدرى بمصلحتها، ولا يوجد طرف آخر يكون (أبخص) بالمسؤولية وأولى بالمهمة وأجدر بالمستقبل من مجموع الناس أنفسهم الذين يدفعون الخسائر أو يظفرون بالمكاسب.
الحرية مطلب أصيل وليس غرضاً راهناً، لكنه يتعرض للانتقاص دائماً، وهي ليست منتجاً حديثاً جاءت به تقنيات تويتر وفيس بوك، ولكنها أعادت إنتاجه من جديد وبروح العصر الحديث، استعادته الشعوب على جناحي تويتر وفيس بوك.
المجتمعات الشجاعة هي التي تواجه حقائقها، ولا تستنقذ الأمم من آثار الغزو الفكري ولا من بشاعة أعدائها إلا بالتمكين، وهو أن تعمل المجتمعات بكل ثقة على تمحيص تاريخها والاسترشاد بثوابتها والعمل بثقة وقدرة وإرادة على بناء المستقبل.
كما أن التحصين لازم في حركة المجتمعات إلى مصائرها، وهو الاعتصام بالثوابت القطعية التي تجسد إطارنا العام وشخصيتنا الثقافية والحضارية.
إذا كان العقد الماضي احتفل (ببروز الشعبي وسقوط النخبة) وشيوع ما يسمى (بالثقافة التلفزيونية) وتتويج الصورة بوصفها نسقاً ثقافياً، فإن هذا العقد ساعد على بروز الشعبي ورسخ دوره بما لم يسبق له من قبل، عبر أدوات تواصل وتقنيات تأثير وضغط خلقت له قنوات تعبير وتعبئة، وأشركته في الفعل المباشر لتنمية بلاده ورفع الظلم عنها، وتصحيح صورتها وسلوكها.
كما انعكست هذه الثقافة الجديدة التي أوجدتها تقنيات الاتصال الحديثة على كل مجالات الحياة ونشاطات الإنسان، وخضعت لمحاولات التوظيف من أجل الخير والشر معاً كعادة الإنسان في تجيير الأدوات المستطاعة لرغباته.
نسيت أن أقول لكم إن (رئيس حزب الكدادين) يسكن في شيكاغو!


الرابط :

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

السعوديون يحتفون بالذكرى السابعة لبيعة الملك سلمان

خادم الحرمين رافق مراحل التنمية على مدى 60 عاماً   الاثنين - 3 شهر ربيع الثاني 1443 هـ - 08 نوفمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15686] الرياض: عمر البدوي وبندر مسلم يحتفي السعوديون اليوم بالذكرى السابعة لتولي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز مقاليد الحكم في 23 يناير (كانون الثاني) الموافق (3 ربيع الثاني 1436هــ) ومبايعته ملكاً للبلاد، ورائداً لمرحلة جديدة تخوضها السعودية منذ وصوله قبل ٧ سنوات، كسابع ملوك المملكة بعد إعلان توحيدها عام 1932. الملك سلمان بن عبد العزيز الذي رافق مراحل مفصلية من عمر البلاد، اختبر خلالها المفاصل التاريخية التي آلت بالسعودية إلى ما هي عليه اليوم من تنمية وازدهار، ومن موقعه سابقاً، حيث كان أميراً لمنطقة الرياض لأكثر من خمسة عقود وتسميته أميراً لها عام 1955 وهو في عقده الثاني من العمر، راقب البلاد وهي تنمو. حتى أصبح قائداً للبلاد، وشاهداً على نهضتها الجديدة، في مختلف الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية والتنظيمية، والأعمال والمشاريع والمبادرات السريعة والمتلاحقة على المستويين التنموي والاجتماعي، والتي أضحت بفضلها السعودية منافساً تلقائي...

«تتبع الحجارة» عنوان 100 يوم من الفن المعاصر في بينالي الدرعية

السعودية تشهد اليوم واحدة من أكبر المناسبات الفنية العالمية   السبت - 7 جمادى الأولى 1443 هـ - 11 ديسمبر 2021 مـ رقم العدد [ 15719] الرياض: عمر البدوي أصبح حي جاكس جاهزاً لانطلاق الدورة الأولى من بينالي الدرعية للفن المعاصر، واستقبال المتطلعين لزيارة واحدة من أكبر المناسبات الفنّية العالمية، ابتداءً من اليوم (السبت)، حتى 11 مارس (آذار) المقبل، وهو أول بينالي دولي يتطرق لموضوعات وأشكال الفن المعاصر في السعودية، ويعرض أعمالاً لفنانين عالميين ومحليين، مع مجموعة من الورش الثقافية والتجارب الممتعة. يأتي بينالي الدرعية، كتجربة استثنائية، ومنصة إبداعية تمتد لمائة يوم، تكشف جوهر الفنون السعودية بمختلف أنماطها، وتُفسح للفنانين مساحات للحوار وإثراء تجاربهم، لتعزيز المشهد الثقافي والفني، وتمكين المواهب المحلية، واستقطاب مجموعات الفنانين الدوليين لإغناء الحدث الفني المهم. وقال راكان الطوق، المشرف على الشـــؤون الثقافية والعلاقات الدولية في وزارة الثقافــــة الســـــعودية، إن استضافة المملكة لأول بينالي للفن المعاصر، يعدّ إنجازاً استثنائياً، وإن أهميته تأتي من كونــــه نقطة التقــــــاء للعالم،...

ماذا يخطر في بالك ( 5 ) ؟

هنا أنقل بعضاً من منشوراتي على صفحتي في ( الفيس بوك ) . راجياً لكم النفع والفائدة  . ضعف التقدير يقود إلى سوء التقرير . .................. كلما كان واقعك ثرياً وغنياً ، بارت بضاعة خيالك الواهم . …………… إذا أحببت شيئاً ثم التقيت به بعد غياب فكأن الروح ردت إليك بعد غيبة الموت ، أو العقل عاد بعد جنون ، أو الذاكرة استفاقت بعد غيبة . كل الأشياء الرمادية تسترجع ألوانها الزاهية ، والروائح الزاكية تستجرّ عنفوانها ، والمشاعر اللذيذة تستعيد عافيتها . ما يفعله الشوق بك من ذهاب العقل وغيبة الذاكرة وموات الروح ، يفعل بك الوصل أضعافه من الفرح والطرب والنشوة . لقد جُبل هذا القلب على الإلف بما يحبه والتعلق به حتى يكون بمثابة الطاقة الموصولة بألياف الكهرباء ، أو الزيت الذي يقدح النور ، والجمر الذي يستفز أعواد البخور . وإذا غاب المحبوب واستبد بك الشوق انطفأ نور الوجه وضاقت النفس وذهب الفرح حتى يعرف ذلك في حدة طبعك وانغلاق عقلك وعبوس وجهك ، فإذا التقى المحبوبان والتأم القلب عادت المياه لمجاريها وشعشع الوجه واتسع الثغر وانفرجت الأسارير . سبحان من خلق . ……………… إذا كنت...