عمر علي البدوي
عبدالرحمن شاب ينتمي لأسرة متوسطة، وهو شاب أنيق مكسو بالحياء وهادئ، قليلا ما يتكلم، وإذا حدث فليس أكثر من ابتسامة واسعة، وبريق عينيه جذاب للغاية، لم ترزق عائلته سوى بإخوته من الذكور ولذا اضطرت أمه لتحمل مشاق العمل في المنزل إلا من تعاون من بعض أولادها، وبالطبع فإن عبدالرحمن خير من يعين والدته ويتحمل تكاليف النظافة وغسل الصحون أحيانا
لا يعرف عن المرأة سوى صورة أمه السمحة الحنون الرؤوم، وبقي عالم البنات مبهما بالنسبة له، يحنّ كثيرا إلى ولادة أخت تضفي إلى المنزل مسحة أنوثة رقيقة، تماما كما كانت أمه تحن إلى ذلك لولا أن اقترابها من سن اليأس ينذر بالقلق
اليوم يجلس عبدالرحمن ساعات طوال على هاتفه البلاك بيري ويغرق فيه إلى درجة الغياب، لا تكاد تجده إلا منهمكا في محادثاته الجانبية مع أصدقائه في الشبكة، يتبادلون تجاربهم وقصصهم الخاصة وأحيانا مخاوفهم ومغامراتهم، يبدو أن عبدالرحمن وجد ضالته وبدأ يحيط بعالم البنات الخافي على شاب مثله، اقترب كثيرا من مستوى تفكيرهن وأدرك ما يجول بخواطرهن ومخابئهن، اكتشف هذا العالم الذي لا يختلف كثيرا عن أشقائهن من الشباب
لم يهتم ببناء علاقـات مباشـرة ولا ثنائيـة، ليسـت لديـه طموحات عاطفيـة ولا شيطانيـة، كانـت الرغبـة في اكتشـاف هذا العالم تطغى على كل تفكير، فقط أراد أن يشبع رغبته بالإلمام بجوانب حياتهن، والإحاطة بأسرار البنات، إذ لم يسبق له في حياته قط أن تحدث مع فتاة أو تعرف على نمط تفكيرها وطبيعة تعاملها إلا شتات ذكرياته القديمة في أيام رياض الأطفال وبعدها انقطع فجـأة بانتقالـه إلى الصـف الأول وتحولت المرأة إلى كائن غرائبي يثير شغفه بالمعرفة ورغبته في الاكتشاف
يبدو أن شبكات التواصل الاجتماعي وتقنيات الاتصال الحديثة أسقطت الاعتبارات القديمة ورفعت الاحتياطات الاجتماعية المضروبة دون التواصل بين أقطاب المجتمع، زعزعت الحظر المرسوم على حدود المختلفين جنسيا أو عمريا
اليوم تجد صداقات افتراضية ناشئة دون اعتبار لفارق السن أو الجنس ولا اشتراط لاختلاف المكونات المعرفية والسلوكية، فوضى ضاربة في سياسة العلاقات الاجتماعية، تجاوزت هذه الشبكات المحاذير التقليدية التي رسمت لبناء العلاقات للخروج منها بأقل الخسائر وأوفر المكاسب
هناك عقلية جديدة تدير التركيبة الاجتماعية، انفتاح غير مسبوق، وجرأة على اقتحام المناطق المحظورة بطوق اجتماعي أو شرعي أو حتى تربوي، يستلزم حيال ذلك العمل على ملاحقة الفارق الزمني بين الأجيال وسد الفجوة التي قد تتسبب في انقطاع معرفي أو خراب سلوكي
العم زهير، والد عبدالرحمن، يملك (جلسة سواليف) على اليمين من منزلهم العامر، يجتمع رجال القرية الكبار من الآباء لتبادل الأحاديث وتزجية الوقت بالسمر والفضفضة، عندما أجالسهم أشعر بصدمة ثقافية عارمة، مستوى تفكيرهم - بقياس الحداثة الاتصالية - متأخر للغاية، ينتظرون من أولادهم انتهاج طريق مغاير تماما لواقع الحال، يحمّلونهم مسؤولية مستقبل لا ينبئ الحال بالانتهاء إليه، هناك فجوة!هل يعني هذا بروز ما يمكن تسميته (التربية الالكترونية)؟، بالتأكيد، إذ لا بد من تقريب وجهات النظر وردم الهوة الثقافية بين الأجيال، وتأهيل الأسر للاقتراب من الخط الحداثي الذي يتقلب فيه الزمن، وتجاوز التقاليد التربوية والاجتماعية التي تترنح تحت سياط الانفتاح العارم الذي يجرف كل الاعتبارات التقليدية
سئل الملياردير المعروف بيل جيتس صاحب شركة مايكروسوفت المتخصصة في البرمجيات، كيف تجد وقتا لمراقبة ابنك أثناء استخدامه الانترنت على الرغم من المخاطر؟ فأجـاب بارتيـاح شديـد: ليس أكثر من الاتفاق على وقت محدد للاستخدام وتجنب المواقع التي تحوي محاذيرا ما، ثم أتركه لضميره في التعامل مع ميثاق الشرف الذي وضعناه على قاعدة الثقة المتبادلة الصلبة
في العالم العربي انتشرت إعلانات تجارية مبتذلة تتاجر بمخاوف الوالدين لفرض برنامج رقابي صارم يصعّب تمرير المواقع المحذورة ويحجر على نشاطات الابن، اليوم أصبح الحديث من هذا النوع مثيرا للضحك والشفقة، الانفتاح الاتصالي الثوري غيّر المعادلة، وبقي الرهان على الحصانة الذاتية والبناء النفسي المعتدل والمتين
ليست هذه دعوة مفتوحة لنقض القيم الاجتماعية، على الإطلاق! ولكنها دعوة حقيقية لتطوير منظومة التفكير والتربية والثقافة الاجتماعية لتواكب الحداثة الاتصالية وآثارها على ذهن المراهق وسلوك الشباب، دعوة لإصلاح عيوب الاستجابة المتأخرة التي تعانيها المحاضن التربوية والتعليمية والتخفيف من فجوة التصادم بين ثقافتين تختلف على أساس الأدوات والزمان وربما الغايات كذلك
«دون كيخوت دي لا منتشا»، هي رواية مكتوبة مبكرة للمؤلف الإسباني ميغيل دي ثيـرفانتس، اختار معهد نوبل هذه الرواية لتكون في المرتبة الأولى في قائمة أفضل عمل أدبي في التاريخ
دون كيخوت هو رجل نحيف طويل قد ناهز الخمسين، بورجـوازي متوسـط الحال يعيش في إحدى قرى إسبانيا في إقليم لا منتشا الإسبانـي إبان القـرن السادس عشر، لم يتـزوج، من كثرة قراءاتـه في كتب الفروسية كاد يفقد عقله، وينقطع ما بينه وبين الحياة الواقعية ثم يبلغ به الهـوس حدا يجعله يفكر في أن يعيد دور الفرسان الجوالين وذلك بمحاكاتهم والسير على نهجهم حين يضربون في الأرض ويخرجون لينشروا العدل وينصروا الضعفاء، ويدافعوا عن الأرامل واليتامى والمساكين
فأعد عدته للخروج بأن استخرج من ركن خفي بمنزله سلاحا قديما متآكلا خلّفه له آباؤه فأصلح من أمره ما استطاع، وأضفى على نفسه درعا، ولبس خوذة وحمل رمحا وسيفا وركب حصانا أعجفا هزيلا
نرى دون كيخوت في الجزء الأول من الرواية كمبدع فانتازي حقيقي أتخم من قراءة نصوصٍ قديمة عفنة، فينطلق ليسن قوانين الفروسية من جديد، ليدافع عن العدالة والحب في عالم آثم
يقاتل طواحين الهواء، النعاج وبنات صاحب الخان، ويقول كارلوس فوينتز في مقالته العظيمة عن دون كيخوت «إنها فن يُحيي ما قتله التاريخ»
يتبرأ دون كيخوت المحتضر من «أشباح الجهل السوداء» التي جاءته من القراءة «من كتبي البغيضة عن الفروسية»، ويندم على شيء واحد فقط، وهو عدم امتلاكه الوقت الكافي لقراءة كتب أخرى يمكن أن تنير الروح
جسّد دون كيخوت فكرة أن العصر الجديد لا يمكن أن تمثله الثقافة القديمة، وعلى الرغم من الطموح الكبير الذي يحمله دون كيخوت لاستعادة القيم البالية فإن فشله في تحقيق أسطورته الشخصية دليل فشل تلك النصوص في التواصل مع العصر (ويكبيديا) .
الرابط :
http://www.makkahnewspaper.com/makkahNews/component/k2/item/17951-%D8%B3%D9%82%D9%88%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B9%D8%AA%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%82%D9%84%D9%8A%D8%AF%D9%8A%D8%A9-1?Itemid=1#.Uu7xNj1_soI
تعليقات
إرسال تعليق