الخميس، ٢٧ فبراير/ شباط ٢٠١٤ (٠٠:٠)
آخر تحديث: الخميس، ٢٧ فبراير/ شباط ٢٠١٤ (١٨:٤٩)جدة - عمر البدوي
لم تكن جدلية الديني والسياسي في الساحة الشرعية وليدة اللحظة، إذ كانت حاضرة بشكل ملحوظ على امتداد التاريخ الإسلامي، سواء عبر منظومته المعرفية والعلمية أم في صوره العملية والواقعية التي حفلت بالصدام والوئام أحياناً بين رجال الدين والدولة، وتحديد موقف الدين من السياسة لم يكن حكراً على التاريخ الإسلامي، ولكنه نقاش بشري عاشته كل العصور وجربته كل الحضارات.
مع موجة الثورات العربية، عادت هذه الجدلية إلى الواجهة بعد أن استطاعت بعض الأحزاب الإسلامية أن توظفه للوصول إلى الحكم ضمن سباق سياسي تقليدي، إضافة إلى ما يفرزه المشهد السياسي والديني من تحولات عميقة طرأت على البنى والمنظومات الفكرية والشرعية الإسلامية من الخط السلفي، إذ شهد مناورات سياسية ومشاركة حقيقية في بعض البلدان العربية، فضلاً عن الأحزاب الحركية بتاريخها السياسي القديم التي بلغت منصات الحكم والقيادة، واصطدمت بمراكز القوى الراسخة. كل ذلك أذكى الحديث الذي لا يزال قائماً حول مساحة التشابك المعقدة بين الديني والسياسي في مسألة الدولة والشأن العام.
وحول ما يدفع المشايخ للدخول في المعترك السياسي يقول الكاتب والباحث خالد العنزي: «هذا السؤال يعري بشكل واضح ذهنية نمطية تاريخية هيمنت على الخطاب السياسي الإسلامي لقرون، وهي ثنائية الأمراء والعلماء أو ما يطلق عليه في التاريخ الإسلامي حقبة الملك السياسي التي ظهرت في بداية عهد الدولة الأموية، وهذه الذهنية تتمثل في تحديد مسبق للفضاءات التي يتحرك فيها طرفا هذه الثنائية، وكانت التوازنات التي تحكم هذه العلاقة كافية لأن تمنع أو على الأقل تتحكم بشكل فاعل في عدم تقاطع أو تداخل هذه الفضاءات، وبالتالي عدم وقوع صدام بين الأمراء والعلماء، وهما في ذلك الوقت أهل الحل والعقد في المسألة السياسية والحياة العامة».
ويشير إلى أن هذا منظور تاريخي للقضية «لكن الذي نراه اليوم من تقاطع واضح بين الرمز الديني والسياسي هو نتيجة سقوط هذه الذهنية - ثنائية العلماء والأمراء - لمصلحة متغيّر جديد وهو الرأي الجمعي أو الأفراد (الشعوب)، وهنا استجاب الرمز الديني إلى حركة الواقع، وقام بمراجعات فقهية تأصيلية شكلت مسارات فكرية ممنهجة، وهي المدارس الفكرية التي نشهدها اليوم على شكل أحزاب وتيارات، وهذا يعني بالقطع انتهاء الحدود والفضاءات الفاصلة بين ما هو سياسي وديني في الخطاب الإسلامي المعاصر».
ويؤكد في حديثه إلى «الحياة» أن الممارسة السياسية أو حتى العمل العام للمنتسبين للدائرة الشرعية ينطلق من تصورات ورؤى تستند إلى قواعد شرعية وفقهية استدلالية، أكثر من كونها مشاركة سياسية فعلية يمكن محاكمتها إلى قواعد المصلحة أو الموقف السياسي. وإذا أخذنا في الاعتبار أن المادة الخام للخطاب الدعوي الجماهيري هي التاريخ والعاطفة، وكذلك أهم مدخلات هذا الخطاب من الخطاب المقابل الخصم له، والذي يجسده حالياً الطرح الليبرالي، فإن الخطاب الوعظي يجد نفسه تحت ضغط جماهيره، ما يضطره إلى أن يعمل بعقلية وذهنية الجماهير، فيتحول الخطاب الدعوي إلى مشروع وعظي يعمل بأدوات سياسية.
وأضاف: «هنا يمكن القول إن هذا الخطاب المشاعري مرشح بقوة للاستمرار في سياقه المشاكس سياسياً وثقافياً، ولا يمكن الرهان على تغيير في بنيته إلا بالتحول نحو خطاب عقلاني معرفي، وهذا يتطلب بالضرورة تفكيك بنية هذا الخطاب وتجديده بإحلال الفقه والنزعة النقدية كمادة خام بدلاً من العاطفة والتاريخ، لأن ذلك كفيل بإعادة بناء مسافة بينه وبين الجماهير بشكل يسمح له بالتخلص من ضغط تلك الجماهير».
وعن نتائج تشابك الدين بالسياسة في الواقع العربي والإسلامي يقول: «تشابك الدين بالسياسة أو تداخلهما هو حال ارتباط أزلي، ولا ضير في ذلك، بل إن هذه الحال لها سند شرعي في صميم الشريعة، فكيف لعاقل أن يقول بأن الإسلام سنّ قواعد وتشريعات للعبادات والمعاملات والآداب والأخلاق، وفي الوقت نفسه لم يسنّ أي تنظيمات للسياسة، فعن أي إسلام يتحدث هؤلاء»؟
ولفت إلى أن «المعضلة ليست وجود تداخل بين الفضاء السياسي والديني، بل المشكلة في التوظيف والاستخدام المتبادل لهذه المفاهيم، ويمكن القول إن أهم نتائج هذا الاستخدام هو ارتهان مشروع الدولة المدنية الحديثة التي تقوم على عقد اجتماعي توافقي يحفظ الحقوق ويقننها، ويحمي السلم الأهلي، ومؤسسات مجتمع مدني فاعلة تمثل كياناً مقابلاً لمؤسسات الدولة الرسمية، ما يحقق نوعاً من المشاركة الشعبية التي ترسخ لنظام مدني مستند على هوية إسلامية».
ورأى أن علاقة الدين بالدولة تحكمها عناصر، منها ما هو ثابت، وهو النصوص بقراءاتها التجديدية التي لا تهدر قيمة العصر فتغرق بالتاريخ، ومنها ما هو متغير يتشكل على هيئة مواقف ومصالح تحمل استجابات لطبيعة حركة الواقع وميكانيكية الزمن.
وشدد على أن علاقة السياسي بالديني كعنصر بشري (سياسيون ومشايخ) إذا تركت لتقديرات ومنطلقات كل طرف، فبالضرورة أن يؤدي ذلك إلى تقزيم مشروع الدولة، وربما تصل به إلى مفهوم أقرب إلى قبيلة سياسية، منه إلى مفهوم وفكرة الدولة الحديثة.
الشأن السياسي برأي المهتمين مسألة جماهيرية تغري كل الرموز للمشاركة فيه، والتداخل مع قضاياه المثقلة، ويضطر بعض علماء الدين إلى الإدلاء بآراء سياسية بحتة يغلب عليها الرأي الشرعي المنزوع من شروط الواقع، ويدفعهم أحياناً للمشاركة على رغم ضعف الاستعداد العلمي والمعرفي، ما ينتج آراء منقوصة ومشوّهة، ويزيد الطين بلة عندما تغلف بالخطاب الديني الممتزج بالمقدس النصوصي، ما يلهب قابلية الجماهير لخطاب ديني مُريح ومألوف على رغم ضعف وجاهته العلمية وحكمته السياسية التي يغلب عليها واقع المصلحة، وموازنة الظروف والنظر إلى المآلات.
ويبدو أن الفوضى التي تعيشها المجالات الدينية والسياسية والاجتماعية في العالم العربي تلقي بظلالها على الواقع، وتلقي بالأعباء على الجماهير وعلى فاعلية الأدوات الشرعية والسياسية التي تعمل في الفضاء العام، إذ يبدو أن فوضى الفتاوى والنزاع في المجال الشرعي بين رموزه ينعكس على تحريف دور رجال الدين في المجتمع، ويترك أثراً صارخاً في استغلال الدين وتنميط توجهات دينية تناسب السياسيين على اختلاف مشاربهم، كما أن الفوضى التي تعتري الواقع السياسي العربي وضعف الأرضية الديموقراطية والشوروية في إدارة الدولة، تنفخان في نار التخلف العربي .
الحصان: الشأن السياسي ليس مرتبطاً بأناس دون آخرين
يرى المحامي والقانوني عبدالعزيز الحصان أن الشأن السياسي يمس الجميع، ومن حق كل المواطنين في هذا البلد التحدث فيه وعنه في الوسائل كافة، وعبر مجالسهم، ولا توجد تفرقة بين فقهاء أو وعاظ أو أطباء أو محامين، فالجميع لهم الحق، والمصالح مشتركة تؤثر في الجميع. بناء على ذلك، فالأصل أن دافعهم المصلحة العامة مثل غيرهم، ولكن للأسف أحياناً يقوم السياسي بالتدليس على بعضهم في وقائع معينة، أو أوضاع محددة، لتحقيق مكاسب للسلطة السياسية، وهذه مكاسب شخصية تستخدم الدين من السياسي، وأحياناً يتلاعب السياسي على وتر الخوف لدى بعضهم، أو الترغيب بمنصب ما، فتكون الدوافع شخصية لهم وللسياسي».
ولفت إلى أن «القضية السياسية ليست مرتبطة بدراسة معينة، فنحن لا نتحدث عن أن الدعاة متخصصون في السياسة، لذا تجد أحياناً فقيهاً مميزاً في المجال السياسي يستطيع التحدث فيه، ويكون حديثه ذا قيمة، وأحياناً يحكم على الواقع بتصور السياسي فيحيد عن الطريق». وشدد على أن المحظور هو استخدام الدين للسياسة، وهذه نتيجة الاستبداد، إذ أصبح السياسي يحدد من هو المؤهل دينياً للفتوى.
وطالب بالفصل بين دين الاستبداد والدين الإسلامي الذي في ظله لا توجد مثل هذه الإشكالات، إذ يمكن تأسيس دول مؤسسات دستورية تكون الشريعة فيها مصدر التشريع، وتكون آليات الحكم وفق ما يبدعه العقل في هذا الزمن، وفي تلك المرحلة لن يوجد مثل هذا التشابك باستخدام الدين لمصلحة السياسي أو لمصلحة أي فئة أخرى، وإنما يكون للجميع الحق في جمعيات مستقلة إن أرادت تقديم مشاريع سياسية، لا لاستخدام الدين، وإنما لخدمة المجتمع والدين والأخلاق، وبالطبع يكون للفقهاء جمعيتهم الخاصة المستقلة، ولا يكونون تابعين للسياسي كما هو الحال في دول عدة.
يذكر أن إشكال المخرجات العملية والعلمية التي انتهت إليها المجاميع البشرية بين جماعة وأخرى كانت مختلفة، فواحدة وقف فيها رجال الدين عند حدود المنبر الروحي الذي يذكي مشاعر الجماهير، ويغذي خيال الأمة بالانتماء الديني العميق، وأخرى وصل فيها رجال الدين إلى سدة الحكم وإدارة مصائر البلاد والعباد.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق