الفجوة كبيرة بين عدد المستخدمين العرب لشبكة الإنترنت وحجم المحتوى العربي.
الخميس 2019/10/10
يغلب الشكل على القيمة في المحتوى الرائج على الإنترنت، وغالبا ما يمنح الجمهور العربي النجومية للبعض دون حساب للجدوى والمنفعة العامة، لكن نماذج أخرى من المشاريع الهادفة تثبت أن المحتوى الجاد لا يزال يملك الحضور والتأثير ويستطيع تحقيق الأرباح أيضا.
أفرزت التحولات العميقة في بنية وحالة الإعلام ومنصات الاتصال الجماهيري الحديثة، وضعا هشا أثر على قيمة المحتوى وميله إلى التفاهة وانتصار الكم على الكيف وتراجع الذوق في الكثير مما تبثه وتراهن عليه المنصات الجديدة.
الأمر الذي كرسته النجومية العصرية التي صعدت على أكتاف جماهير مستغرقة في استهلاك منتجات منصات الإعلام الجديد التي تهب الشهرة بمعايير متواضعة، حيث تغلّب الشكلانية على القيمة وتعطي الحظوة لما يطلبه الجمهور دون حساب للجدوى والمنفعة العامة.
يتهم الذوق العام الآن بالهبوط السحيق، تتقاذف مؤسسات المجتمع التهم بين مسؤولية النخب التي ترقت في أبراجها العاجية، وبين غوغائية الجماهير التي تستحوذ عليها أضواء النجومية الجديدة وزهدها في المحتوى الجاد ذي المعنى الثمين، وبين مرحلة جديدة من منصات الإعلام والتواصل فرضت لغتها وأعرافها النافية لكل التقاليد العتيقة التي عرفتها التجارب القديمة.
وبكل الأحوال، وبعد أن هدأ غبار الطفرة الأولى لنجومية جديدة، التقطت الأضواء، وبخست من أولوية المحتوى لحساب معايير أخرى، استعاد الواقع بعض عافيته واتزانه، بفضل مجموعة من المشاريع التي راهنت على المحتوى الجاد، وأعادت إليه الاعتبار، ورغم المشاق التي كان على رأسها عزوف الجماهير والمتتبعين ممن يلهث وراء سلع ذات شهرة طاغية بمحتوى هش ومتهافت، استطاعت أن تحقق نجاحات ملحوظة، وتحوز على اعتراف مؤسسي وشعبي، وأخذت تنافس على النجومية وتلتقط بعض الأضواء المسلطة، وتنال حظها من الشهرة المستحقة، وتعيد التوازن إلى المشهد العام، وتثري الخيارات المتاحة بعد أن كانت حكرا على نابذي المضامين الجادة والثرية.
في نهاية العام 2018، أصدرت مجلة فوربس العالمية تقريرا يسلّط الضوء على أبرز مشاهير يوتيوب الذين حققوا أعلى أرباح في العام من خلال قنواتهم على الشبكة الاجتماعية المتخصصة في محتوى الفيديو.
وعلى الرغم من أن القائمة لم تختلف كثيرا عن السنوات الماضية، واستمرّت بالأسماء نفسها مع اختلاف المراكز، فإنها تعطي إشارات شديدة الأهمية بخصوص نوعيـة المحتوى الذي يستهـوي جمهور يوتيوب، وتغلب عليه مراجعات الألعاب والمقالب والتحديات وتصوير الحياة الشخصية.
نحو 180 مليون دولار هو إجمالي الأرباح التي حصدها العشـرة الأوائل فقط من مشاهير يوتيوب خلال هذا العام، جميعهم من الذكور مع غياب العنصر النسائي تماما.
أصبح يوتيوب الآن واحدا من أهم مصادر الدخل لعدد كبيـر من المدوّنين المرئيين وصنّاع المحتوى حول العالم، بالإضافة إلى عدد من المنصات المنافسة، مع خسارة النوافذ التقليدية للترفيه والأخبار وربما التعليم كذلك، لجمهورها لصالح هذه الفرص التقنية الجديدة.
تتضاعف المشكلة أكثر في المنطقة العربية، التي تعاني أساسا من تواضع منسوب المحتوى الرقمي بلغتها الرئيسية، وشحّ المنصات الجادة الناطقة بالعربية، ورغم انطلاق عدد من المبادرات النوعية والمبتكرة التي تبنتها مؤسسات رسمية ومنظمات أهلية قديرة، لكن النتائج دون المأمول ولا تزال الفجوة واسعة.
ويبدو أن المحتوى ليس شحيحا وحسب، كما يصفه المتابعون ومراكز البحث والإحصاء، بل ضعيف أيضا من حيث النوع والقيمة، إذا ما استثنينا بعض المواقع الجادة والاجتهادات الفردية.
بل المشكلة الجوهرية هي أن كمّ المحتوى العربي ونوعه لا يتناسبان مطلقا مع ازدياد الحاجة إليه، إذ تبدو الفجوة كبيرة بين عدد المستخدمين العرب لشبكة الإنترنت وحجم المحتوى العربي.
وتعتبر تجربة شركة “ثمانية” للنشر، ثرية في الرهان على قيمة المحتوى وتطوير جماهيرية متصاعدة بهدوء، وبفضل اجتهاد مجموعة من الشباب السعوديين، تحول هذا المشروع الغضّ إلى شجرة فارعة ومثمرة من المبادرات التي تستثمر تقنيات متعددة لبث محتوى متنوع وقيم يلبي حاجات جمهور متعطش للاهتمامات الجادة.
وترى ريما طلال المشرفة على صناعة المحتوى في شركة “ثمانية”، أن تقديم المحتوى الجاد رهان يمكن الفوز به على الإنترنت، وتقول “في البداية لم نكن متأكدين من الفوز، لكننا راهنّا على المتلقي لأننا لاحظنا أزمة الاختيارات في المحتوى الذي نستهلكه، فلم تكن هناك اختيارات متنوعة وسط ضجيج المحتوى الهابط. وأصبح دافعنا الأول هو شعورنا بوجوب سد الفراغ وإنتاج محتوى مختلف، فحتى إذا لم يكن إنتاجنا هو المفضل لدى المتلقي فهو على الأقل أحد الاختيارات المطروحة له.
لكن بعد ذلك فاجأتنا ردود الفعل والدعم المستمر من قبل الناس وشجعونا على بذل جهد أكبر واستغلال الفرصة التي يبدو أنه لم يكن أحد يلاحظها، وحتى اليوم لا تزال الساحة بحاجة ملحة إلى المزيد من الاختيارات التي تليق بالمتلقي سواء كانت جادة أو ترفيهية”.
وعن تحدي التمويل الذي يعوق المشاريع الجادة، تعتقد ريما أن الخطوة الأهم والتي تسبق البحث عن تمويل هي التأكد من حاجة السوق إلى المشروع أو المنتج قبل إقناع المستثمرين أو تجربة النماذج الربحية المختلفة.
وأضافت “في ثمانية مثلا كنا متأكدين من هذه الحاجة إلى الإحصائيات والأرقام ولذلك حتى عندما لم نجد النموذج الربحي الأفضل لنا في البدايات، استمررنا في البحث وتجربة حلول مختلفة إلى أن وجدنا النموذج الأفضل لنا بعد مدة”.
لدى ثمانية خطط عديدة للتوسع، كلها على الشبكة العنكبوتية فهي المساحة التي تشبههم ويعتقدون أنها المستقبل وأن فرصهم فيها كبيرة، مثل التوسع في الإنتاج الإذاعي وبدء برامج بودكاست جديدة إلى جانب برامجهم السابقة، كما تخطط لدخول ساحات جديدة وإنتاج محتوى فني، ومحتوى رياضي ومحتوى معني بالصحة النفسية.
وعن المعادلة الصعبة بين المحتوى الرصين والأداة المعاصرة شديدة التعقيد، والوصفة الملائمة بالفوز في هذه المهمة، تعلي ريما طلال من شأن الإيمان بالتجربة والعمل المستمر إلى أن يجد صاحب الشأن وصفته الخاصة.
وتتابع “لكن في عالم المحتوى على الإنترنت، قد تكون الوصفة هي معرفة الجمهور المناسب، لست من أنصار فكرة إنتاج ما يطلبه الجمهور دائما، وأعتقد أن المبدع أو صانع المحتوى عليه أن ينتج ما يؤمن به ويريد إنتاجه، لكن يجب أن يجد المتلقي المناسب وجمهوره الذي يفهمه”.
من جهتها، ضربت الشابة السعودية لبنى الخميس (27 عاما) مثالا مميزا في جدوى تحقيق شهرة وتأثير واسعين بفضل الرهان على المحتوى الجاد في طرح تجربتها على شبكة الإنترنت، إذ استطاعت عبر المدونة الصوتية “أبجورة” إيصال صوتها إلى أكثر من 50 مليون شخص عبر العالم، من خلال إدراج تجاربها وقراءتها عبر منصة “البودكاست” وأصبحت تسمع على متن الخطوط الإماراتية وترعاها كبرى المؤسسات الأهلية في الخليج وحازت بفضل نجاحها جوائز مختلفة، من بينها جائزة الإعلام الجديد في دورتها الأولى من وزارة الثقافة والإعلام السعودية في ديسمبر 2017، كأحد أكثر المحتويات المؤثرة بالسعودية، بعد تصويت كثيف.
ولا تزال الخميس تطور مشروعها وتطرح مواسمها المتعددة بعزم أكبر وخبرة أوسع.
وتقول “بدأت الاهتمام بهذا المجال منذ مطلع 2016، عندما أدمنت الاستماع لهذه المنصة، وما تحويه من كنوز معرفية وثقافية وإثرائية متنوعة باللغة الإنكليزية، وتحديدا البرامج الأميركية، وكنت أقضي ساعات يوميا في الاستماع إلى الكثير من البرامج بهذه المنصة، كتطوير الذات، وريادة الأعمال، وتمكين المرأة، وتطوير الذكاء العاطفي والاجتماعي”.
لكن عندما فكرت في الانتقال إلى المحتوى العربي بداعي الفضول، واجهت أزمة الندرة وقلة ما يمكن الحصول عليه في مجال طرق حديثا، دفعها ذلك إلى بذل جهد شخصي والقيام بدور في إحداث التغيير، فانطلقت وبدأت بجهود بسيطة جدا، يقودها الشغف العميق والرغبة في إيصال رسالة صادقة إلى الآخرين، وإثراء المحتوى العربي.
وأطلقت لبنى الخميس في غضون أيام قليلة، أول حلقة وكانت هي فيها المقدم والمخرج والمعد، واليوم حازت المنصة الصوتية “أبجورة” وفي غضون شهور قليلة مليون مستمع، وكل حلقة يتراوح عدد المستمعين لها من 70 إلى 100 ألف مستمع في منصة “ساوندكلاود” وحدها، ناهيك عن منصة “البودكاست”.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق