تفجرت أشكال من العنف باسم الخلافة، كان أكثرها جهرا بسلوكه وأفكاره، تنظيم داعش، الذي أعجزته إكراهات الواقع، فنصب راية الخلافة المشؤومة والمزعومة على جراح بلدين عربيين.
الجمعة 2019/09/06
لا يزال طيف الإسلام السياسي رهينا إلى لحظته التأسيسية الأولى، بالأحرى إلى هشاشتها وضعف جدواها. اللحظة التي رأى فيها النور وانبعث من رماد آخر إمبراطوريات الخلافة بوصفها شكلا للحكم في المخيال الإسلامي، رغم أن آخر السلاطين العثمانيين، عبدالحميد الثاني، كان قد استدعاها من بطن الإهمال وابتعثها من جديد ليستثمر في طاقتها المعنوية لحماية سلطانه المتداعي وبث الروح في أطراف إمبراطوريته الآيلة إلى الزوال، بعد أن نحيت الخلافة كمعنى أخلاقي وشكل سياسي في خلال حكم العثمانيين، وتحولت في أواخرها إلى عملية “تتريك” عانى على إثرها العرب وسواهم من أتباع السلطان ورعاياه.
وعلى كل، شكّل سقوط الخلافة فجوة هائلة وألما قاسيا في نفوس المسلمين، والعرب على وجه الخصوص، بعد أن خذلتهم القوى الكبرى ونكثت بوعدها في منحهم الحق والدعم لإقامة كيان سياسي موحد ومستقل، الأمر الذي ضاعف من تبريح آلام سقوط الخلافة وطيّ صفحتها.
ولأن الولايات العربية ضمن التقسيم السلطاني للعثمانيين، بقيت بعد زوال الخلافة، نهبا لمشاريع الاستعمار، واستمرت تقاسي ظروفا معيشية صعبة ومعقدة، لم يكن الخروج من أحلام العودة إلى الخلافة والعيش تحت ظلالها، ممكنا ومقبولا.
وبقي الفكر الديني والسياسي إما معطلا عند تلك اللحظة المشوهة، أو منخرطا في مشاريع دولتية غير ناضجة ولا مكتملة، آلت في النهاية إلى أنصاف دول، حصّلت استقلالها بعد عقود من وهن قبضة المستعمر وزيادة تكاليف استمرار مشاريع الإمبريالية في الشرق الأوسط.
بقيت المشاعر المحتقنة تعتمل لدى المسلمين، كلما سجلت التجارب الفكرية والسياسية فشلا جديدا في حالة السياسة بالمنطقة، وتعاظم التأزم عقب حرب عام 1967 عندما ارتفعت الآمال بإصلاح حال العرب بمجرد فك الاحتلال عن الأراضي الفلسطينية وكسر شوكة القوى الدولية التي تمتطي المشروع الإسرائيلي لإعاقة تنمية ورفاه وتقدم الوطن العربي.
لكن تلك الآمال ارتدّت على عقبها، وأنتجت ظروفا عاصفة ومواتية لتنتج “الحل الإسلامي” الذي انشغل خلال كل تلك الفترة الماضية بالتأسيس لأيديولوجيته بين القواعد الشعبية، وما إن حلت نكسة 1967 حتى التقى “التبرير الخارجي” مع “التفسير الأيديولوجي” للجماعات الإسلاموية، وكانت لحظة مؤسسة ودافعة لظهورها إلى السطح، وهي تلقى كل الترحيب والتأييد من مجتمعات أعيتها الحيرة، وخذلتها المشاريع والأيديولوجيات الشرقية والغربية من دون جدوى.
الآن، وبعد مضي كل هذا الوقت منذ اللحظة التأسيسية لدعوة الإسلام السياسي، لا يبدو شيء من تلك الأحلام العريضة ولا الوعود الطوباوية قد وجد طريقه إلى التفعيل والنجاح والتحقق، فيما أريقت الكثير من الدماء وأزهق الكثير من الحبر لتوسيع نفوذ الإسلام السياسي بكل تنوعاته وأطيافه، من السلفية التنظيرية والتنظيمات الحركية والأحزاب المؤدلجة ابتداء، وحتى الميليشيات المقاتلة التي أثخنت في عدد من الخرائط العربية التي انكشفت لها حدودها وعاثت في ترابها الفساد والإفساد.
ولعل تجربة العدالة والتنمية في تركيا بقيادة زعيمها الأوحد رجب طيب أردوغان تؤشر بوضوح إلى العنت الذي يمكن أن تبلغه بلاد تفتح أبوابها لنفوذ الإسلاميين، وهو يجرّ البلاد إلى إعادة الروح إلى أحلام الخلافة البائدة، ويمدّ في عمر الأوهام المقوّضة منذ رحيل آخر سلاطين الإمبراطورية العثمانية يجر خيبة استجداء هذا المعنى لإسعاف سلطانه وهو في نزعه الأخير.
لقد تفجرت أشكال من العنف باسم الخلافة، كان أكثرها جهرا بسلوكه وأفكاره، تنظيم داعش، الذي أعجزته إكراهات الواقع، فنصب راية الخلافة المشؤومة والمزعومة على جراح بلدين عربيين، كانا في لحظة من التاريخ عاصمتين للخلافة الإسلامية.
استدعى التنظيم كل مفرداته ومفاهيمه من تلك اللحظة البائدة، تماما على نحو ما ورد في تاريخ عريض من أدبيات الإسلاميين التي بذلت الكثير من الحبر والفكر لتقيم هياكل الخلافة دون مراعاة أو مبالاة بشروط العصر وظروفه الموضوعية، وكانت نتيجة هذا المزج الهستيري تحتّم الوقوع في مزالق العنف والتطرف الذي استغرقت فيه الأمة، ولا يبدو أنها ستشفى قريبا من إنهاك العنف ولا تخرج من نفقه الطويل والمظلم.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق