مفاهيم ومصطلحات نسوية تعاني الاغتراب مما يبقيها في منطقة قابلة للتشكيك، والفراغ التوعوي بحقوق النساء ينجم عنه عدائية "عمياء" للنسوية.
الأحد 2019/09/15
يواجه الحراك النسوي الذي تديره المرأة الخليجية حتى تحظى بامتيازات تضاهي ما يحصل عليه الرجل ونظيراتها في العالم العربي، ضغوطا ونوعا من التشويش، إذ تقابل خطواتها الجادة للإصلاح بالرفض من قبل مجتمعاتها المحافظة.
أصبح مصطلح “النسوية” يتصاعد في الحراك الاجتماعي الخليجي، وهو مفهوم مشوش يطلق على الناشطات في مجال المطالبة بحقوق المرأة وتحسين ظروفها ورفع ما يعتبر ظلماً وجوراً ونقصاً في شروط حياة كريمة مستقلة، لكن في المقابل يواجه المصطلح والنشاط وما يتصل به من تفاعلات تهمة أنه دسيسة ماكرة تستهدف استقرار المجتمعات الخليجية التي تميزت بمحافظتها وأنه يعمل كاختراق خارجي يهدد هوية المجتمع وقيمه.
ومع ما تلقي به الأحداث المختلفة والقضايا المتصلة بالمرأة من مفاجآت على مواقع التواصل الاجتماعي، تزداد وتيرة النقاش حول مسألة النسوية ونتائجها على واقع المرأة الخليجية والعربية، لكن الجدل الذي يغلب على الحراك المجتمعي لا يعطي فرصة لاستيضاح المفهوم ولا يتناوله بهدوء وموضوعية ورويّة بعيداً عن تهم التخوين والتشكيك المزجاة.
حملات المطالبة بتحسين ظروف المرأة في واقعها العربي لا تخلو من صواب، وتشهد المرأة واحدة من أفضل مراحلها ازدهاراً ورفعاً لأغلال الماضي، وتخطو بقوة نحو المشاركة التنموية على الرغم من المعوقات الاجتماعية، بل تحتل عدة نساء مناصب عليا، ويحققن إنجازات علمية عالمية.
ورغم النوايا الحسنة وراء بناء تجمعات الضغط خلف شعارات مثل النسوية وسواها، ترفع الشحنات التعبوية التي تحتملها بعض تلك التوجهات من درجة التشويش على خطوات الإصلاح الجادة، وتستفز مجتمعات محافظة وتزيد من كلفة التغيير والتحديث.
تاريخ المصطلح والممارسة
انطلقت النسوية كحركة سياسية اجتماعية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حيث بدأت أول دعوة منظمة لحقوق المرأة في أميركا قبل بريطانيا بقليل بانعقاد مؤتمر “سينيكا فولز”، ومن خلاله ظهر اتجاه نحو تبلور خطاب نسوي لأول مرة.
وسميت الحقبة الأولى للنسوية وكان هدفها بسيطاً وهو إصدار قوانين لإعطاء المرأة حقوقها المشروعة، وفي 1920 توج نضال الحركة بالتعديل التاسع عشر في الدستور الأميركي الذي منح النساء حق التصويت.
في عام 1964 نشأت الحقبة الثانية التي قامت بالتركيز على أمور أوسع، كالتحيز الجنسي وحقوق الإنجاب والعنف الأسري، واستمرت حتى بداية التسعينات، ومن انتصاراتها صدور مجموعة من التشريعات لصالح المرأة.
وفي أوائل التسعينات نشأت الحقبة الثالثة تحت تأثير ما بعد الحداثة بتصحيح الأوضاع النسوية، وفي هذا الإطار شكلت الموجة الثالثة تحديًا من زاوية إعادة تعريف المفاهيم النسوية الأساسية التي جاءت بها الموجة الثانية.
أما عيوب الحقبة النسوية الثالثة فتتلخص في التشظي والانقسام، والرؤية الصراعية للعلاقة مع الرجل، وحملت شعار “أنا أنوي فعل ما أريد وأكون من أريد”.
رغم ما تتضمنه بعض شعارات الحركة النسوية من نوايا حسنة، ترفع الشحنات التعبوية درجة التشويش على خطوات الإصلاح الجادة وتستفز مجتمعات محافظة
بدأت إرهاصات الحركة النسوية في الخليج العربي مع بدايات الأربعينات الميلادية في الكويت وتلتها البحرين، وامتدت حتى وصلت إلى السعودية، وبالطبع سبقت إلى ذلك تونس وبلاد الشام ومصر، بمساهمة بعض التنويريين مثل رفاعة الطهطاوي وقاسم أمين، ورائدات الحركة النسائية مثل هدى شعراوي.
وفي حديثه عن النسوية بوصفها حراكا عالميا قديما، أكد الباحث السعودي وحيد الغامدي أنها في جوهرها ردّة فعل تاريخية تجاه التسلط الذكوري الذي كان طاغياً آنذاك، حيث كانت كافة الامتيازات -سواء الحقوقية أو المعنوية- للرجل دون المرأة، وكان لهذه السيادة أن تفرز شكلا من أشكال الثورة والتمرد، فكان الحراك النسوي.
ولا يختلف الجوهر كثيراً في السعودية والخليج، ولكن تجاه بعض القضايا التي بقي فيها الامتياز الذكوري ساطعاً تشكلت مجموعة من الأفكار بدأت تجذب جيلاً جديداً من الفتيات ممن هنّ دون سن الثلاثين غالباً. هذا الجيل عاش في أوج الخلاصة التربوية الذكورية التي تعطي للولد الصغير حق التحكم
في مصير أخته الكبرى الراشدة أو حتى أمه.
في مصير أخته الكبرى الراشدة أو حتى أمه.
تجاه هذا الوضع القائم، بدأت النسوية في المملكة تعبّر عن ذاتها، إلا أن الأهم الآن هو إعطاء تصور ممكن عن شكل العلاقة بين الجنسين مستقبلاً ومصير الحياة الزوجية وسط تعقيدات التجاذب بين وعيين وثقافتين، وعي أغلب الشباب الذين نشأوا وترعرعوا على حقائق الامتياز الجندري الذي يميزهم كذكور يمتلكون شكلاً من أشكال السلطة، ووعي جيل جديد وكاسح من الفتيات ممن يحملن القدر الذي لا يستهان به من التمرد النسوي. علينا أن نتخيل مستقبلاً مصير الحياة الزوجية وسط هذا التباين الشديد بين قطبي العلاقة.
حقوق تفاعلية وليست اتكالية
تقول الكاتبة الدكتورة فورية أبوخالد إن مصطلح النسوية يتعرض اليوم للأبلسة، وللأسف مِن بعض مَن استفادوا منه، ومِن بعض المحسوبين عليه، في مناخ لا تزال فيه المفاهيم والمصطلحات الحقوقية تعاني من الاغتراب، مما يبقيها في منطقة قابلة للتشكيك.
ويواجه فراغاً في مناح شتى، كالفراغ العلمي في مجال الدراسات النسوية نتيجة لموقف ملتبس من قضايا حقوق النساء التي يمثلها مصطلح النسوية، والفراغ التوعوي بحقوق النساء وما ينجم عنه من عدائية “عمياء” للنسوية، هذا إضافة إلى هوة هذا الفراغ بشكل مريع في المناهج التربوية وفي السلوك اليومي تجاه النساء، بما في ذلك موقف المرأة من نفسها، وموقف النساء من النساء، بما ينقصه من نظرة الاحترام لذات الأنثى كإنسانة راشدة عاقلة كاملة الأهلية وكاملة التكليف.
وفي المقابل ما الذي سيكسبه العالم لو دخلت أنثوية النساء على قدم المساواة مجالات الفكر والعلم والفلسفة والفقه ومجالات صنع القرارات ومجرى الحياة العامة ككل ومسؤولية صنع السلام؟
ما الذي ينقصنا لفهم النسوية كمصطلح علمي وكحركة اجتماعية وكأسلوب حياة، يضم النساء والرجال من أجل فاعلية الجميع، ورفعة شأن الأوطان محليًّا وعربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا؟
لا نسوية حقيقية في الخليج
نفت الكاتبة رائدة السبع وجود حركة نسوية حقيقية في السعودية والخليج، مشيرة إلى أن هناك نساء يرفضن رفع الاضطهاد، فالاعتياد يخلق أُلفة بالنسبة إليهن.
تقول “نعم هناك شخصيات نسوية حقيقية، لكنها إما لا تتصدر المشهد وليست فاعلة في الشأن العام أو موجودة في المجال الحقوقي بأعداد قليلة أو أنها اعتبرت مخالفة لأنظمة وقوانين المملكة المنصوص عليها”.
وتضيف “لو كانت هناك حركة نسوية حقيقية فأين هي من "تشييء" المرأة وأين هن من الإنتاج الفني الذي وضعهن في صورة تافهة وساذجة تدور حول الرجل في عملية برمجة كاملة للعقول؟ وأين النسويات من المناهج التعليمية التي تكرس احتقار المرأة ليحمل ذلك جيل بعد جيل؟ وأين هن من المناهج اللغوية كاللغة العربية والإنكليزية اللتين وضعتا المرأة في صورة نمطية، الأم كعاملة في المنزل فقط والبنت كمساعدة لها، في حين تصوران الأب والابن كعاملين خارج المنزل دون اعتبار لمبدأ المشاركة والدور الفاعل للجنسين داخل المنزل وخارجه. هذا إضافة إلى الميراث في قانون الأحوال الشخصية، وعدم التساوي في فرص العمل وغيرها؟ ماذا فعلن في مواجهة العنف المنزلي المستشري الذي معظم ضحاياه من النساء حسب الإحصائيات المرعبة؟ أيضاً غفلن عن توعية المجتمع”.
وتردف عن بروز الحركة النسوية على مواقع التواصل الاجتماعي وحمى النقاشات حول الصورة النمطية للمرأة النسوية “تلك الغاضبة وبدلًا من مناقشة أصول الغضب والكراهية لدى بعض النسويات، يقع عليهن عبء إثبات أنهن لسن جميعًا كذلك، ويحاولن تجاوز الكثير من الإشارات الجندرية حتى لا يقال إنهن غاضبات على الدوام وحساسات، في محاولة لنفي الصورة السائدة وفي إنكار تام لمشروعية مشاعرهن”.
تخضع المرأة في الخليج لتحديد اختياراتها وخسارة الكثير من سنوات عمرها مما يجعلها نصف مواطن، فتمكينها من إتمام أمورها الحياتية بنفسها هو اعتبارٌ لكمال أهليتها، فلا يجوز أن تخضع النساء لضربة الحظ، إذا كنتِ محظوظة بما فيه الكفاية ستحصلين على ولي أمر متفهم يمكِّنكِ من ممارسة حياتكِ الطبيعية واتخاذ قراراتكِ بنفسك، لكن لو لم يحالفكِ الحظ وجئتِ نتيجةً لبذرة زرعها ولي أمر ظالم، فلن تكون لديكِ الفرص التي يحصل عليها الآخرون من الذكور، أو الأخريات المحظوظات.
لا تنال المرأة الخليجية الفرص ذاتها التي يحصل عليها الرجل، فهي، اجتماعيًّا وقانونيًّا، تخضع لولاية تحدد اختياراتها تبعًا لرغبات أشخاص آخرين لا رغباتها الشخصية، إذ هناك بعض القوانين التي ما زالت تحت الدراسة كتصريح السفر على سبيل المثال.
نعم يجب أن تمتلك النساء الحق ويتم إصدار قوانين تحميهن من التعسف والعنف والقمع، وأن يكون لهن صوت متزن مسؤول، لا أن يكون صوتًا نشازًا ويتهمهن بالاضطراب أو الإرهاب.
ويختم الباحث الغامدي بالقول “لا مفر من جريان سنن التاريخ، لقد أكدت في مرات سابقة أن نسب الطلاق ستزداد بوتيرة أسرع من ذي قبل، إن الثمن في أي مجتمع تختلّ فيه الموازين الحقوقية والمعايير الثقافية في توزيع المكانة الإنسانية وتفصيل محدداتها بحسب النوع، ستدفعه الأجيال اللاحقة، وعلى شكل انهيارات واسعة لمؤسسة الأسرة. أقول ذلك وأنا أتمنى أن يخيب تصوري”.
ليس هناك من حل متخيل، ولكن يمكن تحديث الأنظمة والقوانين بحيث تتوخى إنصاف الأنثى في التشريعات وتنظيم العلاقات البينية، وكذلك التصحيح الفوري لمناهج التعليم بحيث تعيد صياغة الوعي بالمرأة وفق فهم حقوقي ومعاصر، وكذلك دخول رجال الدين المستنيرين على الخط وتصحيح الأفكار القديمة، يمكن لكل ذلك أن يساهم في امتصاص وتخفيف آثار هذه الفجوة الواضحة بين الجنسين، كما يمكنه حل الكثير من الإشكالات العالقة في رسم تصورات العلاقة الأسرية ومنح الثقة وإشاعة روح الوئام الأسري الذي بدوره سينتج أشخاصاً أكثر تهيئة لبناء أسر مستقرة هي الأخرى.
الرابط :
تعليقات
إرسال تعليق